إتصلت بها كعادتي أسأل عن صحتها، أجابتني ببطئ أنها الآن أحسن ومستمرة في تمارينها في مركز العلاج الطبيعي. وسألتني عن حال المندائيين، ولابد أن أقول لها أنهم بخير من الله الحي. وتابعت معي عن مؤتمر رابطة الثقافة والفنون فأعلمتها عن نجاح أعماله، وذكرها فيه كونها الرئيس الفخري. وجرى الحديث عن من إتصل بها مهنئا لها على نيلها الدكتوراه بجدارة. ثم تابعت معي أين وصلت في موضوعة نشر مادة رسالتها بكتاب، فأخبرتها أن الكتاب صار جاهزا وقد قمت بإتصالاتي بعدد من دور النشر، ولكن الأمر يتعلق بسياساتهم في التسويق، ثم أخبرتها بأن الإتصالات جارية الآن مع الناشط العراقي الأستاذ سعد سلوم لأننا نريد للكتاب أن يأخذ مداه في العراق أيضا. فرحت كثيرا، ليس لأن يصدر لها كتاب فدواوينها التي صدرت عديدة، ولكنها تريد أن تسجل أنها ظلت حيّة عَطيّة وهي في التسعين، ثم تنهدت وقالت: ” كنت مقهورة! ” لأنها لم تسنح لها الفرصة خلال السنين السابقة بنيل شهادة الدراسات العليا لما تدركه في نفسها أنها أهل له، فهي فوق أنها شاعرة بما عُرف عنها وما كـُتب وما دُرس وسيظل يُدرَّس، هي أستاذة قديرة في البحث في تأريخ الشعر والأدب وفنون البلاغة والإلقاء وفي النقد والتعليم، وكانت كفاءاتها غير الشعرية كفيلة بنيل الدكتوراة وبامتياز لتأخذ مكانها في التدريس الجامعي، إضافة لشاعريتها التي نيل بها شهادات ماجستير ودكتوراه من طلبة عديدين.
قالت: حاولت مع برفسور كاكو عام 1976ولكني كنت جامحة ولم يكن لي صبر العلماء وأناتِهم في المتابعة، وحين تأنيت وصار لدي الوقت لم أجد الفرصة، حتى جئت أنت وسعيت معي. “أدري أنك تريد أن تفرّحني، وقد أدخلت حقا الفرحة في قبلي حينما أحييت مادة رسالة الكلية الفرنسية، واعتمدتها في الأكاديمية المندائية.. وتواصل: أنا فرحانة لأن رسالتي كانت في خدمة جانب من جوانب المعرفة والتراث عند أهلي المندائيين في وطنهم العراق، وسأغادر هذا العالم ومعي رسالة، أليست هي رسالة؟ أليست هي (إنكرتا) كما نقول باللغة المندائية تشهد لي؟” فقلت: والله يا أم زكي إنها (إنكرتا: رسالة) تشهد لك كم نحن نحبك وكم يحبك العراقيون والعرب وكم أنت تحبينا، وتشهد لك، بعد عمر طويل، أنك بقيت صابئية مندائية على كل ما مر بك، حريصة على اسم جدك الكنزبرا الشيخ جودة وسلالته الدينية، وعلى اسم أبيك العلم عباس عمارة، وكان لنا ومازال وسيبقى بك إسم نفتخر أنه حينما يذكر الصابئة المندائيون يذكر اسم لميعة عباس عمارة في المقدمة.
شكرتني كثيرا وقالت ليتك تساعدني في كتاب آخر كنت قد وضعت مسوداته حينما كنت في لبنان. وعجبت لأمر هذه المرأة القديرة التي مازالت تحرص أن تغتنم كل فرصة لإظهار الخزين الذي لديها بعد أن توقفت عن كتابة الشعر وأبقته خاصتها وفي قلبها. قلت حاضر وممنون وبالخدمة، وحكت لي شيئا من محتواه وقصة الأوراق المُبيضة للكتاب التي تدمرت أثناء قصف لغرفتها في بيروت يوم كانت هناك.
تمنيت لها العمر الطويل، وهي لا تحب الدعاء لها بالعمر الطويل لكني دائما أقول لها ليس أي عـُمر، إنما المقرون بالصحة والعافية والعطاء، ثم أن الأمر ليس بيدنا يا أم زكي وأنت مؤمنة، فتضحك وتقول: “كلما تتصل بي تعيش الفرحة في نفسي أياما، فلا تنقطع عني.” ووعدتها أني لن أنقطع عنها.