لم يبق للوصول الى إسطنبول سوى ربع ساعة ، تلبدت السماء بغيوم داكنة السواد وكلما بدأت الطائرة بالإنخفاض التدريجي إزدادت كثافة الغيوم ومساحته ، كانت كتل من دخان أسود داكن ، لم أصدق وأنا أنظر من نافذة الطائرة أن تلك الغيوم تحمل أمطارا ،بل خلد الى أذهان البعض منا أن محرك الطائرة أو جزء ما منها بدأ بإرسال هذا الدخان الأسود الداكن ،لاحظتُ جليسي الذي الى جواري وهو يرسل لي كلمات غير مفهومة ، وتلك المرأة التي أدركت بحدسها أن وضعا ما في الطائرة قد إختلف عما كنا عليه ، حتى الذين كانوا قد أغلقوا المجلات والصحف والكتب عادوا
وفتحوها وبدأت أعينهم تتلصص بين العبارات وبين لحظاتهم القاتمة ،
سمعت المضيفة تقول للجلاس في المقاعد 31،32،33 تقول لهم كل شيء هادي وتبتسم لهم بعذوبة وبثقة من أننا سنهبط مطار أتاتورك بعد وقت قصير ،
لم يطل إستغرابي من الصمت الذي حل فجأة في الطائرة ولم يطل إستغرابي من أن الشكوك قد تنتشر عبر الحواس وعبر الملامح وعبر التفكير الباطني بالمصير ، ولكي يكون حالي كحال الأخرين من الركاب مددت يدي لحقيبتي وتناولت كيفما شاء كتابا من مجموعة من الكتب التي معي ، لم أدقق في صفحته الأولى (صفحة الغلاف ) كي أقرأ إسم الكتاب ومؤلفه وصورة الغلاف لكني مباشرة تطلعت الصفحة الأولى من الكتاب وقرأت أسفل الصفحة ( المُهر الأحمر ) وفي الزاوية العليا كان هناك إهداء وإمضاء لصاحب الإهداء ،
كنت ذلك اليوم ضجرا من جلوسي في البيت وكان اليوم هو الرابع من مايس للعام 1998 ،مررت
في منطقة باب المعظم ثم عبرت مشيا جسر مدينة الطب وأستدرت من جهة الكرخ الى جهة الرصافة عبرَ طريق جسر الشهداء وعند منتصف الجسر وجدت رجلا أشهبا يفترش الجسر وأمامه مجموعة من الكتب المعروضة للبيع ، وما أن لمحت جون شتاينبك حتى أخذني الزهو بمعرفة الكثير عن إسلوبية هذا الكاتب ومضامينه المتشعبة ولغته المحكمة وسرده المتعدد الإنتقالات ،لم أتذكر كم دفعت ، أتذكر كان مبلغا زهيدا مقابل أحد الأعمال الكبيرة لهذا الرجل ، وأنا على الجسر ( جسر الشهداء ) تصفحت المحتوى وأتذكر أنني قرأت الإهداء وأتذكر حينها قلت لنفسي بعد أن قرأت المهر الأحمر قلت ( أنها رواية ) رواية بصفحاتها ليست كالروايات الطويلة ، وبما أنني خرجت من البيت ضجرا فلابد أن أعود اليه بحيوية ما وبمزاج أخر ، سلكت الجهة اليمنى والتي تقودني عبر البنك المركزي من جهة اليمين وسوق الشورجة وعمارة البدوي من جهة اليسار وواصلت السير حيث مكتبة مكنزي ثم بداية جسر الأحرار وساحة الوثبة فــ ( أورزدي باك )
ووصلت مرادي الى حيث المقهى البرازيلية ، أخترت مقعدا في زاويتها القصيّة ،وتهيأت لقراءة شتاينبك (عند طلوع النهار ،
خرج بِلي بَك من مرقد العمال ،
ووقف لحظة في شرفة المدخل ،
رافعاً نظره الى السماء ) ،
قلت وأنا في الطائرة (لم تكن لي هنا شرفة ، أو سماء ، كي أرفع رأسي )،
ثم إستطرد شتاينبك (وصل بِلي الى بيت السيد تفلن ،
وأومأت له الخادمة برأسها الأشهب ،
جلس على الدرجات بأنتظار سيده،
ولأنه عامل أبقار ،
فلن يكون من المناسب أن يدخلَ
الى غرفة الطعام أولا .
ناديتُ نادلَ المقهى وطلبت فنجانَ قهوةٍ أخر ، وبلا مناسبة إقشعر بدني حين تذكرت كيف طوى جزار
اللحوم في مدينتنا ساقي الثور وربطهما الى رقبته وقام بحزها تاركا لنا على الأرض بقعا داكنة الإحمرار وخوارا يصل أبواب السماء ،
وحين أتى النادل بالقهوة سألته :
لو سقطت طائرة في البحر هل يموت الركابُ جميعهم ،
كان جليسي في الطائرة يعدد تلك الإفتراضات ويرتعش كلما ضاقت عليه رحمة الإفتراضات بل أنه صرح لي بأنه لايجيد السباحة وأن وزنه تجاوز الثمانين وإنه.. ولم يكمل جملته في الوقت الذي نادى بِلي على المهر الأحمر :
يحسن بك أن تأوي الى الفراش ،
يحسن بك ،
لدينا أعمال كثيرة في الصباح ،
زادت الطائرة من انخفاضها وقلت سرعتها ولم تظهر الأرض ،
قال لي جليسي الذي تجاوز وزنه الثمانين ،
الى الآن لم تظهر الأرض ،
حكيت له عن رأس الرجاء الصالح ورحلة ماجلان ،ولم يكمل جملته لكنه أسرَّ في أذني هل تسمع بكاءً في الطائرة ،
في مدرسة البتاوين الثانية كنا نبكي صباح كل يوم خميس عندما يحضر عباس الصراف مدير المدرسة العرض الصباحي ، كنا صغارا نخاف التفتيش ونخاف النصائح ، ونبكي حين يطلب المدير منا قراءة النشيد الجمهوري ،
في غرفة عدة الخيول ، رفع بِلي الّسرج المراكشي من فوق ظهر المهر الأحمر وأوضح للذين أمامهُ ( إشترينا سرجا جديدا من مزاد شريف الشرطة ، باع أشياء كثيرة
فقد تراكمت عليه الديون) ،
تأفأفَ جليسي ، لدي حاجات ثمينة لوكنت أدري لبعتها جميعا ، وعلا صوته ، لمن سأبقيها لمن ،
ونحن بعد لم نر الأرض ، ولم أكمل قهوتي، صرخت بنادل القهوة وكنت قد حسبته الرجل الذي أكثر من تدوير إفتراضاته صرخت به : كُف
كُف عن هذا الهراء ،
لم يبق للوصول الى إسطنبول الا دقائق ولم نر الأرض ، ولم يبق لبيع المهر الأحمر إلا نفس تلك الدقائق ولم يحضر المشتري ، وهناك شكوك لدى المضاربين في ساحة بيع الأحصنة والثيران لديهم شكوك شبيهة بالشكوك التي لدى ركاب الطائرة بأن المهر الأحمر والإنسان قابلان للهلاك بأقلِ من دقيقة إن حطت الطائرةُ في مطار إسطنبول أو لم تحُط ،