23 ديسمبر، 2024 9:21 ص

ليبدأ الانسان الاصلاح من نفسه أولا…

ليبدأ الانسان الاصلاح من نفسه أولا…

مدع الاصلاح كالمخنث الذي يدعي الرجولة 
الإصلاح لغة نقيض الإفساد (لسان العرب والصحاح) والصلاح ضد الفساد، يقال رجل صالح في نفسه من قوم صلحاء، ومصلح في أعماله وأموره، ويقول الراغب في المفردات (الصلح يختص بإزالة النفار بين الناس، وإصلاح الله تعالى الإنسان يكون تارة بخلقه إياه صالحا، وتارة بإزالة ما فيه من فساد بعد وجوده، وتارة يكون بالحكم له بالصلاح).
أما الإصلاح اصطلاحا فقد ورد بعدة معاني منها: ما يقابل الفساد ﴿وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾. (الأعراف: 56 ) وما يقابل السيئة ﴿خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا﴾. ( التوبة : 102) وتوفيقَ الله لعباده لعمل الصَّالحات ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾. (الأحزاب: 71).فالإصلاح كلمة جميلة تستهوي القلوب وتتطلع اليها النفوس وهي تدعو الناس إلى تحقيقها والعيش في ظلها، ولكن تطبيقها على الواقع العملي بحاجة إلى إرادة وتصميم وعمل دوؤب ومتواصل وجهاد مستمر حتى يدخل الاصلاح في كل بيت ويصلح كل فرد.
ولكي تتضح أبعاد هذه الحقيقة لابد من التطرق في أهم المجالات التي تحدث عنها القرآن الكريم في نطاق الهداية والإصلاح، فعلى صعيد (الإصلاح الفردي) تحدث القرآن عن ذلك بكل تفصيل لأن هدف الرسالات الإلهية هو اصلاح الإنسان وتربية هذا المخلوق الذي شملته العناية الإلهية منذ خلقته (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا). (الإسراء: 70) فليس غريبا ان يبدأ الاصلاح بخصوص الإنسان كفرد وهذه ميزة الرسالات الإلهية عن بقية المناهج البشرية، فالإنسان له قيمة أساسية بنظر السماء، ومن أجله خلق الله الكون وسخر له الشمس والقمر وسخر له كل شيء، بقي أن نتعرف على موقف الانسان من هذا التسخير الإلهي هل هو موقف شكر وامتنان أم موقف كفر وعصيان؟! إنها خصلة متجذرة في النفوس الحرة الأبية (ان الانسان عبيد الاحسان) وكلما كانت النعم كثيرة ومتعاظمة كلما كانت موجبات الشكر متعاظمة كذلك، فما بالك بنعم الله التي لا تعد ولا تحصى، فإنه مهما بالغنا من الشكر والثناء له فإننا لا نفي بمقدار حبة من خردل لما نتمتع به من نعم جمة، وأول محطة للإصلاح هو شكر المنعم الذي يدفع باتجاه التذلل والخضوع للخالق المتعال وذلك باتباع أوامره واجتناب نواهيه، هذا هو الاصلاح في أشد حالاته أن يكون الانسان منساقا لتعاليم السماء، المصلحة لحاله نحو الأحسن، والهادية إلى طريق الفلاح من أوسع أبوابه.
وعلى عكس المناهج المادية نجد ان القرآن بمنهجه السماوي أعطى للإنسان بحد ذاته قيمة معنوية عالية حيث جعله الله خليفته في الأرض (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ). (البقرة: 30) جعل الانسان خليفة الله في الأرض لم يكن اعتباطا بل لما فيه من موجبات الكمال والصلاح ما يؤهله للقيام بأمر الخلافة بأحسن وجه، وهذا ما أكد الله تعالى عليه حينما قال للملائكة (اني اعلم ما لا تعلمون) رافضا اعتراضهم على خلافة الانسان حينما نظروا اليه من خلال نوازع الشرور التي في داخله ومنها الإفساد واراقة الدماء، بيد ان العاقبة دائما وابدا للتقوى وللمتقين الذين تتغلب فيهم نوازع الإصلاح على نوازع الإفساد. 
ومن أجله أمر الله ملائكته بالمحافظة عليه (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ). (الرعد: 11) ومن أجله أطلق الله له العنان ان يفعل ما يشاء في الأرض لرفاهيته وسعادته، ولكن حذره من ان يستغل هذه الإمكانيات في الظلم والفساد (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ). (الأعراف: 56) والمحسن ديدنه الخير، تجده حيثما تجد الخير والمعروف، ولا غرابة ان ترى رحمة الله تنهمر على المحسن الذي اوقف حياته رهنا لإسعاد بني جلدته، وهذا ما يؤسس إلى تكوين حالة التكافل والتكامل الاجتماعي في الأمة، وتقريب الهوة بين الفقراء والأغنياء مما يقضي على بؤر الفقر والفساد والجريمة التي نهانا الله عنها، لأنها مخالفة لتعاليم السماء ومتناقضة لما عليها فطرة الانسان الصافية التي تنهل من ينابيع المودة الإلهية، وكلما ابتعد الإنسان عن تلك الينابيع قسى قلبه وكثرت خطاياه، ولكيلا ينجرف اكثر فاكثر الى مهاوي السقوط، فإن الله تعالى دعاه الى حياضه المترعة بالتوبة والانابة لعله يغترف من معينه النابض ليكون من المحسنين.  
وعلى نطاق الاصلاح الفردي جاهد القرآن الكريم على تحرير أفكاره وعقائده من خرافات الجاهلية وبراثن الوثنية ومن عبادة الأصنام والأشخاص إلى عبادة الله الواحد القهار (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ). (النحل: 36) وهذه الخطوة الأولى من خطوات الاصلاح الجوهرية ان تحطم اغلال الجبت والطاغوت وتعيش حرا كريما أبيا، ولا يكون ذلك الا من خلال الخروج من عبودية الأصنام الحجرية والبشرية والمادية الى عبودية الواحد الأحد، وان العبودية لله تعالى هي الحرية الكاملة والعيش الآمن المستقر الذي لا يهاب أحدا في الحق إلا الله، لأنه الخير المحض والحق المطلق الذي يريد الاصلاح لعباده ضمن منظومة الدولة الكريمة القائمة على أساس الحق والعدل، والمناهضة لما هو مكنون في الطواغيت من الظلم والتعسف والفساد والإذلال.
بعد كل هذه الاصلاحات التي تواخاها القران للإنسان ليس اقلها التكريم والخلافة وعبادة الله تعالى والكفر بالطاغوت، هل التزم السياسي في العراق بهذه المفردات وهو يطرح مفردة الاصلاح بين الفينة والأخرى، لاسيما بعد ان انكشف المحذور وبان المستور وازكمت الأنوف من الآفات والشرور؟! انه ومع بالغ الأسف لم يقم بإصلاح نفسه بالأمور الآنفة الذكر، بل زاد الطين بلة في تمعنه بالفساد ولكن بغطاء من الاصلاح المفضوح، وهل يرتجى اصلاح من مفسدين؟! بل من سياسيين انغمسوا بالفساد من مقدم رؤوسهم حتى أخمص أقدامهم! فادعائهم الإصلاح كالمخنث الذي يدعي الرجولة، وهو بذلك يكون مصداقا للمثل العربي القائل: (استونق الجمل) وما يصدر من أوراق اصلاحية من هنا وهناك من هذه الوجوه الكالحة التي دمرت العباد والبلاد ما هو إلا ايغال بالفساد وترتيب لأوراق محروقة باتت تسوق نفسها مرة اخرى لعلها تتسلق مرة أخرى بعباءات جديدة، ولكنها هي نفسها تلك الذوات الشريرة التي تحمل طابع الاستيناق، وليس الاستجمال الذي نتوخاه جميعا.