كل انسان يولد لا يفهم شيئاً, وهذا شيء طبيعي, كونه قد أتى حديثاً, ليتعلم بعد ذلك شيئاً فشيئاً, إلى أن يكتمل عقله, ولكن أن يصل الى الستين, ويقول: شفتهمنا!؟ فهذا شيء غريبيقول والدي ذي الثمانين عاما: أن أمي ولدتني, في السابع من محرم, والناس تنادي” يا عباس جيب الماي لسكينه”, أما والدتي فتنادي” ياعلي”, فهي مخالفة النداء, للحالة التي تمر بها كل والدة, ومن الطبيعي أني لم افهم شيءً حينها, كبرت ووصلت للخامسة من عمري, فشد والدي الرحال, مستصحباً العائلة بالكامل, للسكن في بغداد, مدينة واسعة مختلفة عما ألفته, ولم حينها ما هو السبب!تحولنا من دار لآخر, فشاهدت لأيام عدة, خروج مجاميع تهتف, ثم يحصل العراك, على ماذا ولماذا؟ لا أعلم! سجلني والدي في المدرسة, عند وصولي السن القانوني, وفي يوم من الأيام, سمعت هتافاً يتجه للمدرسة” فلسطين عربية فلتسقط الصهيونية”, ليتم إبداله بهتاف غريب” لو تطلعوهم لو نكسر الجام”, فيجيبهم الطلبة الكبار, منادين إدارة المدرسة” لو تطلعونه لو نكسر الجام”, ولم أفهم شيئاً! ولكننا أخرجنا من المدرسة.عند وصولي للدار, سألت والدي عن السبب فقال: إنها تظاهرة, تجري كل عام في وعد بلفور, حيث تم بيع فلسطين! شاهدت يوماً وأنا في السوق مع أمي, الزعيم الذي أسقط النظام الملكي, لقيم نظام جمهوري, والناس تنادي:” عاش الزعيم عبد الكريم قاسم” ولم أفهم لماذا ينادي الناس, ثم توالى على الحكم, عبد السلام فمات في سقوط طائرة, فاستلم أخيه عبد الرحمن, ليقطه حزب البعث! فسمعت نداءً يوماً ما, ” بالروح بالدم نفديك ابو هيثم” ثم تنحى ذلك الأبو هيثم, ليمسك بالسلطة صدام, فينادي الشعب” بالروح بالدم نفديك يا صدام”, ولم أفهم أي شيء, رغم أني تجاوزت العشرين من العمر!أقف عند ذلك النظام البعثي, كوني كنت أعتقدُ, أني وصلت لمرحلة الفهم, وإذا بأناس تؤخذ للسجن, واعدامات وترحيل, وخلافاتٌ بين الشعب, مؤامراتٌ وحروب, تكلَّلَت باحتلال العراق بلدي, وإذا بي أشاهد الشعب يخرج, ليهتف” وين الحاربك وينه, صدام النذل وينه”, ما الذي يجري!؟ هل تغير الشعب, أم انه فصام بالشخصية!؟ لم أفهم!جرت السنين مسرعة, ليتهم هذا الفريق فريقاً آخر, إلى أن وصل لسمعي هتاف” بالروح بالدم, نفديك ابو اسراء”, ليضيع بعدها ثلث العراق, ويصبح بيد تنظيم إرهابي اسموه “داعش”, ذبحٌ وجلدٌ, سبي, كأني أقرأ تأريخ ما قبل الإسلام, أو واقعة كربلاء جديدة, شملت العراق بكامله!.ما بين هذا وذاك من الأخبار, اتهاماتٌ بالسرقات, وشبهات بالفساد, ليصرح كل من يخرج على الشاشة, امتعاضه مما يقوم به خصمه, والخصوم شركاء بالحكم, يأكلون على مائدة واحدة يتزاورون, يجتمعون, يتحادثون بأدب واحترام, سرعان ما ينقلب الأمر, الى عراك واتهام! وأدرك أني لم أفهم شيء!نادى الشعب” نريد الإصلاح ومحاسبة الفاسدين”, فردد الساسة النداء كأنه صدىً, “نريد الإصلاح”, ولكنهم كما يبدو, لا يعلمون من أين يبدؤون! فكلهم متهمون, خرجت تظاهرات, رُفعت صورٌ, قيل أنها تمثل الفاسدين, وسارقي قوت الشعب, ولكن أغلبهم قد انتخبهم الشعب, فما الذي يجري؟ لم أفهم!تظاهرات علمانية, تنادي بإسقاط الفاسدين, فيقوم رجل دينٍ, بتحشيد أتباعه, ليتظاهر بهم ويعتصم, فيقف العلمانيون معه ويعاضدوه مؤيدين! وبدل الإصلاح يخرج تغيير الوجوه! فينتفض من تشوبه الشبهات, ومن كان ينتقد الاعتصام الشعبي, ليعتصموا في البرلمان! ويكونوا تحت القبة برلماناٌ أسموه” برلمان الاعتصام” ولم أفهم شيئاً!أبناء العراق ضاعوا فكرياً, ما بين تظاهرات واعتصامات شعبية, ونداء بالإصلاح, وتكوين حكومة تكنوقراط, يتحولون إلى تأييد من اتهموهم بالسرقة والفساد! وهذا يذكرني بكلمة كان يرددها” غوار الطوشي: ” فهمتوا شي لا ما فهمنا”.وإلى أن يفهم ساسة العراق الإصلاح, ليفهم الشعب العراقي بعد ذلك, أترككم حتى أفهم, بعد أن ناهز عمري الستين.