22 نوفمبر، 2024 6:08 ص
Search
Close this search box.

لنقرأ معا ما كتبه اﻷديب اليافع ذو السبعة عشر عاما

لنقرأ معا ما كتبه اﻷديب اليافع ذو السبعة عشر عاما

لنقرأ معا هذا النص الذي كتب في العشرين من تموز سنة 1960م وكان كاتبه من مواليد آذار سنة 1943م ، يعني أن عمر الكاتب هو سبعة عشر عام!نعم، لنقرأ النص أولاً:(( النظرة الخامسة: نظرة في كتاب (ابن الرومي):كنت أتهم الدكتور طه حسين بالإسهاب بالكلام والإسفاف إلى الحواشي والتذويق بدون أي داعٍ جوهري في معناه أو غَرَضِهِ. وإذا بي أجد العقاد وهو ذو فلسفة أعمق ومقدرة أكثر على التَّطويل والإسهاب والدوران حول الخطوط الناعمة الصغيرة والإعراض عن الخط العريض في الموضوع، وليس هذا الأسلوب خالياً من لذَّة في بعض الأحيان خاصة من مثل الدكتور طه حسين والأستاذ العقاد حيث تسمو الروح إلى رفيع شأوهم وتقتبس من ساطع نورهم وكل لفظة من ألفاظهم هي -في الحقيقة والواقع- آية من آيات الجمال على رغم بساطتها وخِفَّتِها. بل لعل هذا الجمال الرائع إنما هو مُسبَّبٌ من هذه البساطة وهذه الخِفَّة مع بُعدِ الغَور وعمق المعنى، واستخدام العقل والخيال في وقت واحد.ولكنني بالطبع أجهل سبب تعلق جملة من الأدباء بأسلوب التَّطويل والإسهاب، خاصة ممن يكون التطويل في كلامهم لا يؤدي إلا إلى شيء من السأم والملل. فمن المحتمل أنهم إنما يقصدون إشعار القارئ بهذه اللذة وإثارة مشاعره وأحاسيسه النفسية بالنكتة الظريفة والخاطر العابر. ولكن الذي لا إشكال فيه أن القارئ عندما يتوجه بالقراءة إلى أي فصل من الفصول أو مقالة من المقالات، إنما يقصد منها (الخط العريض) والمعنى الجوهري. فمن المؤسف حقاً أنه حينما يأتي إلى آخر الفصل لا يجد بين يديه من المعنى الجوهري إلا شيئاً قليلاً بسيطاً بالنسبة لما صَبَّهُ الأديب في الفصل من المعاني الشعرية والحواشي الخيالية. وهذا إذا أردنا أن نفرِّط في حسن الظن بالأدباء والمتأدِّبين ونغالي في تقديرهم، ولكن باستطاعتنا أن ندّعي أنهم إنما يطلبون التَّطويل ويقصدونه بإلحاح وإصرار، لأنه غاية لا لأنه وسيلة، غاية لتسويد الورق وضخامة الكتاب، وذلك ليحمل الكتاب أكبر كمية ممكنة من الشأن والأبّهة في عيون الناظرين. وهذا قائم على الزعم أن الفخر بضخامة الكتاب وإن كان ملازماً لضحالة المعنى وردائته، وهذا -مع الأسف- نظرية شائعة كثيرة الاستعمال. نرى من أثرها أن المؤلف إن لم يجد السُّمْك الـمُرضي من كتابه أكثَر من الفهارس والأوراق البيضاء. ولعل في هذا كمية كبيرة من سوء الظن والإجحاف بالأدباء والمتأدبين، كما كان في ذلك الرأي مغالاة في حسن الظن والتقدير. ولكن باستطاعتنا أن نتحدى الأدباء في أن يُثبِتُوا لنا بالدليل الـمُقنِع بلسانهم أو لسان حالهم أنهم لم يقصدوا ذلك من التطويل والإسهاب في الكلام .ولعل واقع الأمر أن الأديب كلما كَثُرَ أدبه قويت انفعالاته كالتاجر كلما كَثُرَ ماله كَثُرَت مشترياته. حتى ليحار (التاجر الكبير) ماذا يشتري وفي أي سوق يدخل، حتى إنه ليتمنى أن يشتري الأرض وما فيها. و(هَوَس الشراء) إنما هو تابع لـ (ميزانية التاجر) نفسه، فكلما كَثُرَ ماله كَثُرَ شرائه. ولعل هذه هي النظرة الواقعية التي يجب أن نوجهها إلى الأدباء، فهم بحكم غريزتهم الأدبية وانفعالاتهم النفسية مجبورون جبراً على الإكثار من الكلام والتطويل فيه وتكثير مواضيعه، ليوفّوا هذه الغريزة وليشبعوا هذه الشهوة. حتى ليخلق الأديب في هذا المضمار أشياء كثيرة من العدم ويصوغ دُرَرَاً من التراب. فـ(ضرورة الصدور) بالنسبة للأديب شيء ضروري، بل جوهري وذاتي بالنسبة لإنشائه ولإنشاده. فالأديب مهما بلغ من الحذق والبراعة لا يمكن أن يكتب شيئاً جميلاً ولا أن يصوغ ذهباً إبريزاً إلا إذا انكشفت أمام نفسه آفاق الجمال، وشَمَّ (بأنفه) عرف الحب والحياة. بحيث يستطيع أن يملأ جوهرته ضوءاً وقصيدته حياةً، وفقراته روحاً ونشاطاً. (ففي بعض الحالات يكون هذا الإنفعال من التَّوهُّج والحرارة والإشراق بحيث يغمر إحساس الأديب ويجعله في شبه نشوةٍ أو نصف غيبوبة).فهذا التوهج والإشراق مهما قَلَّ في نفس الأديب لا بد وأن يأخذ بزمام نفسه إلى حيث يريد لا إلى حيث يريد الأديب بدون أن يشعر أو يختار، فينطلق الأديب على سجيته كالشهاب الثاقب، وهو رهن خياله وفكره غير مختار ولا يمكن أن يكون مختاراً فيما يكتبه أو ينظمه. فالطول والقصر إذن رهن خيال الأديب وليس رهن الأديب نفسه. فنحن نجد العقّاد في هذا الكتاب وقد انفعل بابن الرومي وشعره، انفعالاً قوياً، مدعياً أن ديوانه يمثل حياته وأحاسيسه كلها لأن ابن الرومي -حسب ما يدعيه- كان يَنظِمُ شعراً كل لحظة يعيشها من حياته. فهو يمثِّل مختلف أدوار هذه الحياة التي عاشها ومختلف مشاعره والحوادث التي صادفها خلال هذه الأدوار، وهو يمثل أيضاً ذوقه أمام المجتمع وأمام الناس وأمام مجالس اللهو ومساجد العبادة، وأمام كل شيء حتى ذوقه في الطعام.ولكن هل أصاب العقاد في دراسته هذه لابن الرومي؟فنحن نعلم أن الشعراء ﴿فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ).وأن الأبيات التي ينظِمها الشاعر لا يمكن أن تكون إلا فكرة وردت في مخيلته أو خاطِرَة مَرَّت على ذهنه في وقت نَظمِهِ. ولهذا يمكن الزعم أن شعر الأديب لا يمثل حياته الخارجية بقليل ولا كثير، لأن هذه الفكرة أو الخاطرة إنما هي أشياء (ذاتية) ولا اتصال لها بالواقع الخارجي (الموضوعي)، ولا يمكن أن تَدُلَّ عليه. فإنه حين يصف الموز -مثلاً- ويدَّعي بأن البلع يكاد أن يدفعه إلى القلوب، يحتمل أنه وصفه وهو يكرهه أشد الكره ويشمئز منه أكبر اشمئزاز، وهذا المدح إنما هو مجرد فكرة طرأت على فكره الفيّاض بالخيال العبق ونفسه الفوّاحة.ولكن يمكن أن يقال كما قال الأستاذ العقاد أنه إنما يصف الموز أو السمك لأنه يحبه ولأنه يرغب أن يأكله بصورة واقعية، وإنما ينعى الشباب لأنه يشتاق إليه اشتياق آيس من اللقاء. وكذلك غيره من الأمور.ويمكننا أيضاً أن نتخذ بين هذين السبيلين المتضادين سبيلاً ثالثاً وسطاً وهو أن يقال: إن ما اتصل من نتاجه الأدبي وما يمثل انفعالاته النفسية شعراً أو نثراً، بقضية تأريخية أو بذم شخص أو مدحه -بدون الطمع بالعوض-، أو أي حاجة اعتيادية من حاجات هذه الحياة. فهو لا بد أن يكون صادراً عن هذه الحاجة ومنبثقاً منها وممثلاً لواقعها الخارجي (الموضوعي) بالإضافة إلى انفعاله النفسي (الذاتي).أما مدح الموز والسمك واللوزينج ووصف مجالس اللهو ومحراب العبادة وما ذكر في شعره من أنه (يغربل في مشيه) أو أن أوصافه بالصورة المعينة الفلانية، أو أن الأحدب الذي يتشائم منه كمن صفع في قفاه وهو لا يزال ينتظر الثانية بخوف وارتجاف، وغير ذلك من الخيالات الشعرية والانفعالات النفسية، لا يمكن أن تعدو كونها واحدة من هذه الخواطر أو انفعالاً من هذه الإنفعالات التي لا تدل على ما وراء نفس صاحبها بقليل ولا كثير. فرضاً عن أن مثل هذا الشعر الذي صاحب كمية من الانفعالات لا بد وأن يصاحب معه كمية كبيرة من المبالغة والتضخيم للوقائع وتصغير الكبير وتكبير الصغير مما يجعل الصورة مع ما فيها من لَذَّةٍ وحُسْن (مُشوَّهة) لا تدل على الواقع. هذا من ناحية ابن الرومي نفسه أما من ناحية المؤلف الأستاذ العقاد، فإننا نراه وهو ينظر من خلال هذا الكتاب إلى ابن الرومي نظرة الحب والشفقة والرحمة بل نظرة الإجلال والتقدير، كأنه يظن أنه حين قال هذا الشعر، قاله وهو يعني كل ما يلازمه ويدل عليه. فهو يحاسب شعره العذب وخياله الخصب على كل كلمة يلفظها وكل بيت ينظِمُه، في حين أن الأبيات التي قالها لا تخلو إما أن تكون عن طمع أو خوف أو خاطرة خيالية أو غير ذلك مما يكتنفها من التشبيهات والكنايات، ولا يبقى لدينا من شعره إلا النزر القليل الذي يمكن لنا أن نزعم أنه يمثل حياته ويدل على معيشته. فمن كل هذا نرى أن الأستاذ العقّاد لم يُصِب إلا في هذا النزر القليل من الشعر ومن أخباره التأريخية التي وردت عنه -مع فرض صحتها- فكان صوابه نزراً قليلاً أيضاً.وقد يتوجه السؤال بأنه: لماذا يُـخضِع الأدباء الـجُدُد مَن يَدرُسُونه من قدمائهم لمقاييسهم الجديدة ومناهجهم الحديثة.فهذا المنهج الأدبي الحديث الذي يقوم على أن قيمة الأدب إنما هو بمقدار ما يحمل من التصوير والإشراق والإنفعال النفـسي، وبمقدار ما تتحمل ألفاظه من نقل الإنفعال من المؤلف إلى نفس القارئ، هذا المنهج منهج حديث ونظام جديد لم يكن ابن الرومي ولا أمثال ابن الرومي، ولا مَن بزغ نجمه بعد عصره، يعرفه أو يمكنه أن يطَّلِعَ عليه وإنما هو من بنات أفكار أدباء القرن العشرين.ولم يكن في ذلك القرن إلا أمثال ابن المعتز الذي يُنسَب إليه علم البديع القائم على التذويق اللفظي المحض، الذي لا بد له من أن يُطبَّق في كلام كل أديب من معاصريه أو المتأخرين عنه وإن كان على حساب الخيال الشعري الجميل والإنفعال النفسي المشرق.فمن أين لهم إذن إخضاع ابن الرومي وأمثاله من الشعراء لهذه المقاييس الجديدة؟ على أساس أن ديوان كل شاعر كبير هو نسخة للدنيا والحياة بل للعالم والكون غير نسخة الشاعر الآخر. إلا أن هذه المقاييس الحديثة بديهية التطبيق لكل من الأدباء قديمهم وحديثهم على السواء أم لأنهم يستطيعون أن يحملوا نتاج أدبائهم القدماء حملاً على هذا المنهج الجديد.لا نعلم! )) أنتهىان هذا النص هو عبارة عن النظرة الخامسة من كتاب “نظرات سريعة في كتب خمسة ” الذي كتبه السيد الشهيد محمد الصدر، ولم تسنح الفرصة لطباعة هذا الكتاب طيلة حياته، وقد تمت طباعته على يد ولده البار السيد مقتدى الصدر عن طريق هيئة احياء تراث الشهيد محمد الصدر(قدس)، حيث طبع الكتاب سنة 2014..والذي لابد من التأكيد عليه هو أن السيد محمد الصدر(قدس) كتبه وكان عمره سبعة عشر عام!!والكتب الخمسة المقصودة هي:
1- مسرح المجتمع لتوفيق الحكيم.2- يوميات نائب في الأرياف لتوفيق الحكيم.3- النقد الأدبي أصوله ومناهجه لسيد قطب.4- مع أبي العلاء في سجنه لطه حسين.5- ابن الرومي حياته من شعره لعباس محمود العقاد.
وقد كتب السيد مقتدى الصدر مقدمة مختصرة لهذا الكتاب حيث قال:
(( بسمه تعالىنعم، لم يَكُ مَرجِعاً للفِقه والأصول فحسب، ولم تكن أعلميته مُنحَصِـرَةً بالعلوم الحوزوية التي تعارفَ عليها الحوزويون مِن فِقهٍ وأُصولٍ ونَحوٍ ورجالٍ ومَنطِقٍ بل قد كَسـرَ جميع القيود وخرجَ عن كل ما تعارفَ عليه ذَوِي العلوم الضَيِّقة…. فقد تعوَّدنا عليه  ذو علمٍ غزيرٍ وخفايا كثيرةٍ حتى شاهدناه شاعراً وعالماً بالفضاء وعلوم الاجتماع وغيرها.والآن نحن بين يَديْ أديبٍ وقَاصٍّ يناقش فطاحل الأدباء والكُتّاب بأُسلوب سَلِسٍ ومتخصِّص وبفكر مُتفتِّحٍ قد غاصَ في ثنايا الأدب وفي عوالم القصص وأبحرَ في لُجَجِ تلك الكتب الخمسة التي ناقشها حتى أنه لم ينسَ أُسُس المسرح وخفاياه فقد قدَّم الكثير في تعليقته من النقد البنّاء في علم الأدب وكُلٌّ حسب أصوله ومنهاجه.ولا ننسى باعَهُ الطويل في الشعر ومناقشته في تلك الكتب لبعض الشعراء بالطُّرُق التي تثبت أن الشعر مُتجَذِّرٌ فيه كأجداده لا سيما أمير المؤمنين علي  فجزاه الله خيراً إذ فتح سيدنا للحوزة باباً جديداً من عوالم الأدب والشعر والنَّقد والمسرح وغيرها من علومٍ كانت ولا زالت بعيدة عن طُلابها فضلاً عن مراجعها…فنسأل الله أن يُثبِّتنا على نهجه ولْنَنهل من علمه والله وليُّ التوفيق. مقتدى الصدر)) انتهى.وليس هذا هو الكتاب الوحيد الذي قام بتأليفه في ذلك الوقت بل هناك الكثير من الكتب والمقالات، ولا أريد أن اسجل هنا أنطباعي أو انبهاري أمام هذا اﻹبداع الذي يكون مبرراً لنكران ذاتي أمام ذلك الفتى اليافع بل أريد القارئ الكريم أن يطلع بنفسه بدل أن يتعكز على اﻷكاذيب و هلوسة اﻷحقاد التي ملئت اﻷرجاء لا لشئ الا ﻷجل تغييب هذا المفكر العظيم عن الحياة والتأريخ والضمير….

أحدث المقالات