آلمني لقاء تلفزيوني شاهدته لأحمد فؤاد نجم وهو يقرأ شعره لامرأة مذيعة ، كان الشاعر العامي الذي لا ندّ له يعصر ذاكرته ويستحضر روح قصيدته وتخرج الدرر من فمه انثيالا تكاد تصعقك إعجابا وتأثرا وكأنما تسمع لبشارة الخوري في ميدانه او لجرير في زمانه ،
وكانت المرأة المنصتة لا تفهم ما يقول ولا تحسه ولا تعرفه ، كان همها الأكبر -هي ومخرجها الأتفه منها- هو اختيار زاوية تصوير وجهها لإبراز محاسنه ، ومع كل جملة شعرية مؤثرة من قصيدته الرائعة كانت تعدل خصلة من شعرها وتنظر إلى (الكامرة) لتتأكد انها وضعتها فوق حاجبها الأيسر تماما وليس الأيمن ،وكان الشاعر يلقي تباعا -غير دار بما حوله- متذوقا متذكرا ما جادت به قريحته العظيمة ايام نظمه للقصيدة القديمة وهو يظن بلا شك أن الدنيا كلها تصغي إلى هذا الإبداع الذي لا يتكرر ، وهي تستمر بفتح عينيها وتسبيل جفنيها لتجذب الأغنياء متصيدي الغانيات لعلها تحظى بزواج من أحدهم ،
وانتهت القصيدة وانتهت حمى الشاعر وهدأت ألوان وجهه وهدأت معه دقات قلوبنا التي شدها وسارعها بكلماته وصوره وابتكاراته ، ولم تدر السيدة الجالسة انه انتهى حتى قال لها : لقد انتهت القصيدة ، قالت : “جميل ، وماذا حدث بعد ذلك”! قلت في نفسي حزينا : لمن تقرا الشعر ايها الشاعر العظيم ، انها امرأة غاية ما تفكر فيه هو كيف تظهر جمالها وتأثيرها على الشاشة وعليك ، لا ذوق ولا شاعرية ولا تسمع ولا ترى ايضا ، فلماذا ترهق نفسك وتنزل قدرك ،
أعادتني هذه الدقائق إلى حادثة استدعاء الجواهري إلى مؤتمر في قطر نهاية القرن الماضي “يفترض انه أقيم لتكريمه والاحتفاء به” وكان الجلوس مجموعة من البدو الاغنياء فانطلق ينشد شعره -وهو لا يعلم عن ثقافتهم شيئا- وربما ظن نفسه في العراق او الشام او مصر او اليمن ، أو في زمن سوق عكاظ او بين يدي النابغة ، فصار كلما يختم مقطعا من قلائد شعره -الذي صُنف على أنه الأعظم منذ العصر العباسي- نظر إلى الجمهور ظانا انه سيرى اندهاشا وتأثرا وإعجابا كما اعتاد وكما يعرف هو قيمة ما يقول ، تفاجأ ببرود النظارة وتبادلهم الأحاديث الجانبية متجاهلين تلك الدرر التي تنثر بين أقدامهم هباء ومتناسين من هو هذا الرجل الذي أمامهم والذي لن يجود الزمان بمثله بعد ذلك ، فلما فتر الشاعر وخمل وانتكس واحرج وأراد التوقف قال له مضيفه “وهو أكثرهم معرفة بالشعر” ! : “ها فهمتك وما تريد” ثم التفت اليهم :”يا اخوان صفقوا صفقوا له ليتحمس”! كان الجواهري رقيق الحس كبير العمر آنذاك واظنه لو كان المتنبي بدلا منه ل… في وجوههم وخرج .
قال لي احد المبدعين يوما وقد عاتبته على قلة الانتاج وعدم الظهور في الاعلام -: “يا أخي لمن ننشىء واين نظهر ! ليس لك الا ان تكون كمن ينشد الشعر في برنامج عبد المجيد السامرائي ، فلا هو الذي يعرف ويشعر بما تقول ولا انت بالواجد غيره في اللقاء” ! فسكتُّ ولم انطق.