قد يغير الاعلام بكافة ادواته القديمة و وسائله الحديثة ما لم تستطع تغييره جيوش جرارة ؛ ففي السابق كان يتعرض المرء لشتى المضايقات والضغوط الحكومية والاجتماعية بل وقد يسجن في غياهب الظلمات ويتجرع اصناف الالام والعذابات ويعاقب بمختلف العقوبات المادية والمعنوية ؛ ومع كل ذلك لا يترك عقيدته السياسية او يغير ديانته او يبدل جلده وقوميته ؛ بينما تستطيع الان وسائل الاعلام المختلفة من فعل ذلك دون مشقة أو عناء , وبكل بساطة ويسر ؛ فطالما جعلت الناس تغير قناعاتها الدينية والسياسية والثقافية وغيرها ؛ وتبدل عقائدها واراءها وتوجهاتها , بل وتدفعهم للنزول الى الشارع واعلان العصيان والتمرد ومن ثم انبثاق المعارضة والمظاهرات والثورات والانتفاضات لإسقاط الاوطان والحكومات احيانا , وكذلك بإمكانها تطوير او تدمير الجماعات والمجتمعات ؛ فهي من الاهمية بمكان ؛ لذا قيل انها السلطة الرابعة ولو انصفوا لقالوا انها الاولى وبلا منازع ؛ اذ ان بقاء السلطة السياسية والسلطات الاقتصادية والدينية والعسكرية وغيرها مرتبط ارتبطا وثيقا بقناعات الشعوب وثقافة الامم وهذه بدورها تتأثر سلبا او ايجابا بالإعلام و وسائله المتعددة .
وعليه اصبح الاعلام سلاحا فتاكا اخطر من الصواريخ المدمرة والقنابل المنفلقة ؛ وبما انه سلطة قوية , ويتلاعب بالعقول والنفوس ؛ ويرتبط مصير الاوطان والحكومات والمجتمعات به ؛ سعى الاقوياء واصحاب النفوذ وبكل ما أوتوا من قوة للسيطرة عليه والتحكم به ؛ لذا تشاهد ان وسائل الاعلام في اغلب دول العالم الثالث ولاسيما في الدول ذات الانظمة الشمولية والدكتاتورية او ذات الطابع العسكري والبوليسي والمخابراتي او تلك التي تحمل حكوماتها أيدولوجيات دوغمائية ومتخشبة ومتحجرة … الخ ؛ خاضعة لتلك السلطات السياسية وغيرها ولا تتسم بالموضوعية والاستقلال والحرية ابدا , وتردد نفس الشعارات والاسطوانات المخرومة كالببغاوات ؛ و لذلك لو بحثت في وسائل الاعلام وتتبعت الصحف العربية فلم ولن تجد اعلاما عربيا واحدا يتجرأ على بيان رأيه الحقيقي في اداء الحكومات او يقوم بالنقد البناء للسلطات ؛ فالنقد البناء في تلك الدول ممنوع فضلا عن الانتقاد والاعتراض … ؛ في حين تجد الاعلام الغربي يصول ويجول ويسخر من رؤسائه على الهواء مباشرة دون حساب أو عقاب … .
الاعلام العربي بل واغلب اعلام دول العالم الثالث مسخـّر تماما إما لخدمة الحكومات والسلطات والتكتلات والمافيات , او للتبجيل والتمجيد والتقديس والتطبيل للرموز السياسية والدينية والاجتماعية وغيرها ؛ فهو اداة بيد الاستعمار الخارجي والاستحمار الداخلي احيانا , وفي ظل تلك الظروف السياسية والثقافية العامة تكثر الكوابح الفكرية والممنوعات والخطوط الحمراء التي يمنع الاقتراب منها ؛ فان اراد الكاتب او الاعلامي في تلك المجتمعات ان يعيش بسلام وامان وان تستمر صحيفته في الصدور وموقعه بالنشر ؛ عليه بمماشاة المسؤولين والتماهي مع السلطات واصحاب النفوذ والتكتلات , او مدحهم والاشادة بهم , وان لم يفعل ذلك ؛ فعليه ان لا يذمهم او يسخر منهم او يكشف الاعيبهم ومؤامراتهم وعمالتهم وخيانتهم ؛ والا تعرض للقتل والسجن والنفي والمطاردة قبل ان تغلق صحيفته او موقعه او قناته .
ان حرمان الكتاب والشخصيات والمجتمعات من حقوقها في النقد والتعبير عن الرأي والاختلاف ؛ يعرض تلك المجتمعات الى التحجر والتكلس والفشل والتأخر , واصابتها بمختلف الامراض والعقد النفسية والاجتماعية , وانبثاق الموانع الاعلامية الكثيرة والخطوط الحمراء العديدة التي تحرم البلاد من التطور والازدهار والابداعات والاصوات الحرة , وعندها تبقى وتستمر الأنظمة المستبدة والأيديولوجيات المنغلقة والتكتلات المتعصبة والتحزبات الدوغمائية المتحجرة ؛ علما ان مراجعة سريعة للتاريخ تبين لنا ان الحكومات والتكتلات والسلطات المتعصبة انما فشلت وانهارت لأنها منعت النقد والاختلاف، وأباحت المديح والمداهنة والنفاق وشجعت على التقديس والتمجيد ومحاربة الاصوات المختلفة والآراء المغايرة ؛ فأينما وجدت المجتمعات المأزومة و الحكومات الفاشلة والانحطاط السياسي والفكري والثقافي ؛ وجد التعصب والانغلاق والطائفية والدكتاتورية والتقديس ؛ وكذلك وجدت مظاهر مطاردة الاحرار والمخالفين والمختلفين , ومحاربة الاصوات الحرة المستقلة غير المؤدلجة ؛ ومنعت الحريات لاسيما حرية التعبير ؛ وامتلأت السجون بأصحاب الرأي المخالف … الخ ؛ نعم هناك ارتباط وثيق بين نوعية الاعلام ومستوى وعي المواطن ؛ فكلما كان المجتمع يتمتع بدرجة عالية من الثقافة والتقدم والرقي وحرية الرأي والتعبير كان اعلامه متقدما ومبدعا ؛ فالمجتمع المتقدم يرفض اعلاما بذيئا متخلفا غير هادف او اعلاما مؤدلجا دوغمائيا تافها او غير منتجا ؛وبذلك يفرض على الاعلام بأن يكون بالمستوى المطلوب لوعي الجماهير , الا اننا اسلفنا سابقا بان الوعي الجماهيري يعتمد على الاعلام المنبثق من المجتمع , وهذا الاعلام قد يؤدي دوره الايجابي في التنمية والوعي والتطوير اذا تخلص من كافة الاصر والاغلال السياسية والاجتماعية وغيرها ؛ فالعلاقة بينهما تداخلية ومتشابكة .
ونرجع الى مصيبة دول العالم الثالث والمسيطر عليها داخليا وخارجيا ؛ فهي بين مطرقة العملاء والخونة والفاشلين والحمقى والمتعصبين وبين سندان قوى الاستكبار والاستعمار والتدخلات الخارجية الغاشمة , اذ يحرم على الكاتب الحر والاعلامي المستقل من التفوه بما يؤمن به , لذا تجد الاصوات الحرة محاصرة ولا يسمح لها بالتمدد او الوصول الى جماهير الوطن وابناء الامة , ولو قضيت وقتك في البحث عن مواقع ومراكز ومنصات وصحف اعلامية مستقلة ؛ لما ظفرت بشيء وعدت بخفي حنين , اذ لا يوجد اعلام مستقل بتاتا ؛ والدليل على ذلك مقص الرقيب الذي قد ينشر لك مقالة واحدة بينما قد يحذف مئة , واحيانا قد يتطور الامر وتتوسع دائرة الحضر ؛ وعندها لا تستطيع النشر مطلقا في وسائل الاعلام لاسيما اذا جاءت بك توصية خاصة , وقد يكون المنع من ممول القناة او المنصب او الموقع او الصحيفة وليس من صاحبها , او من الحزب الذي ينتمي اليه , وقد تكون من رأس الهرم في الصحيفة او القناة او الموقع نفسه , وشتان ما بين الاعلام المستقل وغيره ؛ فالمسألة ليست مسألة ادعاءات وشعارات , فالكثير من الذين يدعون الاستقلالية في الاعلام هم ليسوا مستقلين ؛ و قد لا تجدي هذه المقولة نفعا مع الاعلام فالمشاهد ليس ساذجا لدرجة انه لا يميّز بين الاعلام المستقل وغير المستقل … .
وعلى الرغم من اختلاف الاوضاع في العراق عن بقية الدول العربية من ناحية الحريات والديمقراطية وحرية التعبير والاعلام ؛ فالحرية والديموقراطية التي يتمتع بها العراقيون لا توجد مثلهما على أي أرض عربية أخرى ولكن الاخطاء المتكررة التي وقعت فيها الفضائيات و وسائل الإعلام الاخرى ؛ حجبتها عن هذه النعمة والميزة ؛ حيث انتشرت الجيوش الالكترونية والذباب الالكتروني والقنوات الفضائية والعنصرية والمراكز والمواقع المشبوهة والمنكوسة والمرتبطة بالجهات والاجندات الخارجية , وليس سهلا على الفضائيات والاذاعات العراقية والاعلام المحلي بكافة وسائله ؛ ان يسير في طريق الموضوعية والحيادية والاستقلال ؛ بعد أن طبعت بصماتها المتحيزة في ذهن المشاهد والمتابع والقارئ مهما حاولت فهذا الامر بحاجة الى وقت طويل كي تؤدي رسالة جديدة حيادية وتعيد بناء الثقة ؛ ولعل فشل اداء السلطة الرابعة في العراق ؛ دليل على ما ذهبنا اليه انفا ؛ فالسلطة التي لا تحرّك الشارع ليست بسلطة والاعلام الذي لا يحرّك القاعدة الشعبية أو أصحاب القرار ليس بإعلام بتاتا .
ويخطئ من يظن ان هذه القيود المجحفة والاصر الباطلة والخطوط الحمراء او التلويح بالعصا ؛ قد يثني الكاتب الحر عن رسالته والاعلامي المستقل عن اداء مهمته ؛ فالحر لا يخضع لأحد ولا يتبنى قناعات الآخرين ؛ وان اشتركنا مع الاخرين ببعض المشتركات السياسية او الثقافية او غيرهما ؛ فهذا لا يعني اننا نسخة منهم طبق الاصل ؛ فقد نتفق معهم بقضية بينما نختلف معهم بمئة قضية ؛ والمشكلة ان بعض المؤدلجين والاصنام المتكلسين والمنكوسين من القائمين على تلك المواقع والمراكز والفضائيات والصحف والاذاعات ؛ لا يقبلون العمل مع الكتاب الاحرار والاعلاميين المستقلين ولو بدائرة المشتركات والاهداف الواحدة ؛ فشعارهم اما ان تكن معي بقضك وقضيضك والا فلا ؛ وهذه السمة من اكثر السمات التي يتصف بها الحمقى والمتعصبين وقليلي الخبرة وقصيري النظر؛ اذ يطلبون من الاحرار تمثيل الادوار …!!
كثيرة هي المواقع والمنصات والصحف الا ان المستقلة منها قليلة , واقل منها تلك التي تنشر كل ما يكتبه الاعلاميون والباحثون والمحللون والمثقفون ؛ وخلال متابعاتي الطويلة لوسائل الاعلام المختلفة ؛ تعرفت على عدة امور منها : ان كل تلك الوسائل والمواقع الاعلامية غير مستقلة باستثناء مواقع ومنصات ومراكز قليلة على عدد الاصابع , والبعض منها لا ينشر لك الا اذا كانت صاحب نفوذ او تتبرع للموقع والصحيفة او تجلب لهم اعلانات , واغلبها مؤدلجة لذا تراها لا تنشر ما يتقاطع مع تلك الأيدولوجيات , وهنالك تنسيق خفي بين بعض الوسائل والمواقع الاعلامية ؛ فقد تجد صحيفة (ب) التي تعادي صحيفة (ج) في الظاهر , وموقع (ف) الذي يتعارض مع موقع (ق) في العلن … الخ ؛ الا ان القائمين عليها بينهم تنسيق سري ؛ فاذا تم حضرت من قبل صاحب المنصة الفلانية ؛ يتم منعت من الكتابة وعلى الفور من قبل صاحب الموقع الفلاني الذي يتقاطع ظاهريا مع صاحب المنصب المزبور ؛ فضلا عن انتشار المرضى والمعقدين والحاسدين والحاقدين والطائفيين والعنصريين والحزبيين في تلك المواقع والمراكز والوسائل ؛ اذ يعمد هؤلاء على استبعاد الاصوات الحرة ومحاربتها واقصاءها بل وقد يجتمعون عليك كما تجتمع الضباع على الفريسة ؛ تنفيسا عن امراضهم النفسية وعقدهم الاجتماعية , او من اجل قبض ثمن عبوديتهم الطوعية .