بغض النظر عما حدث في مدينة الاعظمية ، إثناء الزيارة المليونية للإمام موسى الكاظم (ع) في ذكرى استشهاده ، ومن كان وراء حرق مكتب العقود الحكومية للوقف السني الكائن في هذه المدينة السنية الواقعة على الطريق المؤدية لمدينة الكاظمية الشيعية … وما هي الدوافع الخفية التي تقف وراء مثل هكذا عمل جبان ، أذا ما استثنينا الهدف المعلن وهو إثارة الفتنة الطائفية بين مكونات أهالي بغداد ، الذين استشعروا الأمن والسلام في السنوات الأخيرة ، بعد موجة الاستهداف الطائفي المعلن الذي شهدته هذه المدينة بعد تفجير ضريح الإمامين العسكريين عام 2006 والتي دامت لأكثر من عامين … لكن بالرغم من مرارة تلك التجربة وقسوتها على أهالي بغداد ، بعدما فقدوا الكثير من الأحبة في موجة العنف الطائفي هذه ، إلا أنهم لم يعوا الدرس جيدا ، ولم يبادروا على خلق آلية رصينة للتعايش السلمي تقف على أسس قوية وذات مدى بعيد قادرة على التعامل مع الحالات الاستثنائية والطارئة التي قد تسبب احتقانا طائفيا ، او استفزازا لإحدى المكونات الاثنية يتسبب في إثارة الصراع الطائفي من جديد في العاصمة بغداد … صرفت الحكومات العراقية المتعاقبة بعد سقوط الصنم ملايين الدولارات على مشروع المصالحة الوطنية ، الذي لم تتعدى إجراءاته سوى اللقاءات والندوات البروتوكولية والمجاملات بين النخب ، بعيدا عن نبض الشارع العراقي ودون أن يلمس المواطن البسيط شيء يذكر منه على ارض الواقع ، وظل هذا المشروع فعلا طوبائيا مثاليا غير واقعي ، لأسباب كثيرة منها ، عدم إشراك القاعدة الجماهيرية فيه بصورة فعلية مما يخلق حالة من الانسجام وتقبل الآخر بين مكونات المجتمع العراقي ، الذي تحول البعد الطائفي عنده إلى هاجس وجزء من حراكه اليومي ، بفعل الزخم الإعلامي العربي والبعض من المحلي المحرض على الطائفية ، والصراعات السياسية بين الكتل والأحزاب التي غالبا ما ترتدي عباءة الطائفية لنيل مكاسب فئوية وشخصية على حساب جمهورها …
بعد حادثة الاعظمية تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي فديو يظهر فيه شاب من أهالي الاعظمية يعترض مسير الزائرين للإمام موسى الكاظم (ع) ، وهو يعلق في رقبته لافتة جميلة كتب عليها ( إنا شاب سني ، واحبك يا أخي الشيعي ) ، فكان الرد من الزائرين الشيعة عليه هو القبلات والعناق الحميم في مشهد أبكى الكثير من العراقيين الذين شاهدوه ، أن هذا الفعل الرائع الذي أقدم عليه هذا الشاب الاعظمي أعطانا درسا بليغا عن معنى التعايش السلمي ، وعن رغبة الأغلبية الصامتة من الشعب العراقي في العيش بحب وسلام في هذا البلد الجريح ، الذي أنهكته الأزمات ولانتكاسات ويصبوا إلى حياة حرة كريمة ليس للقتل والصراعات الطائفية مكانا فيها ، أن موقفه النبيل هذا هو بارقة أمل جميلة يجب أن لا تمر مرور الكرام ، وعلينا كشعب استثمارها بإرادة وطنية ذاتية بعيدا عن السياسة وأصحابها ، وهذه المهمة يجب أن تنهض بها النخب الدينية المعتدلة والمثقفين والإعلام الحر ، ومنظمات المجتمع المدني التي يغص بها بلدنا لكثرتها دون أن نلمس منها شيء يذكر غير عناوينها الرنانة …
هناك مظاهر للاندفاع الديني والمذهبي يعيشه الشارع العراقي بفعل بحبوحة الحرية التي تلت سقوط النظام الفاشي عام 2003 ، وقد تثير بعض المظاهر الدينية لطرف ما حساسية الطرف الأخر ، أو تفسر على إنها استفزازا أو استعراضا للقوة ، مما يولد نوعا من التخندق الطائفي لديه ، وخصوصا في المدن المختلطة كالعاصمة بغداد ، هذه حقيقة يجب مواجهتها بعقلانية وحكمة عاليتين ، بعيدا عن التنظير والأطروحات المثالية البعيدة عن الواقع الذي نعيشه الآن ، ولتجاوز كل هذه المخاوف وتفادي الفتن الطائفية يجب أن يكون هناك تحرك من كل الأطراف عبر سلسلة من الإجراءات العملية مثل ، تشكيل منظمات مجتمع مدني مختلطة من كل الطوائف والمذاهب تعنى بمتابعة الزيارات الدينية والعمل على تواجد أعضائها في هذه المناسبات لخدمة الزائرين أو لتقديم الخدمات الصحية لهم ، ويتم إشراك أبناء المناطق التي تمر بها قوافل الزائرين في هذه الخدمة ، مما يولد نوع من الشعور بالأمان والارتياح لسكان هذه المناطق والزائرين معا ، وسحب البساط من تحت أقدام مثيري الفتن الطائفية والمصطادين بالماء العكر ، وكذلك العمل على إقامة مهرجانات وطنية وثقافية يقيمها أبناء المناطق الشيعية في المناطق ذات الأغلبية السنية وبالعكس ، لخلق حالة من الانسجام والألفة بينهم … قد يرى البعض إن مثل هذه الحلول فيها من التسطيح للمشكلة العراقية الشيء الكثير ، لكن ( رحلة المائة ميل تبدأ بخطوة واحدة) ، وان المجتمعات المتحضرة لم تصل إلى هذا التقدم والرقي إلا بعد أن تجاوزت العقد الاثنية والقومية ، وان لمجتمعنا العراقي الشرقي المسلم خصوصيته و(ثقافته الحتمية ) التي لا يمكن تجاوزها بأي شكل من الأشكال ، فالدين والطائفة يشكلان جزء مهم من وعيه الذاتي الذي يتخندق به اتجاه الثقافات الأخرى ، ويجب التعامل معه وفق هذا المنظور البراغماتي … إن ما فعله هذا الشاب ابن الاعظمية ومن قبله عثمان ألعبيدي ، والشاب الآخر ابن مدينة الصدر الذي تطوع للعمل على إصلاح الأضرار التي لحقت ببعض منازل أهل الاعظمية جراء الأحداث التي رافقت الزيارة ، يجب أن تكون خط الشروع لمشروع وطني كبير للتعايش السلمي على هذه الأرض التي شاءت لها السماء أن تكون مهد الحضارة ومحط رحال الأنبياء والأولياء ومثوى لأجسادهم الطاهر .