لا أدري كيف دخلت كلمة (فقير) في لهجتنا العامّية ، للدلالة على الشخص الهادئ والكيّس وغير المتهوّر والمتأني ، وبالتأكيد انها لا تعني الفقر للدلالة على ضيق ذات اليد ، ولا أعرف ربطا بين هذه الكلمة ، وحال الشخص الموصوف ، تطلقهذه التسمية أيضا على الشخص المنزوي والقليل الأندماج في أحاديث الناس ، وصاحب الصوت المنخفض ، ولعمري ان كل هذه الصفات حميدة ، فلماذا هذا (الفقر) أذن ؟ ، هل هذا جزء من ثقافتنا التي تحتاج الى كثير من التشذيب ؟ ، فليس كل ما شببنا عليه يعد تراثا .
على كل حال ، فموضوعي لا يشمل هذا (الفقير) ، أنما الفقر كظاهرة خطيرة ، السلاح الفتّاك الذي طالما أستخدمه الطغاة والمستعمرون ، لتركيع الناس وركوبهم واستعبادهم ، سلاح لا يرحم ولا يصمد أمامه أعتى الأحرار ، هو رأس الكفر وكل رذيلة ، هو أفة الأفات التي تدمر كرامة الأنسان ، الفقر جوهر الظلم وضياع العدالة والحقوق ، هو الذي يحيل الحياة الى جحيم ، والا فأن أول ما انتبه اليه المصلحون وبناة المجتمع العظام كعلي ابن ابي طالب (ع) ، وابو ذر (رض) ، هو الفقر ، ومن المعيب ، بل من العار على الأنسانية ، أن يتفشى الفقر ، ليلتهم أكثر من نصف سكان الأرض .
قال علي (ع) مقولته المجلجلة وكأنها تسفع كل الضمائر النائمة بالنار : ( لو كان الفقر رجلا ، لقتلته ) ، وقال ايضا ( ما جاع فقير الا وبما مُتّع به غني) ، فياله من أصدق وأدق كلام من هذا الرجل العظيم !.
وقال ابو ذر (رض) : (اذا دخل الفقر مدينةً ، قال له الكفرُ خذني معك) ،وظهر التكافل الذي لا زالت تتبناه كل المجتمعات الراقية .
(الأمير والفقير) ، رواية شهيرة وشيقة لـ (مارك توين) ، تبين لنا بحكمة وتشويق ، كيف ان عالمين (سفلي وعلوي) ، ينقلبان رأسا على عقب عندما يتبادلان الأماكن ، وكي أكون أكثر واقعية ، بل أكثر طوباوية كوني أحلم بعالم بلا أمراء ، لأنهم أحد اسباب الفقر الرئيسية ، سأتحدث عن (الغني والفقير) .
لو كنتَ فقيرا عاشقا ، فستهدي محبوبتك باقة ورد ذابلة بعد أن أعيتها مواصلات العالم السفلي .
مقابلك غني عاشق ، يهدي حبيبته (بالأحرى خليلته) ، عقد من الماس ، أي منهن ستنبهر أكثر ؟ ، كاذبة تلك الفتاة التي تفضل باقة الورد على عقد الماس، ففتاة من هذا الطراز قد ولّى مع زمن المعجزات.
لو كنتَ فقيرا لكن نابغة ، فستوأد كل مواهبك بسبب زلة صغيرة في الامتحانات الوزارية ، لن يغفرها لك الدهر لأنك فقير لا تملك مصاريف التدريس الخصوصي (أو شراء الأسئلة) ، مقابلك ولد نزق يحرز معدلا عاليا لأنه اشترى الأسئلة الوزارية (بدفتر) أو أكثر ،أو لأن تحت يده جيش من المدرسين ممن يعرفون أحابيل وأسرار الأمتحانات الوزارية ، وحتى اذا لم يحرز معدلا عاليا ، فكليات طب الأسنان والصيدلة الأهلية ، مشرعة الأبواب أمامه لكن ليست أمامك ، هكذا صار العلم عندنا يكيّل (بالبيتنجان) ، على رأي فناننا (عادل أمام) !.
لو كنتُ فقيرا لا تستطيع أن تتصدق ، فأنت أمام الناس (لكن ليس أمام الله) ، ممن لا يتقي النار (بشق تمرة) ، مقابلك غني يتصدق ويتزكّى بسخاء، سيكون قدّيسا أمام الناس،لكن ليس أمام الله أيضا ، الفقير ليس لديه وقت فراغ ليمارس هواية ما ، أو ينشغل ببحث ما ، كل ما يملك سوى الخواء الذي يتأكله ، والخواء ليس كوقت الفراغ ، الذي يعطي فرصا للأفكار والتأمل والتدبر ، الخواء كالوحش ، يفترس كل ما يمكن أن ينتجه الفقير وهو في مهده ، كالمرابي الذي يبتز ويستهلك ، الغني يكسب ماله بلا تعب ، والفقير عمله شاق ،لكن عقيم .
لو كنتَ فقيرا ، فأنك لن تستطيع دفع مصاريف طبيب الأسنان الهائلة ، وستقضي حياتك وأنت تخفي ابتسامتك ، وتَزُمّ شفتيك وانت تتحدث الى الناس ، حتى لا تظهر اسنانك المشوّهة ، لأنك لم تدفع تكاليف تقويمها.
لو كنتَ فقيرا ، والمّ بك المرض ، فستشتري دواءا بسعر 2000 دينار ، لا يؤدي مفعوله ، والغني سيشتري نفس الدواء بسعر 40000 دينار ، وبمفعول سحري ، سبحان الله .
لو كنتَ فقيرا ، وانت تقود سيارتك المتواضعة ، فسيقول لك جندي السيطرة (اطبـگك) ، وسيؤدي (تعظيم سلام) لذوي سيارات الدفع الرباعي .
أعرف طبيبا ، يجري يوميا 7 عمليات سحب الماء الأسود من العين مقابل مليون دينار فقط لا غير للعملية الواحدة ، هذا في الدوام الصباحي ، وفي الدوام المسائي في العيادة ، يكشف على 70 حالة !، وأعرف عاملا يحفر بالصخر والكونكريت ، تنضح أظافره دما ، مقابل 30 ألف دينار في اليوم ، هذا اذا كان موفقا في (المسطر)!.
لن تهنأ ايها الفقير براحة البال ، ولن تخلع عنك ثوب الفقر طالما تحلق حولك السراق والطماعون ، الفقراء أحباب الله ، لكنهم ليسوا أحباب (أصحاب الشأن) ، فأصحاب الشأن هؤلاء ، لو تحلوا بالنزر اليسير ، اليسير جدا ، من أخلاق الامام (علي) ، الوحيد الذي اختار الفقر طواعية طوال حياته ، ما كنتَ فقيرا أصلا !.