19 ديسمبر، 2024 12:05 ص

لم يكن هذا الموعد المنتظر من الحياة !

لم يكن هذا الموعد المنتظر من الحياة !

كنت مع الصديق خالد مروان نتسكع في شوارع عاصمة الأردن عمان ، إقترحت عليه زيارة تجمع للمتصوفة تعرفت على أحد المشايخ فيه سيكون له فيما بعد دور المنقذ في مساعدتي بثمن تذكرة الطائرة الى سوريا وتبدل حياتي الى الأبد ، كنت متدينا أنسجم مع تلك الاجواء ، جلسنا بينهم وكانت مناسبة دينية قُدم في الطعام الباذخ ، وقد أعجبني تقاليد الأخوة على مائدة الطعام حيث يبادر كل واحد بتقطيع اللحم وتقديمه الى زميله الجالس معه ، وقد فعلوا هذا الأمر معنا أيضا ، كان التجمع بمثابة الكهف يوفر ملاذاً روحيا يشعر أعضاءه بالتآزر فيما بينهم – كل تجمع هو تعصب – وأيضا يمدهم بالأمان والأمل برضا وحماية الله لهم ، ضعف الإنسان وحيرته تدفعه دوما للبحث عن حلول وتسويات وعلاجات ، ولايوجد أفضل من الدين علاجا مخدرا بالإوهام للحيارى والضعفاء !

شيخ التجمع الصوفي تطرق بشكل متفائل الى الموت والجنة .. إلتفت نحوي خالد مروان وسألني

– (( إن لم يكن لنا موعداً مع السعادة لم تأخر الموت عنا أين العدالة في هذا ؟ )).

مؤسف جدا في وقتها كنت معئباً بالأجوبة الدينية الجاهزة ، ولم أكن مستعدا الدخول في صراعات ومعارك مع التلقين الديني والأفكار السائدة ، كنت بحاجة ماسة جدا الى أوهام الأديان كمخدر لوقف إنهياري امام الفقر والكآبة والمستقبل المجهول الجماعي بعد غزو الكويت ، كانت الخسارة الكبرى هي اننا إستفقنا على فجيعة ان الوطن أصبح موحشاً لايُطاق وتحطمت أحلامنا داخله ، فما كان منا إلا الفرار في تيه المنافي بلا أموال ولا خبرات ، ولا مخطط معقول للمستقبل .

كنت أعرف خالد لا يقتنع بالأجوبة الدينية .. أجبته بسؤال :

– (( لم مجيء الموت بديلا لغياب السعادة .. لماذا لاننتظر قدوم الحظ السعيد ؟)).

– (( لم الإنتظار ؟!))

أجابني خالد مستهجناً ، وأدركت انه تكلم عن خلفية فقدانه الإيمان في الحياة والبشر ، وإعتناقه فلسفة العدم.

بعد حضورنا فعالية جماعة المتصوفة في أداء الأناشيد والأدعية وتناول الطعام ، غادرنا المكان ، وسارع خالد الى سؤالي :

– (( ما رأيك بهذا التجمع القطيعي ؟))

– (( ليس جميع البشر لديهم القدرة ان يكونوا متمردين ، ويتيهون في صحراء الضياع ياخالد ، فالثمن باهض )).

ثم إنتبهت الى نفسي انني لم أدافع عن أصل فكرة الإيمان وسلامته ، بل إنسقت من حيث لا أدري الى إعتبار الدين مجرد وسيلة نفسية ، في لحظة الحوار مع صديق أثق به مما أزال الجانب الدفاعي في النقاش معه وجعلني عفويا و استدرجت ما في داخلي ما كان ينمو ويتبلور من وعي نقدي يشتغل في المناطق الخلفية من الشعور ، أين الجانب الإلهي الإعجازي في المعتقدات الدينية من جوابي الذي تحدث عن عدم القدرة على تمرد جميع البشر على الأديان ، ماهذه النغمة الجديدة ، هل أنا مدرك لما قلته ؟

خالد مروان كان إنسانا نبيلا لايتصيد زلات اللسان ، ولا ينطلق من ثنائية : الهزيمة والإنتصار في الحوار ، ولذلك لم يعقب على كلامي الذي يعد خلافاً لإيماني بوجود دين مصدره الله ، وإنطلق ونحن نتمشى يغني (( ودع هواك وانساه … لمحمد عبد المطلب )) .. من دون إستئذان تسللت دموعي ، وأنا أستنشق ذكراها ، وأتنفسه خيبة وعطرا ، كانت الحدث الأجمل في العمر ، كنت أطاردها في خيالاتي وأرسم لها مختلف الصور ، وأريد سجن نفسي بين جدران عالمها وداخل سطوع وهجها ومغادرة محيطي الأرضي الى لحظة تعلو على كل ماهو بشري ، بُعد آخر من أبعاد الكون ، لماذا لاتكون حياتنا كلها مغمورة بالحب ، نحن نظلم الله عندما نقول بوجوده ونحن بهذه التعاسة على كوكب الأرض والإنسان صناعة فاشلة بعيوبه وأنانيته وعدوانيته وغياب العدالة عن فكره وسلوكه، هذا ليس من صنع الله الكامل ، الوجود عشوائي لا توجد قوة إلهية عاقلة خلفه .. كنت في تلك الأزمة بحاجة الى وجودها وسماع ضحكتها التي تتخذ شكل الغنج المشع بالطاقة المنبعث منها .. طاقة معجزات السعادة والمعنى الكبير ، كانت المحنة الكبرى في المهجر عندما تشعر ان وجودك كله أصبح في مهب الريح .. انت لاشيء !

وداعاً خالد مروان .. كان انتحارك لحظة صدق وشجاعة مع الذات .