وقف الجميع وقفة رهبة من الموت، الموت الذي صار كالصياد في بلادنا، يصطاد كل يوم، في الاسواق والمساجد والحدائق ومجالس العزاء، في كل مكان، حتى ملأتنا الخشية ان الموت يتربص بنا فقط في العراق، وشغل عن الارض الباقية، الامر غريب ويحتاج الى اكثر من الولوج الى الغيبيات وقضية المنايا، وان هذا مكتوب له ان يموت اليوم وذلك غدا، ألم يكتب الله الموت على الناس الذين يعيشون في اوربا، تكاد نسب الموت هناك بين الاطفال ان تكون منعدمة، وكذلك بين الشباب، في حين صارت مقبرة النجف في العراق معرضا للصور الفوتوغرافية لشباب بعمر الورود،
وكأن ملك الموت يرى العراق فقط واستجاب لدعوات حفاري القبور في قصيدة السياب، فلم يعد يحفل بجثث الموتى يدسهن في كل مكان، ويجلب شواهد القبور حاضرة فقط يضع الاسماء بعملية بسيطة جدا، وصار حفارو القبور يضعون اللافتات وربما وصل الامر ببعضهم الى الاعلان عن طريقة الدفن.كان وسط المصلين بربطة العنق السوداء، الجميع يهابه فهو سيد من نسل رسول الله، قدموه للصلاة على الميت، فاحتج بان قلبه لايطاوعه على الصلاة على احمد المهندس الكفوء، فقد كان مثالا للموظف النزيه الذي وقف بوجه الجميع وحارب شبهات الفساد في دائرته، وحافظ على المال العام ايما محافظة، هذا السيد الجليل راح يعدد آلاء الميت واخلاقه العالية، وانه خسره كما خسرته دائرته اكثر من اهله، وقف الى جانبي احد الموظفين، المرحوم لم يكن منتميا الى اي حزب، وكان يحارب بمفرده،
بينما هذا السيد ينتمي الى حزب مقتدر يحميه مع سرقاته الكبيرة، قلت له لنحترم هذه الوقفة، ودعنا من الحديث الآن، فقال: اردت ان اوضح لك الامر، حتى لاتدعه يصلي على جثة المرحوم، اغرورقت عيناي بالدموع، كم نصحتك ياحبيبي، لماذا وقفت بوجه هؤلاء، انهم يبكون لموتك بدموع الفرح والشماتة، لماذا اعطيتهم الفرصة، انبعث صوت السيد من جديد: لقد كان مثالا للاخلاق الكبيرة واليد النظيفة، سلمت البطن التي انجبته، والايدي التي ربته، هذه العائلة الكريمة انجبت انسانا يكاد يكون شبيها بالملائكة.وعاد الى البكاء ثانية وهو يقول: انا من خسرته ، ليست عائلته من خسرته، لقد ذهب الى ربه نقيا، غمزني الواقف قربي، لن اتحمل هذا النفاق، ساصرخ باعلى صوتي وليكن مايكون، قلت اصبر قليلا، المكان ليس مناسبا لهذا الكلام، لقد فاض صبري ولم استطع السكوت،
عليّ ان افضح هذا المنافق، استأذن من السيد المعمم الذي يريد الصلاة على الميت، واستسمح عائلة الفقيد واصدقائه، في بضع كلمات، فقال : هل سمع احدكم بقصة الدب والثعلب، فاجابوا بالنفي، وقف دب يباهي بحبه للخير، وانه اكثر الحيوانات شفقة ورحمة بالانسان، وانه يضمر له اعظم الاحترام، ودليله على ذلك انه لايقرب جثته اذا مات، فسمع ثعلب هذا الكلام، فقال للدب مبتسماً:ليتك اكلته ميتاً وتركته حيّاً، واعاد الرجل الجملة باعلى صوته وراح يكررها، وذوو الفقيد يترجونه ان المكان غير مناسب، وانهم فهموا مايريد ان يقول: انسحب السيد ذو الربطة السوداء، وهو يردد لم آكله انا، هو من اكل نفسه.