23 ديسمبر، 2024 12:40 ص

لمناسبة عيد الخليقة (16-20 آذار) – رمزيات التعميد في الماء لدى الصابئة المندائيين

لمناسبة عيد الخليقة (16-20 آذار) – رمزيات التعميد في الماء لدى الصابئة المندائيين

” إن رسمي بالماء الجاري العظيم ماء الحياة الذي لا يدرك الانسان كنهه “
عـُرف الصابئة المندائيون بأبرز طقس من طقوسهم وهو التعميد “مـُصبـُتا” كما يرد في لغتهم الآرامية  إشتقاقا من الفعل ” صبا ” الذي يعني اصطبغ. فالتعميد هو صبغة دينهم التي يحصلون بها على رسم الإنتماء ومغفرة الخطايا. والصبغة هي الدين والشريعة. ويرد في القرآن الكريم صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة/ البقرة. وحيث أن لكل دين صبغته التي تميزه، فإن صبغة الصابئة المندائيين بالماء الجاري الذي صارت منه الحياة لأنه من الحي الخالق الأزلي.              
لقد عَرف الإنسان قيمة الماء كعنصر أساسي في الحياة، فأقام وسكن حيث يوجد. وقدس الماء بعد أن أدرك أن كنهه ليس أرضيا، فتشكلت بذلك عبادات الماء وبخاصة في بلاد ما بين النهرين التي ورثتنا نصوص حضاراتها هذا التقديس. والدليل المادي الذي مازال ملموسا في نسل حضارات وادي الرافدين هو ما لدى الصابئة المندائيين بجذرهم الرافديني المؤسس في تقديس الماء الجاري.
وحين يكون في الماء عبادة فلا يقصد عبادة الماء لذاته، بل هو العنصر الذي يعتمد رسما في هذه العبادة. فالماء حاجة حياة البدن، ومادة نظافته. هكذا صار الإستحمام وصار غسل الأعضاء تهيئة للصلاة كما في الوضوء لدى الملسمين الذي يشابه ” الإرتسام: الرشاما” لدى الصابئة المندائيين بغسل جميع الأعضاء الظاهرة من بدن الإنسان قبل أداء فريضة الصلاة” البراخا”. وقد اعتمدت شعوب عديدة الماء شعيرة فردية وجماعية في أديانها طهارة ونقاء، كما لدى المعمدانيين من المسيحيين والأسينين في حوض نهر الأردن والهندوس حين ينزلون ماء نهر الغانج. وما يميز الصابئة المندائيين أن طهارتهم في الماء لا تتم بمجرد النزول إلى الماء والإغتسال فيه، ففي هذا طهارة للبدن فقط. إنهم يذهبون أكثر من ذلك في أن الماء طهارة للنفس إذا ما تم بالتعميد الكامل. ولذلك نجد لديهم رسمان هما “الطمس: طماشا”، والصباغة “مصبُتا”. الأول إرتماس في الماء يقوم به الشخص بنفسه ويكون بعد الجنابة أو مس الميت مثلا. أما الثاني فهو رسم متكامل لا يجرى إلا بمراسيم ومتطلبات متكاملة.
والتعميد بحسب ما يرد في كتب الصابئة المندائيين رسم سماوي أجري أولا للملائكة في عالم الأنوار العلوي. وأبرز من أجري له الملاك جبرائيل ” هيبل زيوا”. فكان أن أكتسى به سلاحا ضد كائنات الشر عندما كـُلف بالمهام التي أوكلت له على الأرض، ثم بعد عودته مكللا بنجاحه في تصليبها وإعمارها بالزرع والضرع. وهم في إعتماده إنما يحيون الرسم القائم في عالم الأنوار ويكونون على تواصل معه. بل هم يتباهون ويتباركون أنهم يحيون ما في عالم الأنوار على الأرض، بالماء وبالرداء الأبيض والنفس “النسمة: نيشمثا” التي هي منـّة الحياة. ومثلما أجري التعميد للملاك جبرائيل من قبل ملائكة موكلين، فإنه لا يجرى للفرد الصابئي المندائي إلا من خلال شخص آخر أوكلت له هذه المهمة وهو رجل الدين الذي يتوج ملكا بالتاج ” تاغا” على رأسه.
والتعميد عند الصابئة المندائيين يعتبر ولادة جديدة للفرد من خلال الماء عنصر الإخصاب، والأرض له الرحم الواسع للحياة. ولذلك نجد أن هذا الطقس يقام لأكثر من مرة واحدة في حياة الفرد، أولها بعد اليوم الثلاثين من الولادة وهو صبغة رسم الإنتساب للديانة، ويقام هذا الطقس بمساعدة الأب لأن الرضيع لا يقوى على ذلك ولا يستطيع ترديد النصوص، فيرددها الأب بدلا عنه، ويكون هذا التعميد غير تام ويكمل بإجراء تعميد آخر بعمر ست سنوات حين يكون الطفل قادرا على ترديد الأدعية التي تقرأ عليه. ويكون التعميد بالإسم الديني “ملواشا”. فالفرد المندائي لا يسمى كيفما اتفق، بل على أساس ساعة ولادته وشهر الولادة واسم والدته، فهذه الإشارات تحدد دخوله إلى الحياة. وبهذا يكون للفرد الصابئي المندائي إسمان أحدهما ديني يتكون من الإسم الذي يستخرج له واسم والدته بدلا من اسم والده، والآخر الإسم المدني. والإسم الديني هو الذي يُعتمد في جميع الطقوس الدينية التي تجرى له في الحياة والممات.                   
والتعميد شرط أساسي للزواج، فلا تتم إجراءات عقد القران ما لم يسبقها تعميد منفصل للعروسين كل على حدة. كما أنه يُعتمد بعد أسبوع الزواج للتخلص من خطايا التماس الجنسي، وللمرأة بعد فترة النفاس، ولرجل الدين الذي يريد أن ينتسب للسلك الديني أو الإرتقاء إلى منزلة أعلى، بل، وهذا ما يميز ديانة الصابئة المندائيين، أن التعميد يمكن أن يتناوله الفرد كلما أحس بحاجة للتخلص من خطاياه، والتكفير عن ذنوب إقترفها من التي يمكن غفرانها. أما التي لا تغتفر، كالزنا والسرقة والقتل، فيتعمد الفرد من أجل التوبة، ويبقى حسابه عليها في العالم الآخر عسيرا.    
والتعميد يجرى في الماء الجاري، وبما أن النهر هو صاحب الجريان فقد كان ومازال هو المعتمد لدى الصابئة المندائيين، لكن ظروف العصر والتوزع الراهن أملت أن يُعتمد حوض الماء لأغراض التعميد شرط أن يصمم بحيث يبقى الماء فيه جاريا إيمانا بأن توقف الماء يعني توقف الحياة فيه. وهذه الحياة إنما جاءته من عالم الأنوار. فالماء لدى الصابئة المندائيين مكون من تسعة أجزاء ثمانية منها مجرد سائل أجاج، والجزء التاسع هبط من عالم الأنوار وهو مادة الحياة والحلاوة والعذوبة التي تجعله فراتا. والهبوط كان في النهر الجاري فصار ماء النهر هو الصالح للتعميد ولا تعميد في البحر أو البحيرات المقطوعة.   
ولكي يتعمد الفرد لابد أن يرتدي الملابس الدينية البيضاء “رستا” وهي حلـّة النور التي تتكون من خمسة قطع تغطي البدن بحواسه الخمسة. القميص الطويل والسروال والنصيف والحزام “هميانا” والعمامة للرجل أو الشال للمرأة. والتعميد يكون منفصلا فلا تعميد مشترك بين النساء والرجال. ولأن التعميد رسم يقدم عرفانا لهبة الحياة من قبل الخالق الحي الأزلي، فإن طقوسه لا تجرى سرا، بل علانية على النهر أو في المواقع الخاصة، ويكون جهارا في إجراءاته وقراءاته، وهو إحتفالية بهيجة.
ويجرى التعميد على وفق خطوات ثابتة ومنصوص عليها يتدرب عليها رجل الدين في فترة إعداده وقبل  تكريسه للسك الديني بحيث لا يختلف إثنان في إجرائها بأدق التفاصيل، وهكذا يتم توارثها ممارسة. وقبل أن يدخل المتعمد إلى الماء يكون قد أدى قسم أمام الراية المندائية البيضاء “درابشا” التي تنتصب والتي يكون دورها أن تعكس النور على الماء الذي يجرى فيه التعميد، كما يقرأ نص النية لإجراء التعميد والذي يشير إلى أن الفرد قد قدم بإرادته لنيل هذا الرسم وهو سيكون مزهوا وسعيدا إذا ناله.
يدخل رجل الدين الماء قبل المتعمدين بعد أن أدى صلوات طلب الرحمة  “رهمي” ويقف في مكان يصل فيه الماء إلى ما فوق ركبته، ويكون مواجها لجهة الشمال، فالصابئة المندائيين يعتقدون أن الشمال هو بوابة عالم الأنوار لذلك يعتمدونه قبلة يستقبلونها في جميع طقوسهم الدينية . ثم يحرك الماء بكلتا يديه راسما ثلاث دوائر حوله يحد بها مكان التعميد، ليكون نظيفا بعيدا عن الشر، كما يفتح بها وجه الماء ليلتقي مع نور عالم الأنوار. 
يمد رجل الدين يده اليسرى ليمسك المتعمد بها إشارة إلى كل خطيئة كانت للمتعمد، ويدور المتعمد من خلف رجل الدين من اليسار إلى اليمين حيث يجلس في الماء، ذلك أن اليمين أكثر قدسية من اليسار في المعتقد المندائي كما أن هذا يشير إلى إنتقاله من عالم الأرض إلى العالم النوراني. ثم يغطس المتعمد ثلاث مرات في الماء وفي كل مرة يقوم رجل الدين برش الماء عليه. والغطس الكامل هنا دليل إنقطاع النفس والموت، ومن ثم العودة إلى الحياة بولادة جديدة طاهرة. وفي هذه الحالة تنتنزع خطايا المتعمد تحت الماء الذي يأخذها بجريانه فيتطهر المتعمد منها ويبرأ. هكذا تتميز المندائية بأن تطهير خطايا البشر إنما يكون بمادة الحياة، الماء الذي يطهر النفس والبدن سواء. ولهذا سعى النبي يحيى عليه السلام لتعميد جموع الخاطئين بالماء الجاري لتبرئتهم وأن يتوبوا إلى الله حتى إرتقى التعميد قيمة وشهادة حين طلب النبي عيسى التعميد على يده وبطريقته  فناله. بعد ذلك يرسم رجل الدين وجه المتعمد بالماء ثلاث مرات ليتبارك به، كل مرة باسم أحد الملائكة المساهمين وهم ” هيبل، شيتل، وأنش” وكل رسم لمكون من مكونات الإنسان الثلاثة، الجسم والنفس والروح. ويرفع رجل الدين خاتم نبات الآس الذي كان يلبسه المتعمد في خنصر يده اليمنى ويضعه تحت عمامة المتعمد على جهة جبينه اليمنى ليكون إكليلا له. والآس دليل الحياة والإزدهار المعطر بالرائحة الزكية. كما تقدم للمتعمد وهو جالس في الماء ثلاث جرعات ماء لكي يشرب وفي كل مرة يُردد النص بين رجل الدين والمتعمد “الحق يقويك ويثبتك، ويكون الجواب أطلب تجد، قل تـُسمع”. ويأخذ العهد منه من خلال المصافحة بينهما باليد اليمنى وتقبيلها ووضعها على الجبين ثلاث مرات. 
يخرج المتعمد من الماء من الجهة اليمنى لرجل الدين بعد أن دخل من جهة اليسار، وحين يخرج يدورعلى ” بيت ريهي” بيت الروائح المكون من طبق طين بسيط وضعت عليه مجمرة ومبخرة فيها بخور وهو يردد نص التبريك للخالق الحي ولملائكته، وفي دورانه الذي يكون عكس عقارب الساعة يثبت دوران الأرض وأن كل ما في الكون يتحرك ويدور بأمر خالقه. ثم يجلس مواجها جهة الشمال. وبعد أن يكمل رجل الدين قراءة الأدعية يخرج من الماء فيقوم برسم جبين المتعمد بزيت السمسم ثلاث مرات باسمه الديني، مشيرا إلى أن رسم الجبين لا يكون بالنار أو بالمسح إنما بالزيت، وزيت السمسم حصرا حيث يرد في التعليم الديني أن فيه الشفاء والقوة فهو نبات من نباتات عالم الأنوار وهو ابن الماء غذاءًا ودواءًا. ثم يكون عهد آخر بين رجل الدين والمتعمد. بعد ذلك  يُطلب إلى المتعمد الذهاب إلى الماء الجاري لتطهير يده اليمنى وكأنه يقدم العهد للماء الجاري ويمسك عن الكلام إستعدادا لتناول الـ “بهثا” وهي كسرة خبز فطير يخبز من قبل رجل الدين في نفس الوقت مكونة من دقيق الحنطة والماء الجاري وقليل من الملح وتشوى على النار. يتناول المتعمد هذه الكسرة والتي تشير إلى غذاء البدن، وتقدم له ثلاث جرعات من الماء كان قد جلبها رجل الدين من ماء النهر بقنينة زجاجية صغيرة، جرعة للنفس وأخرى للروح وثالثة ترمى على الكتف الأيسر للبدن ثم يكون عهد آخر بين رجل الدين والمتعمد. خمس عهود تقدم خلال التعميد وكأن كل عهد مخصص لحاسة من الحواس فيشمل كيان الإنسان بحواسه حميعا.  ثم يكمل رجل الدين قراءة الأدعية على رأس المتعمد مباركا لمكان العقل وإدراك الخالق ومجمع كل الحواس. كما يمنح المتعمد الفرصة للدعاء الصامت بما يحقق آماله وما يرجوه من ربه في مغفرة وتوبة وصحة ونجاح له ولمن يحب.
وتنتهي الإجراءات بمباركة رجل الدين للمتعمد وشكر الأخير الذي يكون مزهوا ومنتعشا ونقيا.            
هكذا يكون التعميد في الديانة المندائية رسما متكاملا للإعتراف للخالق الحي الأزلي بنعمة خلقه من خلال التبارك بالماء الذي هو إعجاز الحي  للحياة والذي أنزل من عالم الأنوار العلي ليحيي  كل شيء، وهو تشارك في الطقس مع ما يقام في عالم الأنوار من رسم إيماني، للتبارك وللنقاء ولمغفرة الخطايا فيكون رسما دائما.