22 ديسمبر، 2024 4:39 م

لم يعد الكتاب خير جليس في العراق

لم يعد الكتاب خير جليس في العراق

لماذا لا يقرأ العراقي؟

ما الذي يمكن ان يعوضه عن ممارسة اعظم سلوك؟

ما المعوقات التي ستقف حائلاً بينه والثقافة؟

وهل الانترنت والفضائيات تغنيه عن القراءة؟

لا شك ان هذه الظاهرة تستحق الوقوف عندها، ودراسة اسبابهاواستكشاف طرق علاجها، لا لشيء سوى ان الشكوى ازدادت فيالاونة الاخيرة من اغلب كتابنا من ابتعاد العراقي عن القراءة والتثقيفالذاتي واستبداله بمشاهدة الفضائيات …..ظلت الكتابة هاجسالانسان الاول منذ نزوعه الى نقل افكاره للآخرين على جدران الكهوفبادئ الامر مسجلاً بعض طبائعه في الصيد والفلاحة متنقلاً بعد ذلكالى استخدام الواح الطين، وحين تيسرت له سبل الكتابة القلمية عبراختراع المطبعة والورق صار له كتابه الذي شكل في الحضارةالبشرية هاجساً آخر من هواجس الانسان المتعددة طارحاً من خلالهقوانينه وافكاره ورؤاه.

فالكتاب، هذا العالم الذي يختزنه غلافان من الورق صار رغيفالانسان الذي يشبع العقل والمخيلة، الوعاء الذي تقدم فيه الثقافة ذلكالباب المفتوح على عالم المعرفة، ذلك الجليس الانيس عندما تضيقالدنيا.

الكتاب بكل ما يحتويه من ثروات فكرية، نعم المعلم والرفيق، والمؤنسوالصديق، انه الصاحب الذي لا يمل من صحبته، والاخ الناصح الذيلا يطالب بحق عرفان الجميل، والمحسن الكريم الذي لا يفسد احسانهبالمن الذميم. فهو المرشد الامين، الجميل، والمحسن الكريم الذي لايفسد احسانه بالمن الذميم. فهو المرشد الامين، والعالم الخبير ببواطنالامور، لا يمل اذا مللت، ولا يضجرك اذا سئمت، تطالبه بالكففيستجيب باسرع من البرق، وتطلبه للحديث فيسرع اليك اقصى منالنسيم. ولا يتعالى عن التحدث اليك، ولا تأخذه العزة في مخاطبتك، ولايموه نفسه عليك فيخفي عنك الاراء الصائبة خوفاً ونفاقاً كما يفعلبعض الاصدقاء من بني الانسان، بل يكون صريحاً في التعامل معكلا يثنيه عن ذلك خوف جفائك ولا يكلفك رفداً ولا عطاء، ولا يحملك ايعبئ، بل يعتبر نفسه في ضيافتك وانت المتفضل بخلاف سائر الناس.

ان القراءة والدرس معناها العيش في صحبة اشرف عظماء العصورالماضية والحديثة، وهل يحلم الانسان الكامل البصير في اكثر من انيكون رفيقا لخبرة الناس، فيستفيد من سيرهم وتجاربهم وخبرتهم،فيتأتى باعمالهم الجليلة ويستوحي منها مثله العليا، لانه بذلك، تتوسعمداركه ولا يخطئه النجاح في الطريق التي اختارها لنفسه؟

الواقع، انه اذا اردنا ان نتعرف على تقدم اي شعب من شعوب العالم،يجب علينا ان ننظر الى نسبة الكتب والاعمال الفكرية والاكتشافاتوالاختراعات التي يبدعها.

فبالعلم نصل الى ما نريد من خير وسعادة وأمن وسلام. وعندما ينتشرالكتاب في حياة الشعب يعيش ابناؤه عيشة راقية متقدمة مرضية، واذاانصرفت عنه تقهقر وعاش في بلاء وشقاء.

فللشعوب المتحضرة تقاليد بأن يلجأ افرادها الى الكتب في الملماتبحثاً عن ثقافة ما او معلومة معينة توسع من مدارك تفكيرهم، علىالعكس منا نحن العراقيون، فان ما تعرضنا له من معاناة جراء سنواتالحصار وحرب الاحتلال الامريكي، حرمنا بشكل مؤسف عن الكتابالذي ارتبط باسمنا وانطلق من ارضنا لينتشر في محيطنا العربيوالاقليمي.

هنالك بعض الصفات السلبية التي يصف بها الاخرون سلوكنا ومنابرزها اننا شعب غير قارئ ونحن في كثير من المناسبات نقر بوجودهذه النقيصة فينا، ونلوم انفسنا على ذلك، ولكننا لا نعمل الكثيرللتخلص من تلك النقيصة، على اعتبار انها مرض استشرى فينا ولاحيلة لنا الا ان نتعايش معها، وفي الوقت ذاته ترى بعضنا يحاولانكار وجود مثل هذه السلبية في سلوكنا بحجة ان الغالبية العظمىمن مواطنينا في هذه الايام تؤم المدارس والكليات وانها مسلحة بكلالمهارات والقدرات التي تساعدها على القراءة، فأين تقع الحقيقة ياترى، وان كنا بالفعل شعباً لا يقرأ، فما العوامل/ الاسباب التي تعيقناعن القراءة؟

في البداية احب ان اوضح للقارئ الكريم، الفرق بين امرين اثنين،اولهما القدرة على القراءة وثانيهما عادة القراءة او المطالعة الذاتية،فبالنسبة للأمر الاول، وهو القدرة على القراءة فيمكن القول بأن غالبيةافراد الشعب العراقي يهبون الى المدارس ويتعلمون مهارات القراءةوالكتابة فيها، ولكن تعلم مهارات القراءة والكتابة لا يقود بالضرورة الىتكوين عادة المطالعة الذاتية الا اذا لقيت هذه العادة التدريب الكافيعليها من ناحية، واحيط القارئ بالمناخ المشجع عليها من ناحية ثانية،واقصد بالمناخ المشجع في هذا المقام توفر الاتجاهات الايجابية نحوالقراءة، وتوفر المادة القرائية التي تناسب مختلف الاذواق والاهواء،وتوفر الحوافز التي تشعر الافراد باهمية القراءة وحاجتهم اليها،وتدفعهم بالتالي الى الاقبال عليها مع توفر المتعة في ذلك.

في ضوء المعايير السابقة، يحق لنا ان نتساءل عما اذا كانتمؤسساتنا الثقافية والتربوية وبيئاتنا المحلية قد نجحت في توفيرالشروط الضرورية لتجعل شعبنا قارئاً ام لا؟

ان الملاحظ والمتتبع عن كثب لأمور التدريس الاولي والجامعي يستطيعان يتبين ان مدارسنا وكلياتنا لم تفلح في اكساب طلبتها المهاراتوالقدرات الاساسية التي تلزمهم لممارسة القراءة العادية، وان الكثيرمنهم يشعر ازاء ذلك بأن عملية القراءة عبء ثقيل يسعدهم تفاديهوالتخلص منه، فهل يمكن لهؤلاء الافراد ان يصبحوا قارئين ذاتيين فيظل الاتجاهات السلبية التي تتولد لديهم ضد القراءة وآلياتها.

ان القراءة في حد ذاتها مهارة يتعلمها الفرد خلال مراحل تعليمه،وهذه المهارة ليست بيسيرة، فما يقرأه الفرد مجموعة من الرموز تعبرعن مجموعة من المعاني وتندرج هذه المعاني من البساطة الى التعقيدومن السهولة الى الصعوبة، وعليه، فمهارة القراءة عملية عظيمة تحتاجلقدرة من التركيز والاستيعاب وادارة المفاهيم، وان هذه المفاهيم قدتكون مجردة غير محسوسة، ومن هنا يمكن القول ان احدىالصعوبات التي يواجهها المواطن العراقي، هي ان مهارة القراءة لمتصل لديه الى القدر المناسب الذي يمكنه بموجب الممارسة المستمرةللقراءة وبالتالي الاستمتاع بما يقرأه ومحاورة الافكار التي تتناولهاتلك الكتب.

ان سلوك المواطن العراقي في مجتمعنا يتميز بانعدام اهتمامه بالقراءةاو اقتنائه للكتاب، وان هذا السلوك واحد من المعايير التي يمكن انتميز المجتمع المتقدم عن المجتمع المتخلف.

فعلى الرغم من كثرة المعروض من الكتب، فأن الكتاب لم يعد خيرجليس، لأن هناك اشياء باتت اهم منه واكثر منفعة تنتزعها من يدالمواطن/ القارئ ولا سيما بعد ان ارتفعت اسعار الكتب بشكل فظيع،فعزت مجالسه واصبحت ترفاً.

فالقراءة في العراق اليوم اصبحت شبه ممنوعة، والثقافة هي حقبديهي مبدئياً باتت حلماً عزيزاً يستحيل تحقيقه في ظل الغلاء العامالقاتل.

هكذا يظهر بوضوح، ان القراءة اصبحت في العراق مظهراًارستقراطياً لا يليق الا بمن كانوا بمستواه ونعمة سماوية لا تحل الاعلى من يستحقها بجيبه قبل عقله.

غير ان ربط عدم الاقبال على شراء الكتاب نوعاً ما، سابقاً بالحصاروراهناً بالاحتلال ومخلفاته.. لا يعطي الوضع الواقع كامل ملامحه. فمن جملة الاسباب التي ادت الى عزوف العراقي عن القراءة:

1- المؤثرات الخارجية المحيطة به وبرامج الاعداد للحياة العامة والثقافةالعامة، وتطور الوسائل التقنية بشكل سريع وعدم الوعي التامبتوظيفها الايجابي الذي ينشط العملية العقلية لدى الفرد ومحاولةاستثمار الجانب العقلي في مجالات اخرى، كالابداع والابتكاربالتأليف والكتابة وغيرها من الامور.

2- ان استخدام هذه الوسائل بهذه الطرق اوقفت الاندفاع الفطريلدى المواطن العراقي في البحث والاستقصاء للتعلم عن اضافة جديدةللمعلومات، وهذه المعاناة لا يمكن ان تأتي او يمكن استيعابهاوالاحتفاظ بها لمدة طويلة الا عندما يواجه الفرد موقفاً صعباً ويجتازه،وبالتالي يضيف فكرة جديدة لثقافته، وهذه المعاناة لم يواجههاالعراقي بعد توفر وسائل الاتصال الحديثة والمتنوعة.

3- تشعب الاهتمامات في مجال الحياة اليومية، وخاصة في مجالالعيش والمنافسات الشديدة في نطاق تنمية الموارد المالية، وهو ما ادىالى اعاقة الفرد بعض الشيء عن تحسين وضعه الثقافي بشكل عامباعتبار الثقافة جزءاً من عملية بناء شخصيته وجزءاً من عناصر قوتها،كما انه في ظل الظروف العامة والنظام الاجتماعي في المجتمعالعراقي الآن، ادى الى ابعاد العراقي عن القراءة واقتناء الكتاب.

4- ضعف الاتجاهات الثقافية لدى الاسرة العراقية بشكل عام، فنلاحظمثلاً ان الطفل العراقي لا يحاط عادة بجو ثقافي داخل الاسرة،فالمعرفة الذاتية وعلاقة الاسرة بالكتاب تكاد معدومة عند معظم الاسر،كما ان الام العراقية لا تقرأ ولا تحاول غرس حب القراءة لدى الطفل،كذلك فان الاب نادراً ما يصطحب طفلة الى مكتبة ويشاركه القراءة لأنالقاعدة تقول: فاقد الشيء لا يعطيه.

هذا السؤال في نطاق الاسرة يحاول دون خلق ميل للقراءة لدى الطفل،فالقراءة عبارة عن سلوك مكتسب من الوالدين اساساً.

5- ان المدرسة لا تساعد هي الاخرى كثيراً على تنمية هذه الميولبسبب انعدام وجود المكتبات في جميع مدارس العراق. صحيح انالمكتبة المدرسية هي جزء من الانشطة المدرسية ولكنها لا تشتغل كماينبغي في خلق دافع القراءة لدى الطلاب، وهكذا نجد انه لا الاسرة ولاالمدرسة تحاول تربية الناشئة على القراءة وحب الاطلاع، وهذا مايسبب ابتعاد الطالب عن المكتبة او التردد عليها الا في وقتالامتحانات والبحث عن مصادر لاداء واجبات مدرسية.

6- ان المجتمعات المادية الاستهلاكية تفتقر عادة الى تبني افرادهالاتجاهات ثقافة معينة الا في صور ضيقة ومحدودة مما يؤدي الىالانصراف التام نحو الوسائل الترفيهية والترويحية.

انه من المعروف ان معظم ما هو متوفر لدينا من كتب ومجلاتوصحف محدود ومادتها غير متنوعة، فهل المتوافر لدينا منها يكفيلخلق عادة القراءة الذاتية عند افرادنا وتطويرها ان وجدت، وحتىالمجلات والصحف المحلية، فهل الاقبال على قراءتها ضمن الحدودالمقبولة ام انه متدن بشكل ملحوظ، وهل تتنوع موضوعاتها وتحفل بماهو جديد ومثير؟ ام انها حبيسة نمط تسلسلي معين؟ وهل يتوفربالنسبة للمواطن مؤلفات تصدر عند ظهور الاحداث المفاجئة اوالازمات المختلفة او الظواهر غير الاعتيادية بحيث تتناول كل هذهالامور بالتحليل والتوضيح والتعليق، فاذا كانت هذه الامور غيرمتوفرة، فكيف نطمح ازاء كل ذلك ان يصبح شعبنا قارئاً؟!!

الحقيقة، ان الخوف الناجم عن تراجح الاقبال على القراءة يهددالمستوى الثقافي العام برمته اكثر من هذا، فان المخاطر وصلت الىمستوى حياتي عام وليس الى مستوى ثقافي معين رغم اهميته،فبضاعة المكتبات اصبحت كاسدة لان اقبال الناس على شراء انتاجالمطابع قد تراجع بشكل كبير.

الكتاب في بلد الكتاب بات سلعة كاسدة، والثقافة في بلد الثقافةحصدت ثمار الحصار الاقتصادي والثقافي الذي كان مفروضاً لأكثرمن عقد، وضغوط الاحتلال ومخلفاته مما اصابها بالجفاف،فصاحب المكتبة يتحسر من بطالة، والقارئ العراقي يتحسر من عوز،وانت تتحسر على مجتمع يحرم ابناءه من اقتناء كتاب. وحتى تحياحياة علم ونبعد عنا شبح الجهل عدو التطور وما حق كرامته وعزتهوالمقوص لامنه وسلامته

علينا بايجاد السبل الكفيلة لاعادة الاهتمام بالكتاب، وكذلك ايجادوسائل معرفية اخرى مساندة له.

waleedkaisi@yahoo.com