15 نوفمبر، 2024 12:42 م
Search
Close this search box.

ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم

ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم

المناهج التي تجمع بين الضوابط الفعلية للأحكام وبين المقررات الأولية للإفتاء لا تختلف مقتضياتها عن الرجوع إلى سعة الفهم التي لا تبتعد مضامينها عن مجاراة ما يستجد من أحداث، أوما يجانبها من العمليات التي لا تخضع للتبديل، إلا أن الفرق الظاهر في الأسس التي تبنى عليها المواد التي تتأرجح بين الطرفين يُرد إلى إصدار الأحكام في القضايا المحددة التي لا تتأخر من حيث التنفيذ المباشر، وإن شئت فقل تلك التي لا يراعى فيها النظر إلى شروط الاجتهاد المتعارف عليها، وهذا ما يُلاحظ من خلال اقتصار الحكم على عدم الخروج عن القانون الموضوع له والذي يمكن تطبيقه على من يصدر الحكم بحقه وفق الشروط المتفق عليها، علماً أن هذا العمل لا بد أن يكون مستمداً من المنهج المعد سلفاً والذي يحتوي على جميع المواد المختصة بهذا الشأن، وهذه هي النقطة التي تفترق فيها الأحكام عن الطرق المؤدية إلى الإفتاء، باعتبار أن الكبرى تكون شروطها أكثر احتواءً للمفهوم العام الذي يجري فيه الحكم على وضع المواد القانونية في مواضعها مع التصديق على عدم خروج تلك المواد عن الحدود الشرعية فتأمل ذلك بلطف.

وبناءً على معرفة الوسائل الموضوعة لهذه الأسس يمكن إرجاع مقرراتها إلى قاعدة لا تجانب الأطر المنهجية التي تسيّرها، أما في حال تجردها عن تلك الأطر فلا بد أن ترتكز على منهج آخر يقوم مقام المنهج الذي شرعه الله تعالى، وهذا ما يجعل الأمر مقيداً داخل حدود التناقضات الدينية التي اعتمدت من قبل علماء الفتنة الذين خضعوا للتعاليم الشيطانية والأوامر النفسية، حتى كادت أن تكون الشريعة الخاصة بهم أقرب إلى الأوهام التي تُحدد من قبل أناس هم أبعد ما يكون عن المهمة التي رسمها الشارع وأجرى عليها القوانين المثالية التي أخرجها هؤلاء الناس عن أصولها وجعلوا لها شروطاً لا تجتمع مع منهج الحق ثم قالوا هذه من عند الله، ولهذا اختلفت المصاديق حتى أصبح أتباع هؤلاء ينظرون إلى الاعتداء غير المبرر وكأنه جهاداً مقدساً، وإلى سفك الدماء وكأنه مقصد من مقاصد الشريعة التي أنزلها الله تعالى وهلم جراً.

وعند تأمل هذا الأمر نجد أن له جذوراً ضاربة في أفكار ما يسمى بالعلماء أو الفقهاء الذين يُحسبون ظاهراً على الدين، ولهذا ظن المغفلون أن هؤلاء هم الذين يجب أن يُعتمد عليهم في تنفيذ المهمات التي تصل بهم إلى رضا الله تعالى، أو بتعبير آخر يمكن القول إن هذا الجهل ناتج عن أسباب يعلمها المبتدعون لها دون الأتباع أو المغرر بهم الذين ائتمروا بأوامر وتوجيهات القوى الشيطانية التي بنيت على أسس ودراسات منهجية، ولا يخفى على المتأمل من أن تأثير هذا العمل قد عمَّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّ العالم بأجمعه ومن المؤسف له أن نرى صمت العلماء وتجاهلهم لما يحدث، وأنت خبير من أن هذا الصمت يعتبر بمنزلة التأييد الضمني لما يجري على هذه الأرض.

وعند الرجوع إلى التأريخ نجد أن كثيراً من الملابسات الفعلية التي كان المشركون يجرون عليها أعمالهم قد لا تختلف مقوماتها عن المنهج الطارئ الذي بدأنا حديثنا فيه، وكأن ملة الكفر واحدة من حيث اجتماع متطلباتها مع الأفكار التي وصل إليها علماء الفتنة في وقتنا الحاضر، وهذا ما يُفهم من متفرقات القرآن الكريم التي تتضمن كثيراً من الأمثلة التي توحي إلى تقارب المواقف والأفعال بين الأسلاف وبين ما يجري على أخلافهم، ويمكن معرفة ذلك من خلال المصاديق التي تتأرجح بين التركيز على قلب الحقائق والخروج بها إلى تكاليف غير مجزية من جهة، وبين الحفاظ على نشر ما حرم الله تعالى من جهة أخرى بغض النظر عن الالتزام بالاتجاهات التي جعلوها خاضعة إلى مُسبب واحدٍ تُرد إليه أحكامها زوراً وبهتاناً إضافة إلى الجرائم التي لا تجانب المنهج المقرر لأفعالهم، علماً أن هذه المقتضيات لا تخرج عن الحدود المنسلة عن الشركاء الذين أشار إليهم القرآن الكريم في كثير من مواضعه ليُبيّن مدى التوافق بين الأحكام التي اتفق عليها علماء الفتنة وبين المجريات الراسخة لدى أسلافهم من المشركين كما قدمت، ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في قوله تعالى: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون) الأنعام 137.

والآية الكريمة تشير إلى إحدى العادات السيئة التي تتفرع عليها مجموعة من الجرائم التي تخضع إلى مفهوم واحد يتمثل في القتل غير المشروع على الرغم من اختلاف مصاديقه في مواضع أخرى، إلا أن هذا الموضع لا يتمثل إلا في مسمى الإيمان الخاص بهم والذي يجري حسب اعتقادهم أو التزامهم الديني الذي تتفرع عليه أقصى درجات العبادة، ولهذا تراهم يجعلون أولادهم بمنزلة القربان الذي يقدم لأصنامهم، ومن هنا يظهر أن هذا العمل يرجع إلى مدى حبهم لتلك الأصنام التي يظنون أنها تقربهم إلى الله زلفى، وقد بيّن الله تعالى هذا المعنى بقوله: (ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار) الزمر 3.

وعند إرجاع منطوق الآية آنفة الذكر إلى مفهوم آية البحث، يظهر أن القائمين على هذا النهج هم زعماء الفتنة الذين يُسيّرون أتباعهم على الطريقة التي تناسب أفكارهم على الرغم من اختلاف الوسائل التي يصلون من خلالها إلى منهجهم الذي أشرنا إليه في طرحنا، ومن هنا يتضح أن الزعماء هم الذين وصفتهم آية البحث بالشركاء، ولا يمكن أن يكون هؤلاء من المغفلين، ولكن المصالح الخاصة بهم كان لها الدور الأكبر في التسبب بخلق الأعذار، إضافة إلى إدخال الأمور بعضها مع بعض لتحسب من الدين أو المعتقد الذي يُضلون به من سار على نهجهم، وهذا ما يُفهم من قوله تعالى: (ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم) الأنعام 137. فإن قيل: يظهر من قوله تعالى: (ولو شاء الله ما فعلوه) الأنعام 137. إن هذا الفعل قد تم برضا الله تعالى؟ أقول: تذييل الآية بهذا الإلزام لا يعني أن الله تعالى أراد مطابقة حكمه مع جرائم هؤلاء، وإنما يريد سبحانه أن تجري سنته في الخلق دون إكراه من جهة، ومن جهة أخرى جعل هذا البيان بمنزلة التوبيخ لهم.

والمتأمل في متفرقات القرآن الكريم يلاحظ أن المشيئة الإلهية ظاهرة في جميع أفعال الإنسان، لأجل أن يُبيّن الله تعالى أن الاختيار لا يمكن أن يطغى على أفعال المكلفين دون الرجوع إلى مشيئته سبحانه، وعلى الرغم من ابتعاد هذا المعنى عن الجبر الذي ينزه عنه الحق جل شأنه، إلا أن مجرياته أخذت هذا النهج

لأجل أن لا تخرج الإرادة عن الوسطية التي شرعها سبحانه وأشار إليها في كثير من الآيات كقوله: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) الأنعام 111. وكذا قوله: (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً) الإنسان 30. وقريب منه التكوير 29. وكذلك قوله تعالى: (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً***إلا أن يشاء الله) الكهف 23-24. وقوله: (قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله) الأنعام 128. ويمكن توجيه هذه المشيئة في آيات أكثر إيضاحاً للمعنى الذي أشرنا إليه، كما في قوله تعالى: (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق***خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد) هود 106-107. وكما مر عليك من سياق الآيات أن هذا الأمر على بابه، إلا أن الله تعالى قد جعل الخلود في الجنة مقيّداً بالمشيئة أيضاً، وإن كان ذلك لا يقبل اللبس، ولهذا قال: (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاءً غير مجذوذ) هود 108. والنكتة ظاهرة في تذييل الآية بقوله: (عطاءً غير مجذوذ) هود 108. فتأمل.

هذا ما لدينا وللمفسرين في آية البحث آراء:

الرأي الأول: قال الطوسي في التبيان: قرأ ابن عامر وحده: (زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم) بضم الزاي، ونصب (الأولاد) وخفض (شركائهم) الباقون بفتح الزاي (قتل) مفتوح اللام (أولادهم) بجر الدال (شركاؤهم) بالرفع بالتزيين. فوجه قراءة ابن عامر أنه فرق بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، والتقدير: قتل شركاؤهم أولادهم، وشركاؤهم فاعل القتل، وإنما جر بالإضافة، ومن أضاف القتل إلى الأولاد في القراءة الأخرى يكون الأولاد في موضع النصب، وهو مفعول به بالقتل، وأنشدوا فيه بيتاً على الشذوذ أنشده بعض الحجازيين، ذكره أبو الحسن:

فزججتها بمزجة… زج القلوص أبي مزاده

وذلك لا يجوز عند أكثر النحويين، لأن القراءة لا يجوز حملها على الشاذ القبيح، ولأنه إذا ضعف الفصل بالظرف حتى لم يجز إلا في ضرورة الشعر، كقول الشاعر:

كما خط الكتاب بكف يوما… يهودي يقارب أو يزيل

فإن لا يجوز في المفعول به أجدر، ولم يكن بعد الضعف إلا الامتناع، وقيل إنما حمل ابن عامر على هذه القراءة إنه وجد (شركائهم) في مصاحف أهل الشام بالياء لا بالواو، وهذا لا يجوز فيه قتل أولادهم شركائهم على إيقاع الشرك للأولاد، يعني شركائهم في النعم وفي النسب وفي الأولاد، ولو قيل أيضاً زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم على ذكر الفاعل بعد ما ذكر الفعل على طريقة ما لم يسم فاعله جاز كما قال الشاعر:

ليبك يزيد ضارع لخصومة… ومختبط مما تطيح الطوائح

أي ليبكه ضارع، ومثله: (يسبح له فيها بالغدو والآصال***رجال) النور 36-37. وتقديره كأنه لما قال: (زين لكثير من المشركين قتل أولادهم) قال قائل من زينه؟ قيل: زينه شركاؤهم. وقال الفراء: تكون (شركاؤهم) على لغة من قال في عشا عشاي، كما قال الشاعر:

إذا الثريا طلعت عشايا… فبع لراعي غنم كسايا

وأبو العباس يأبى هذا البيت، ويقول الرواية الصحيحة بالهمزة. انتهى.

ومن أراد ما تبقى من رأي الطوسي فليراجع تفسير التبيان.

الرأي الثاني: يقول الالوسي في روح المعاني: (وكذلك) أي ومثل ذلك التزيين هو تزيين الشرك في قسمة القربان من الحرث والأنعام بين الله تعالى وبين شركائهم، أو مثل ذلك التزيين البليغ المعهود من الشياطين (زين لكثير من المشركين) أي: مشركي العرب (قتل أولادهم) فكانوا يئدون البنات الصغار بأن يدفنونهن أحياء، وكانوا في ذلك على ما قيل فريقين: أحدهما يقول: إن الملائكة بنات الله سبحانه، فألحقوا البنات بالله تعالى فهو أحق بها، والآخر يقتلهن خشية الإنفاق، وقيل: خشية ذلك والعار، وهو المروي عن الحسن وجماعة. انتهى موضع الحاجة من كلامه.

ومن أراد ما تبقى من رأيه فليراجع تفسير روح المعاني.

*[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات