18 ديسمبر، 2024 5:26 م

يتساءل الكثير منا بلهجة العتب على الذات ، او باسلوب الملامة على الآخرين ، ( ليش يا ناس نرجع ليورة ) وشعوب الأرض تقطع أشواطا وهي تجري نحو الأمام ، والحق لسنا وحدنا في العراق نتراجع للوراء فالاخوة العرب هم مثلنا ، لا بل ، كل الدول الإسلامية ، من أفغانستان إلى المغرب ، ولكن ما يحدث في بلدنا يسبق الجميع في التراجع ، ويتأخر عن الكل في التقدم . والكل ( خاصة المختص في علم الاجتماع ) صار يبحث لا عن الأسباب بل يحاول أن يجد لنا الأعذار أو المبررات ،
وصف الحال بعد الاحتلال .
أن من ينظر إلينا يوم التاسع من نيسان عام 2003 لا يجد فينا غير تجمع بشري معبأ بنوازع داخلية تحمل احقادا متنوعة على النظام السابق والأنظمة الأخرى التي توالت على حكم العراق منذ تأسيس دولته عام 1921، ولم يكد هذا التجمع البشري محاولا إفراغ متراكماته والتنفيس عن مكوناته ، ولو بطرق أكثرها لم تكن شرعية ، حتى جاء النظام الجديد ليعمل على إعادة شحن المجتمع باضافات جديدة دفعت به إلى أن يحطم بوصلة المسار ، وانفلت الجموع بعد (القدوة التي تبوأت المناصب ) نحو تحطيم الدولة ومرتكزاتها وكأن الدولة ملكا لصدام وعشيرته ، وقد شجع المحتل الماكر ذلك السلوك وافسح له الطريق واسعا عند حله للجيش وتسريحه للقوى الأمنية ، وانطلق النهابة نحو مكتنزات الدولة ولكن هذه المرة لم يكن الأمر من باب التنفيس ، ولكن كان من باب السرقة والتدليس، وهكذا بدأت الخطوات الأولى في الانحدار ، ولكن هذه المرة صار انحدارا مبوبا بدأ بسكوت المحتل على بناء الدولة الموازية القوية ، والتشجيع على إقامة الدولة الرسمية الضعيفة ، وقد ترافق ذلك شيوع مبدأ الحرية المطلقة ، وصدور قرار مجلس الأمن رقم 1546 ، وهو القرار الذي رسم طريق تطبيق الديمقراطية المستعجلة ،في شعب خرج توا من قيود الدولة الشمولية التي كان في ظلها يطلب من الكل بلا استثناء تمجيد البعث الخالد وصدام القائد ، وهو أيضا القرار بدأ بالديمقراطية النيابية ( نقل تجربة النظام البرلماني لاعرق ديمقراطية في العالم ) وهكذا بدأنا بمجلس حكم طائفي لننتهي بمجلس نيابي عائلي . وبذا صار الانحدار مركبا ، فهو بات انحدارا سياسيا محتواه لا يتعدى الإتيان بما هو جديد على الناس من تطبيقات مشوهة للديمقراطية،، وانحدارا اجتماعيا مؤداه خراب في الذمم أو تتقهقر في المفاهيم والقيم ، وهو ما يهمنا في هذا المقال ،
مكامن الضعف في مجتمعنا وعوامل الانحدار .
ربما لا يتفق معي بعض القراء ، وانا اسلم بما ذهب إليه الدكتور علي الوردي في كتابه شخصية الفرد العراقي ص45 وهو يقول إن العراقي سامحه الله أكثر من غيره هياما بالمثل العليا في خطاباته وكتاباته ، لكنه في نفس الوقت من أكثر الناس انحرافا عن هذه المثل في واقع حياته ، وهذا ما كان وراء كل هذا الصخب في الفضائيات لهذا المسؤول الحكومي الكاذب ، أو ذاك المحلل السياسي المناكف ، ولو تحقق كل ما يقوله الموظف الحكومي ، أو ما يدعيه المحلل السياسي لاعتقد الغريب المشاهد ، أن العراق يقع في مقدمة دول العالم .
أن الفرد العراقي مصاب بمتلازمة كره الحكومات وحب مخالفة القانون وكما يقول الوردي في كتابه دراسة في طبيعة المجتمع العراقي ص 389 ، أن الحكومة العراقية مصابة بعيوب وأدواء شتى ، فهي قد انبثقت من المجتمع الذي تعيش فيه واستمدت طبيعتها منه ، فإذا كان المجتمع مصابا بالعيوب والادواء، فهي لابد أن تكون مثله مصابة بها ، وبفعل من هذه الحقيقة اشتركت الحكومات المتعاقبة والمواطن على حد سواء في بناء أنظمة لا تكاد تغادر التخلف إلا لمسافات محدودة بالقياس إلى ألتقدم الذي وصلت إليه دول اخرى ، والغريب أن التراجع صار مضاعفا بعد الاحتلال ، فقد تبادل المواطن والحكومة أدوارا كل حسب اختصاصه ، الحكومة تخرب بفسادها الدولة والمواطن يخرب بسلوكه المجتمع ، وهكذا بدأ الانحدار العام حتى طال كل شئ ابتداءا من التعليم العالي وفي ثناياه من زور الشهادة أو خرب معنى الريادة وهو يجلس الامي على كرسي العمادة أو آخر يقبل بحثا علميا مكتوبا لا ينقص ما فيه لا يجري عليه زيادة ، مرورا بالتربية حيث الوزير الفاسد وهياكل المدارس الحديدية أو وزيرا يوزع على الطلبة البسكويت منتهي الصلاحية ، أو خراب المعلم وتأكل الأبنية المدرسية ، أو مرورا بالصحة وتراجع خدماتها الطبية أو فراغ هذا المشفى من وسائل العلاج أو غياب الأدوية ، ولنا في الصناعة طامة كبرى هو أن أمريكا الرأسمالية لا تقبل بالشركات الحكومية وقد قبلها السياسي البليد على أنها قاعدة اقتصادية ، لنترك الإنتاج ونتجه صوب المنتجات الأجنبية ، الزراعة لا تنمو بالحمائية التجارية دع المستورد ينافس المنتجات المحلية ، طماطة البصرة عالية الثمن وطماطة الغير هي الاحسن والارخص ، و، و ، وصولا إلى إنحدار العدل والثقافة ومعادات المسرح والسينما لأنها من الأعمال الشيطانية .
أن قبولنا بالابن الفاسد وعدم تقريعه ، هو اعتراف بتدني قييمنا ، أو أن سكوت الام على ابنها المرتشي ، هو التخلي عن مفعول حليبها النقي ، أو أن عدم اكتراث الزوجة بمصدر رزق زوجها هو تضامن في الإتيان بما هو حرام . أو أن شيخ العشيرة يتضامن مع أبناء عشيرته للتعدي على أنابيب النفط ، أو عدم اكتراثه بما يفعله أبناء جلدته من تهريب للمخدرات أو التعاطي ببيع الأسلحة بكل أنواعها . ولو فارق أي منا دور العشائر لوجد أن بعض من ضعاف النفوس في بعض قوى الأمن كانوا وراء الكثير من الخروقات القانونية ، سواءا اكان ذلك عن طريق المساعدة في انتشار الفساد ، أو عدم الأخذ بزمام المبادرة للقضاء عليه ، وهناك الكثير من الجهات الحكومية انخرطت هي بدون تحفظ في هذا الوباء وصار في كل لحظة تكتشف النزاهة فسادا وفي كل الدوائر الحكومية بلا استثناء ، وهذا يأتي ضمن التراجع الذي لم يعد أحد بقادر على تحديد بداياته أو الوصول إلى نهاياته ، وهكذا يستمر التساؤل لا بل والاستغراب من حجم هذا التراجع ليصل إلى درجة الانحدار ، ومن كثرة تنوعاته وتشعب طرائقه أصبحت وسائل معالجته بحاجة إلى نهضة شعبية تعمل من الداخل على تحطيم هذا التراجع ، وقبل ذلك التمهيد للاعتراف بتوسعه ورفضه من الاعماق .