22 نوفمبر، 2024 5:42 م
Search
Close this search box.

لورنس العرب، المتسلل الشؤوم او السلوقي القاتل

لورنس العرب، المتسلل الشؤوم او السلوقي القاتل

منذ وفاته في العام 1935، ولورنس العرب يبدو غامضاً. زوايا كثيرة من حياته لم تسلط الاضواء عليها. فهل هو فعلاً الوحيد قاهر الصحراء ومحرر دمشق؟ هل هو الذي اخترع قصة التعذيب التي ابتكرها ضد الاتراك؟ ولماذا بأسم العزة والكرامة اختار ان ينهي السنوات الاثني عشرة الاخيرة من حياته كجندي بسيط في ظروف متدهورة، أليكفر عن ذنبه؟ أليقهر نفسه؟ وفي اي ظروف مات: بحادث ام اغتيالاً ام انتحاراً هل قيل كل كل شيء عن سر لورنس؟
فانسون منصور مونتاي، المتخصص في الشؤون العربية والاسلامية، اصدر عام 1987، كتابه (لورنس العرب، المتسلل الشؤوم) اجاب فيه عن هذه الاسئلة، وسواها من الاسئلة التي تستكشف الزوايا المظلمة في حياة هذه الشخصية المعقدة، وذلك من خلال الانكباب على البحث والتنقيب سعياً وراء المزيد من الحقيقة ومزيد من الضوء.

و مونتاي، مستشرق ورحالة فرنسي، شغف بدراسة الشؤون العربية والاسلامية، وقضى سنوات عديدة في دول المغرب والمشرق العربي والاسلامي، وانتهى به الامر الى اعلان اسلامه عام 1977، ولقب نفسه بأسم المنصور بالله الشافعي.
بداية لابد من تقديم ملامح سيرة ذاتية للورنس العرب قبل تناول كتاب مونتاي ليكون القارئ غير العارف بهذه الشخصية على دراية بها.
توماس ادوارد لورنس، ولد قبل اكثر من قرن من الزمن، ودخل اسمه التاريخ على انه لورنس العرب. ان اسم هذا الرجل الانكليزي يتردد في كل مرة يجري فيها الحديث عن الثورة العربية الكبرى ضد الاستعمار التركي عامي 1917 و 1918. كما ان الادب والفكر العالمي مازالا يتأثران بكتابه (اعمدة الحكمة السبعة).

وعند محاولة اقتفاء أثر المغامرة التي عاشها لورانس في الجزيرة العربية والاردن وسوريا، يبدو ان الوقت توقف جامداً في الصحراء وبين الرجال. فالاجيال الحاضرة ما تزال تتناقل ذكريات الاجيال السابقة عن هذا الرجل الاسطورة.
ونستون تشرشل، وصفه مرة بالقول “كان يتحرك خارج التيارات العادية للنشاط الانساني، وكان مستعداً لأن يلجأ الى العنف بمثل استعداده لأن يقدم اغلى التضحيات. كان مرتحلاً وحيداً وبسيطاً للغاية، ولكنه يعيش على القمم حيث الهواء بارداً، وقاس، ونادر. ومن هناك وفي الايام الصافية يطل الانسان على كل عظمة العالم”.
لورنس، كان دون ادنى شك أحد آخر الاشخاص الاسطوريين، عاش احلامه الذاتية، ومضى متجاوزاً حدودها، وبالتالي غادرها على غير هدى في عالم لم يعد يعتبره عالمه.
ولد توماس ادوارد لورنس في 16/ آب/ 1888، في عائلة من اربعة اولاد في مدينة تريمادوك في ويلز. ابوه كان ايرلندياً، وامه اسكتلندية، كان طفلاً خجولاً ومتحفظاً، وفي سن المراهقة لجأ الى التاريخ يمعن فيه قراءة ودرساً، واجب ايضاً لعب الحرب. وبالرغم من انه كان حالماً الا انه كان يملك عزيمة فولاذية، وقوى اقناع هائلة.

في العام 1896، سكن والده في اكسفورد بانكلترا لمنح اولادهما افضل تعليم ممكن، وكان قدر لورنس ان ينمو في تلك المدينة الجامعية ذات الهيبة والوقار. ومغامرته المذهلة كانت لتبدأ من هناك ولسببين: الاول- هو الحب والهواية. والثانية- هو التحدي والمواجهة.
ان الحب توّلدَ من خجله وشغفه بالقراءة. فلورنس كان يقضي الساعات تلو الساعات في مكتبة اكسفورد، وقد اعترف قائلاً “لقد قرأت كل كتب المكتبة”. وهناك اكتشف فعلاً العالم واعجب بالخرائط والكتب الجغرافية. هذه جعلته يحكم، وحملته الى قارات اخرى خارج بريطانيا بل وخارج نفسه.
والمواجهة حدثت عندما كان في مطلع شبابه، ومن خلال عالم الاثار الدكتور هوغارث المتخصص البارز في العلوم الشرقية، لاحظ لورنس وشعر بكفاءاتيه والقدرات الاستثنائية الشخصية، اخذه معه الى العراق وسوريا للاشتراك في الحفريات هناك، ومن ثم الى مصر. وكان العالم 1910.

هكذا اكتشف لورنس الارض العربية وحقائق العالم العربي. ومن خلال اتصاله مع زعيم محلي هو الشيخ حمودي في شمال سوريا، اغرق لورنس نفسه كلية في العقلية العربية. قليلون جداً عرفوا وقتها انه هكذا كان يضع الاسس لليوم الذي كان سيعرف به على انه لورنس العرب.
لورنس سافر كثيراً، لقد زار حلب وطرابلس وبيروت ودمشق.. فالاقطار العربية جذبته، كان يشعر هناك بالدفء وكأنه في بيته وكان من الملاحظ تماماً ان العرب وثقوا به. ولا شيء من ذلك غاب عن العين الحصيفة لعالم الآثار هوغارث الذي كان يعمل ايضاً في المخابرات البريطانية.
وفي العام 1914، نشبت الحرب العالمية الاولى، وارسل لورنس الى الخدمة في الجيش صنف علم الخرائط، في القاهرة، كتغطية لعمله في المخابرات البريطانية، وفي العام 1915، عين في مهمة سرية في البصرة لمحاولة التفاوض على رفع حصار الاتراك عن منطقة كوت العمارة. وبعد ذلك وفي تشرين الاول 1916، قابل الشريف حسين، وحاول اقناعه بمحاربة العثمانيين الاتراك، حلفاء الامبراطورية الالمانية. وكانت هذه المقابلة بداية العمل في تنفيذ خطة لبناء امبراطورية عربية تحت النفوذ البريطاني من خلال مساندة الثورة ضد الاتراك، وقد وضع لورنس نفسه لتحقيق هذه الخطة قلباً وقالباً.
وفي القاهرة لم يكن احد من البريطانيين يعتقد حقيقة بفعالية الثورة العربية. ولكن لورنس من خلال نظرته للفرصة الممتازة لتحقيق طموحاته الشخصية، رأى ان اعادة احياء الروح العربية كانت مناسبة لا يجب ان تفوّت.

واعتبر لورنس ان فيصل نجل الشريف حسين هو الرجل المثالي لقيادة الحرب ضد الاتراك، ولكن من اجل ان ينضم الى فيصل كان على لورنس ان يقطع الصحراء الى ربيعة، وعانى الضابط البريطاني الشاب من
الضمأ وضربته بقوة موجات الحر ولكنه تعلم كيفية التغلب على آلامه ومتاعبه.. وابتدأ تدريجياً يُعوّد نفسه على نمط حياة القبائل العربية وتعود بعد ذلك على العيش معهم والقتال الى جانبهم.
وصل لورنس الى ربيعة، مخيم فيصل، ورحب به فيصل معجباً بملاحظته ان مخيمه “رائع ولكنه بعيد عن دمشق”. وهكذا بدءا معاً الاستيلاء على ارض الشمال.
وهنا تمكن لورنس من اقناع رؤسائه بجعله البريطاني الوحيد الذي يتعامل مع فيصل. فالثورة يجب ان تكون من عمل العرب وحدهم. وهكذا تمكن من سحب الحاميات العسكرية البريطانية التي كان من المفروض ان تسانده.

وبعد رحلة شاقة على رأس 2000 من الخيالة، قطع فيها 1500 كم، تم الاستيلاء على العقبة من الاتراك يوم 6/ تموز/ 1917، ومن ثم تركز الهجوم على خط سكك حديد الحجاز حتى ان لورنس قام شخصياً بعمليات تخريب ضد هذا الخط في عدد من المناسبات وفي اماكن مختلفة.
وفي الحقيقة، فأن الرجل الذي تبناه رجال القبائل واطلقوا عليه اسم لورنس العرب، قد عمل على توحيد كل القبائل، وقد نجح في ذلك، ولكن حمداً لتفاهم وتعاون بعض الرجال الاشداء من امثال عودة ابو طايع وحمد الجازي ونوري الشعلان وآخرين من اسياد الصحراء.
الشيخ فيصل ابن الشيخ حمد الجازي رئيس قبيلة الحويطاط، تحدث الى احد باحثي سيرة لورنس قائلاً بشيء من المرارة “ان الضابط البريطاني الذي عاش وحارب مع شعبنا والذي وعد هذا الشعب بمملكة عربية متحدة وعظيمة، قد خاننا”.
اما احفاد عودة ابو طايع، فقد كان شعورهم اكثر ضراوة، قالوا “من المؤكد انه كان مخلصاً” وكان ايضاً لافتاً من حيث امكانات وطاقات تحمله الجسدي، وكذلك السرعة التي تأقلم فيها مع الاوضاع المعيشية لحياة الصحراء، والتي هي صعبة للغاية بالنسبة لرجل غربي.. ولكن الدور الذي عزاه الى نفسه بأنه المحرض وزعيم الثورة العربية الكبرى، فهو مبالغ فيه تماماً. بالطبع لقد كان حاضراً الى جانب اولئك الذين قادوا الثورة، اذ كان مستشاراً عسكرياً ممتازاً لهم وليس اكثر من ذلك”.
والحقيقة ان لورنس ينظر اليه الآن بشكل مختلف وذلك اعتماداً عما اذا كان ينظر اليه من وجهة نظر غربية او من وجهة نظر عربية.
في العام 1918، وعندما دخل الجنرال اللنبي الى القدس، طلب ان يساند فيصل الهجوم الحاسم الذي كان ينوي شنه في فلسطين، وكانت الواقعة الملحمية لقوات الهجانة العربية.
الجيش هاجم عبر الصحراء، العقبة، وادي رم، معان، الازرق. المقاتلون العرب انظموا الى مقاتلي القبائل ابطال تحرير العقبة. وهكذا تأكد نجاح الثورة. فيصل قوّم النتائج بارتياح هائل، فلم يعد الكفاح متعلقاً بعدد من رجال القبائل، بل تحول الى حرب تحرير عربية حقيقية، موحدة عرب المناطق المختلفة.
في هذا الاطار تم تحضير الهجوم الشمالي باتجاه درعا، ودمشق، وبمبادرة من لورنس، طلع بنفسه مع عدد قليل من الرجال، لاستطلاع خط السكك الحديدية حول درعا. فدرعا كانت نقطة استراتيجية حيوية حيث ينضم خط الحجاز مع خط دمشق –القدس. لكن لورنس اعتقل من قبل الاتراك في درعا نفسها.
فبعد ليلة ليلاء من الرعب، اقدم على عملية هروب مجنونة، ضارباً في عمق الصحراء ليجد بعدها قوات فيصل، هذه على الاقل روايته، ولكن المؤرخين لا يوافقون كلهم على هذه الاقصوصة.
في الاول من تشرين الاول، وبعد رحلة 13 يوماً لا تصدق، دخل فيصل الى دمشق ليجد جموعاً غفيرة ترحب به وبقواته، وتعلن الحسين (ملك العرب).
كان لورنس قد بلغ وقتها الثلاثين من العمر واصبح برتبة عقيد. بعد ذلك بثلاثة ايام استقال. السبب، انه لم يوافق مطلقاً على الخطة الموقعة بين فرنسا وبريطانيا والتي تقضي بتقسيم الشرق الاوسط الذي تم تحريره من النير العثماني الى مناطق نفوذ.
لقد تقاعد في منزله الصغير في (كلود زهيل) في الريف البريطاني، وبدأ بكتابة سجل وقائع تجربته العربية (اعمدة الحكمة السبعة). وفي 19/ ايار/ 1935، قتل بحادث دراجة نارية.
وفي كتابة قال لورنس “ان العرب هم سلالة العبقرية الفردية، انهم يملكون شعوراً حاداً جداً من نقاوة يقل نظيرها”.
وقال ايضاً “كل الرجال يحلمون ولكن ليس بالطريقة نفسها، فهناك الذين يحلمون في الليل في طي افكارهم الترابية، يستيقظون على علم بتفاهة الحلم، اما الحالمون اثناء النهار فهم رجال خطرون، لانهم يستطيعون الفعل وتوجيه حلمهم بعيون مفتوحة ليصبح هذا الحلم حقيقة واقعة”.
* كتاب مونتاي
مونتاي في كتابه عن لورنس العرب- الذي نحن بصدد تقديم عرض له معتمدين في قرائتنا على النسخة الفرنسية- لم يأتِ بجديد او يضيف على ما سبق من باحثين انكليز، بحثوا وتقصوا سيرة وادوار لورنس.. لم يستفد ولم يفدنا من ما هو موجود في الوثائق الفرنسية عن هذه الشخصية الملتبسة وسنواتها العربية وادوارها وعلاقاتها.. التي للاسف لا نعرف من محتويات هذه الوثائق الا القليل. وعلى الرغم من مجموعة الاسئلة التي طرحها مونتاي في بداية كتابه، الا اننا فوجئنا بمحتواه (الانطباعي) المعتمد على مجموعة قراءات سابقة لمراجع اجنبية.. الآتي عرض لأبرز ما جاء في الكتاب:
نتخيل لورنس يدفع ناقته عبر الرمال التي تمتد حتى اللانهاية، وتحت شمس محرقة، ووسط رياح لا تتوقف. وينبغي علينا ان لا ننسى قصر اقامته في الصحراء العربية: 9 اشهر فقط، نصفها من اذار حتى مطلع تموز عام 1917، والباقي في خريف السنة 1918. وكان يقطع اقامته بالعودة الى مصر، وغالباً لاخذ قسط من الراحة على متن بوارج البحرية الملكية.
والحقيقة انه كان منزعجاً من المناخ، الذي ينقلب فجأة من حر العقبة الشديد، الى عمق الخليج حيث البرد الجليدي على علو نحو الف متر. فكم من مرة تبلل بالماء حتى العظام، واحياناً بالضباب، والثلج. وقد كتب الى عائلته في 8 اذار من العام 1918 يقول: “اتذكر اني فوجئت في عمان، ظهر 31 اذار 1918، بعاصفة ثلجية”. ثم عاد وكتب: “شكراً للعناية الالهية، فان اسوأ ايام الشتاء انقضت. وذات مساء، وقعت ناقتي اسيرة العاصفة الثلجية في الجبل، فاضطررت الى ان احفر لها طريقاً، واجرها برسنها كيلومترات عدة، لاهبط بها المنحدرات. شرق البحر الميت مرتفع جداً، وقد ساد فيه الجليد والثلج”.
والى جانب درجات الحرارة التي تميز الصحراء، كانت هناك تجارب اخرى: العطش، الجوع، التعب، الارق، الدوار والمرض. ولا غرابة ان نعلم من فمه هو بالذات ان وزنه تراجع من 70 كيلو غراماً في العام 1914 الى 45 كيلو غراماً في العام 1917. ولعل هذا ما يدفعنا الى التساؤل عما اذا كانت كل هذه الآلام ضرورية وواجبة: وبالتأكيد فانه كان من الضروري ان يكون اقل حملاً لمواجهة اي اعتداء تكون سرعته ضمانة للمفاجأة.
ومع ذلك، فان البدو في الصحراء لا يخلعون احذيتهم الا عندما يكونون ركوباً، او يريدون ان يسيروا على الرمال. احذيتهم خفيفة جداً، وتشكل جزءاً من متاعهم الاساسي، النظام الغذائي كان مفروضاً، وبدائله كانت فترات طويلة من الصوم القسري والولائم المفاجئة الدسمة. لقد كان لورانس يريد ان يقسوا على نفسه حتى آخر طاقته، ويريد ان يبرهن لنفسه وللآخرين ايضاً انه يستطيع ذلك، واكثر منهم. هذه الامانة القسرية، والمدفوعة نحو المطلق احياناً، قادته الى تحويل زهده نحو العرب. لقد كتب، مثلاً، “ان رجل الصحراء يعذب نفسه، لا ليكون حراً فقط، ولكن لكي يشعر بلذة ايضاً. فهو سعيد عندما يتألم، وهذه القساوة بفضلها على مباهج هذا العالم. ليس عنده فرح اكبر من فرح الحرمان الطوعي. متعته الحقيقية هي افكار الذات، والعزوف، والاكراه المقصودة”.
حر ان يكون لورنس مازوشيت، ولكن اي متخصص في شؤون الصحراء مقتنع معي، بأن البدوي اذا كان لا ياكل، او اذا كان موهناً، فانما يكون ذلك بحكم الضرورة، وليس بحكم الرغبة. وعندما تسنح له اول فرصة في الواحة، فانه لا يلبث ان ينكب على الطعام والشراب حتى الافراط. همه الاساسي هو ان يسمن اكبر قدر ممكن.
وفي اي حال، فان لورنس يعرف ذلك جيداً، وقد خصص فصلاً كاملاً ليصف “مناسف الارز” والدهن ولحم الخراف المسلوقة تحت خيام الحويثات “وهو حلم الحياة الجميلة بالنسبة للبدوي!”
وبعد خمس عشرة وليمة في الاسبوع، يقع الكثيرون من المدعوين مرضى بفعل عسر الهضم “ولكن البدوي يكون قد بلغ ما يريد”، كما يقول لورنس الذي يضيف بروح الدعابة: “كنت افضل لنفسي نوعا من: مقعد منعزل وثير، وطاولة، ومجموعة شعرية كاملة مطبوعة بحرف كبير على ورق سميك”.
وفي فصل الربيع، اذا كان المطر يحول الارض السمراء الى ارض خضراء، فأن حليب النوق يبقى على مدى اشهر غذاء البدو الاساسي بحدود اربعة ليترات يومياً للشخص الواحد. لقد عرفت، في العالم 1948، رعاة قالوا لي انهم لم يتناولوا اللحم قط في حياتهم.
البلح، الطازج او المجفف، والمنقول في الاكياس، يعتبر غذاء مكملاً لذيذاً،، ومنذ زمن طويل، اصبحت القهوة في الشرق، والشاي في افريقيا لا غنى عنهما.
ومن الحبشة استقدم البن الى اليمن في القرن الخامس عشر، بفضل الصوفيين الذين وجدوا فيه وسيلة لاطالة سهراتهم، ثم انتقل الى مكة المكرمة، وفي القرن السادس عشر، دخل الى مصر وسوريا. وفي المشرق، تعتبر القهوة عادة رمزية كما هي الشاي في المغرب. والضيف لا يلقي التكريم ان لم يقدم له الشاي هنا القهوة هناك.
وفي كتابه “آربيا ديزيرتا” الصحراء العربية، وهو احد الكتب المحببة الى قلب لورنس، يخصص “داوتي” صفحات عديدة لـ “الابتكارين” اللذين لا ينفصلان: القهوة والتبغ اللذين يوفران الراحة، ويوقفان الجوع، ومن دون القهوة لا يمكن ان يبدأ النهار سعيداً. ان حياة البدوي، المرتبطة بالصحراء، مضمخة برائحة البن الزكية.
لقد شغف لورنس بالفسحات المنبسطة، والشعور بالحرية المتجسدة في الصحراء العربية، وتحديداً في سباق النوق. “ففي الصحراء، كما يقول لورنس، يتم اختيار النوق للتنقل، لكون حليبها هو الغذاء الاساسي”. ويعتبر هذا النوع من الحيوانات، حساساً في التذوق، بحيث لا يرعى اي اعشاب حتى اذا كان يتضور جوعاً. يطعمونه احياناً البلح، والسردين المجفف في الجنوب، او حتى اللحم المسلوق في الشمال. وقد استطاع لورنس ان يحصل على نوق مميزة بعضها كان مشهوراً، ولكن التي ولدت في الرمال، واعتادت السير بين الكثبان، تجد صعوبة وحرجاً في السير على الحصى.
وخلال الاشهر الثلاثة الاولى من الحمل تعيش الناقة حالة ارتياح تجعل من ركوبها غاية في الراحة، فهي ناعمة، هادئة سريعة، والجمل يعرف خمسة انواع من المشي: الخطو (بين اربعة وخمسة كيلومترات في الساعة)، الخبب الخفيف (ثمانية كيلومترات في الساعة)، الخبب السريع (من عشرة الى اثني عشر كيلومترات في الساعة)، الخبب الكبير (بين ثمانية عشر وعشرين كيلومتراً في الساعة)، واخيراً، العدو، الذي لا يعتبر اكثر سرعة، ولا يستطيع ان يستمر وقتاً طويلاً، ويهز الراكب هزاً عنيفاً.
ومع ذلك بقي لورنس من هواة المشي على الاقدام الذين لا يتعبون، كما انه مارس هواية ركوب الجياد. وانتقل في العام 1918 مسافات طويلة بالسيارة -او سيارات مصفحة، او سيارات رولس رويس- وكذلك بالطائرة، اصدقاؤه البدويون بقوا اوفياء لجمالهم. ويقول ذيسيغر- ويبرهن على ذلك بواسطة الصور الفوتوغرافية- ان بعض البدو كانوا يركضون على اسرجة الجمال للدلالة على راحتهم، وفي حالة العطش الشديد، بعد فراغه من الماء، ووجود الآبار بعيداً عن متناوله، فان البدوي يضغط لاجترار الغذاء على شفتيه الجافتين، بعدما يكون قد دس يده في حنجرته.
ويصف لورنس رجال القبائل بعناية، نرى بينهم، كما يقول، شباناً سمر الوجوه، تحت نقاب ابيض، ومحاطة، كل وجه بضفيرتين كبيرتين سوداوين، وفي جنوب الصحراء العربية يتميز البدو بالشعر الطويل، غير المضفور، والمسترسل على الكتفين. وبعد مرور ستين سنة على الثورة العربية، اجتاز جاك برك بالسيارة الطريق التي تقع في محاذاة الصحراء، حيث كاد ذيسيغر، قبل اكثر من سبعين سنة، يموت عطشاً. سائقه اب لاربعة عشر ولداً، وهو جمال قديم “ذو ضفيرتين او سالفين، يتدليان على كتفيه”. ولعل اروع شخصية التقاها “في نيسان 1917 هو “عودة” رئيس قبيلة الحويطات، وهو بدوي حقيقي ومقاتل مشهور. مشيق القامة، قوي البنية، في الخمسين من عمره. مضياف حتى المبالغة. تزوج 28 مرة، واصيب 13 مرة”.
ومع رجال “عودة” سيكمل “لورنس العرب” مآثره الاسطورية، لقد قورن بالقيصر او بنابوليون، ونُظر اليه على انه ذو موهبة عسكرية فذة. ولكن، لكي يستحق كل هذه المدائح، هل ينبغي ان يكون قد مارس قيادة فعلية؟
لقد كتب في مقدمة كتابه الصادر عن اوكسفورد (1922) والموسوم بـ “في الحقيقة، كنت اشغل منصباً رسمياً تابعاً. لم تكن لي مهمة خاصة قط لدى العرب، ولم اكلف قط بالبعثة البريطانية لديهم. واذا كان اعترف في كانون الاول في العام 1916 بأن “مهمته الخاصة كانت صغيرة” فقد صرح في كانون الثاني 1917، بان موقعه كان “غريباً”، وفي 10 نيسان قال: “لم يكن لي سوى دور تحليلي”. وفي 3 حزيران قال: “في مدى ستة اشهر، اصبحت رجل الثقة الاول في سوريا”. وفي 4 تشرين الاول 1917. وتحديداً، بعد الاستيلاء على العقبة، اعترف قائلاً: “لقد شعرت بوخز الضمير من عملي المخادع، كانت هناك الثمار، الثمار المرة لقراري هو ان اصبح، امام العقبة، احد قادة الثورة”.
وثمة ايضاً ضرب من التمويه في رسالة وجهها الى والدته في 14 كانون الاول: “انا نوع من الامير”.. وفي 28 اذار 1918 اعقب ذلك الاعتراف بالقول: “الواجب كان ثقيلاً علي. ولا شك في ان الدكتور ماك كان محقاً في القول ان دور لورنس كان دوراً نشيطاً، ألم يقل بونابرت انه كسب المعارك باحلام جنوده”؟
وفي الفصل الثالث والثلاثين من “اعمدة الحكمة السبعة”، تركيز كلي تقريباً على افكار “ند”، المتمدد تحت خيمته، وقد اخذت منه الحمى والديزنتاريا كل مأخذ “خلال عشرة ايام من العار واللاعمل القسري”. كان يعترف بانه كان في مقدوره ان يتحرك على هواه، لانه لم يكن لديه تنظيم عسكري. نظرياً، الامر مختلف.
لقد قرأ الاستراتيجيين في اوكسفورد، ولكن الاهتمام الذي بيديه نحوهم كان غامضاً وانتقادياً في آن واحد، لان مبادئ الحرب الحديثة والعلمية لا تنطبق على مبادئه. فالاستيلاء على المدينة المنورة بالقوة يبدو له هاجساً لا جدوى منه. “بالنسبة لنا، في الصحراء العربية، كان الامر يتعلق بابقاء الاتراك خارج كل المنطقة الجغرافية التي تتكلم اللغة العربية في اسيا. ومن اجل ذلك، كان يمكننا ان نقتل كل الاتراك الذين يعارضون هذا الامر، ولكن هذا كان اشبه بالترف: فلو انهم يخرجون بهدوء لكانت الحرب انتهت. لقد كان اهراق الدم دون جدوى، فالعرب يكافحون من اجل حريتهم، ولا يمكن ان يستفيدوا الا اذا بقوا على قيد الحياة”.
في تلك الاثناء، استبدت بعض الدمامل بجسم لورنس فاقعدته عن النشاط لايام عدة، ولكنه استفاد من هذه الفرصة “لكي يفك عقدة الحرب” في عناصرها الثلاثة: الاستراتيجية، التكتيكية، والسيكولوجية “لان مهمتي كانت، كما كتب يقول، القيادة، والرئاسة، كما المهندس هو المسؤول عن كل شيء”. فلورنس، كما نرى هنا، لا يعتبر نفسه مستشاراً بسيطاً، وانما رئيساً، وقائداً. وهكذا، باستبعاده كل تناقض بين الاستراتيجية والتكتيك، لا يريد ان يرى سوى مكونات الحرب الحقيقية الثلاثة: جبرية الاشياء، بيولوجية الحياة، وسيكولوجية الافكار”.
وضد فكرة الثورة “المنتشرة في كل مكان، مثل الغاز”، كان الجيش التركي اللجب لا يعرف سوى احتلال النقاط المحصنة، وعملية حسابية بسيطة تظهر انه اذا كان كل موقع يحتاج لعشرين رجلاً، فيلزمه 600 الف رجل في مواجهة “إرادة الشعب العربي الرافضة، والعداء المعلن من قبل بعض الحزبيين، ومن هؤلاء كم يلزمنا؟ لقد كان لدينا منهم 50 الفاً، وهذا عدد كاف حتى الآن. ولو كنا نعرف كيف نستخدم ميزاتنا المادية، والمناخ، والصحراء، والسكك الحديد، والاسلحة التقنية لكان بالامكان تحويلها الى مصلحتنا.
الاتراك كانوا حمقى، والالمان، من ورائهم، كانوا دوغماتيين. سينظرون الى الثورة في المطلق –كما الحرب- وسيقاتلون كما في الحرب ايضاً. يا له من تعليل! الحرب ضد الثوار ورطة، قضية بطيئة: تماماً كما لو تشرب الحساء بواسطة السكين!”
حتى الآن، يكتب لورنس بوضوح. ومن الضروري ان نعترف للورنس بكفاية فريدة: وهي فهمه ووصفه لحرب العصابات (من دون ان يطلق عليها هذا الاسم)، وهو شكل العمل الوحيد الملائم للصحراء ولازمته الاساسية التي نطلق عليها اليوم الحرب النفسية. “ان حربنا، من دون تلاحم. ينبغي لنا ان نستوعب العدو بسكون الصحراء الشامل، وبعدم كشف انفسنا قبل الهجوم. الاستخبارات كانت ضرورية. قاعدتنا ستكون عدم القبول بالنزول الى الساحة قط وبعدم تقديم انفسنا اهدافاً.. وعلى الجبهة هناك الكثيرون من الاتراك لم تتح لهم الفرصة لاطلاق النار علينا، ولم نكن في حالة دفاع الا عرضاً او خطأ”. فالمعارك في الصحراء العربية، كانت غلطة، لم يكن لدينا اي شيء نخسره، كما لم يكن لدينا معدات للدفاع عنها. “ينبغي لنا ان نراهن على السرعة، والوقت، وليس على القوة الضاربة، لان ارض المعركة “كانت اكبر من قوة الجيوش” مما ادى بالاستراتيجي الشاب الى الاستنتاج…: ” كان يبدو لي، اذاً، بان الثورة كانت قاعدة حصينة، محمية ليس فقط من الهجوم، ولكن حتى من الخوف من الهجوم. عدونا كان غريباً، معقداً جداً، ينظر اليه كجيش احتلال على ارض واسعة جداً تتطلب السيطرة على نقاط محصنة للبقاء فيها. السكان كانوا اصدقاءنا: 2% فقط حملوا السلاح، ولكن الباقي كان يؤيد ما فيه الكفاية حتى لا يخون حركات الاقلية.
الثوار الفاعلون كانوا يتمتعون بالسرية، والسيطرة على الذات، وكانت عندهم سرعة الحركة، والثبات، والتموين المستقل، معداتهم التقنية كانت كافية لشل اتصالات العدو. وجود هذا العدو كان ثانوياً، قياساً الى اقتناع السكان المدنيين بالموت من اجل قضيتنا، قضية الحرية، الانتصار النهائي كان يبدو مؤكداً، اذا ما دامت الحرب طويلاً بحيث تسمح لنا بتحقيقه”.
كان لورنس متفقاً مع رئيسه هوغارت في النظر الى “التركي الذي لا يمكن تسميته”. ولكن، في البداية على الاقل، كان ينظر اليه بشفقة كما لو انه “شعب طفل” “صنعت قوته من السذاجة، والصبر وروح التضحية” الا انه “كان العرق الاكثر بلادة في اسيا الغربية”… “المجندون كانوا يواجهون مصيرهم من دون طرح اسئلة، على طريقة المزارعين الاتراك. كانوا خرافاً، جامدة، لا حركة ولا بركة. مستسلمون لذواتهم، ولا يفعلون شيئاً او يجلسون ارضاً بثقل وبلادة. سلوكهم كان مرتبطاً بقياداتهم.
واذا كانوا يتلقون الاوامر بأن يكونوا ممتازين، فعندها يكونون افضل الاصدقاء، واسخى الاعداء في العالم، ولكن اذا قيل لهم ان يشتموا الاب، او ان يبقروا بطن الام، فعلوا ذلك بكل برودة اعصاب.
فقدان روح المبادرة عندهم كانت مثيرة للخيبة، الى حد انه جعل منهم الجنود الاكثر اذعاناً، والاكثر احتمالاً والاقل تأثراً من اي كان في العالم. وهكذا كانوا الضحايا الطبعيين لضباطهم الادعياء، الخبثاء، الذين يقودونهم الى الموت، او يرمونهم بعد استعمالهم، من دون اي اعتبار. لم يكونوا صالحين الا ليُقطعوا ارباً ارباً كرمى لعيون رؤسائهم، الذين لم يكونوا يتخذون اي اجراءات وقائية لحماية جنودهم.
وبحسب الفحوص الطبية، كان اكثر من نصف السجناء الاتراك مصابين بالامراض الزهرية. وفي الارياف لم يكونوا يعرفون كيف يحمون انفسهم من الجدري. واذا ما حصل المرض في سرية من السرايا، فسرعان ما ينتشر الى الاخرى. وفي نهاية الست او السبع سنوات من الخدمة العسكرية، كان الباقون على قيد الحياة، في حال كونهم من عائلات معروفة، يخجلون من العودة الى بيوتهم. ولذلك كانوا يسلكون الطرق المنحرفة. بعضهم كان ينخرط في سلك الامن الداخلي، وآخرون كانوا يقبلون باي عمل في المدن. النتيجة هي ان الجنود القدامى كان لديهم اقل من الاولاد، “فالحياة الزراعية التركية في اناتوليا كانت تتلاشى بفعل الخدمة العسكرية”. وفي الاساس، كانت حرب المزارعين الاتراك ضد البدو العرب، حرب فقراء ضد فقراء. فالمجند التركي، بنصيبه القليل من مربى المشمش لم يكن بافضل من المتطوع العربي، بحفنة البلح لديه.
لم تكن علاقات العثمانيين بمواطنيهم من مختلف الاجناس خالية من الاشكالات. فمن جهة، كانوا يمارسون بيروقراطية صارمة، ويفرضون ضرائب باهضة، فضلاً عن الخدمة العسكرية. وهرباً من هذا النير هاجر عدد كبير من اللبنانيين الى افريقيا وامريكا، حيث ادى بهم حسهم العملي، وتلاحمهم العائلي الى نجاحات اقتصادية واجتماعية باهرة. ومن جهة اخرى، شكل الشباب من فئة معينة في البلقان رأس حربة بالنسبة للجيش، وعلى مدى قرون طويلة. وكان من شأن نظام الرهائن في اسطنبول ان يؤمن لتركيا تكوين كادرات عسكرية قيمة، ولكن قسماً كبيراً من هؤلاء، ولدوا في سوريا، او في بلاد ما بين النهرين، ووجدوا انفسهم مضطرين للهرب والانضمام الى الثورة العربية. لم تكن سياسة “تركيا الفتاة” بأقل وحشية من العهود السابقة، وقد رأينا جمال باشا يعلق المواطنين السوريين على اعواد المشانق دون رحمة او شفقة.
لقد بقي لورنس –الذي اطلق عليه اسم “الامير الديناميت”- مشهوراً بالتشويش على السكك الحديد التركية، ابتداء من اذار 1917، وكان الالماني ميسنر، قد انشأ هذا الخط بين 1901 و 1908، بمعاونة 43
مهندساً، منهم 19 تركياً، ويد عاملة تركية بلغت 7500 جندي. ومن دمشق الى المدينة المنورة، هناك نحو 2000 جسر و 50 محطة. عرض الخط لا يتجاوز المتر وسرعة القطار لا تتجاوز 40 كيلومتراً في الساعة. وفي العام 1964، عثر المهندس البريطاني، جون دايتون، على المقطورات السبع عشرة التي فجرها لورنس. ومن اجل اعادة اصلاح الخط كان يقتضي مليونان من الخطوط الحديدية، ومليون ونصف المليون من العوارض. وقد تمكن دايتون من انجاز حلمه الذي يقوم على اعادة بناء ما دمره مواطنه. وقد ظهرت صورة المقطورة “الغارقة” في الحجاز، والتي التقطها دايتون، على غلاف كتاب سليمان موسى الذي يحمل عنوان: ت. أ. لورنس، نظرة عربية” الصادر عام 1966.
في هذا الصدد يقول لورنس: “لقد كان دورنا هو تدمير المعدات، لا الجيش. ان موت جسر، او خط سكك حديد تركي، او آلة تركية، او مدفع تركي، اوفر مردوداً بكثير من موت جندي تركي. كان ينبغي قطع الخط الحديد على مسافة معينة. وكلما كان فارغاً، كلما كان نجاحنا التكتيكي اكبر”.
وفي بعض الاحيان كانت هجماته ضد القطار تفشل، لكنه، في الاجمال، كسب “معركة السكك الحديد”.
* الكتاب
Vincent- Mansour Monteil- Lawrence d’Arabie, le lévrier fatal, 1888- 1935 Hachette, paris, 1987.

أحدث المقالات