ان فهم ازمة العراق يتطلب معرفة القائمين على حكمه ، وهم مجموعة من الاحزاب الصغيرة تضم عددا من الاشخاص الساعين الى السلطة باي وسيلة وباي ثمن .وهذه الفئة او الطبقة التي جمعها الرئيس الامريكي السابق جورج بوش، قد قدّر لها ان تتحكم بالعراق وشعبه ومقدراته، فلم تكن امينة عليه، وقادت البلاد الى التهلكة. وانضمت اليهم طبقة من الانتهازيين الذين يتلونون كالحرباء فالبعثيون اصبحوا متدينيين، لابل حتى المسيحي البعثي اصبح قوميا اشوريا يمتد نسبه لاشوربانيبال، حتى ضاعت صفة الوطنية العراقية. والأمثلة على كل ذلك كثيرة ومستقاة من الخبرة الشخصية الموثقة باثباتات رسمية ، وهذا كلّه غيض من فيض.
ومن سمات هذه الطبقة ما يلي : –
1 . انهم في الغالب ممن عاشوا خارج العراق لسبب أو لاخر وبذلك ضعفت علاقتهم بالعراق وبالتالي معرفتهم به وباحوال اهله وظروفه وتعقيداته . وبالتالي ضعف عندهم الانتماء للعراق . وتبعا لذلك ضعفت رابطة المواطنة لديهم . وحاشا ان يشمل هذا كل العراقيين الذين اضطرتهم الظروف للهجرة ، لاننا وجدنا الكثير منهم وطنيون حتى النخاع ، ويحملون هموم الوطن معهم ، ويتسابقون لسماع خبر او اغنية عراقية. بل نعني اولئك الذين ارضعتهم مخابرات الدول المختلفة الحقد على العراق وشعبه وحملتهم الى العراق.
2. انهم يصفون انفسهم بصفة المناضلين وعلى الشعب ان يدفع ثمن نضالهم ، وهم ابعد الناس عنها، لان النضال يحمل معاني التضحية والفداءالتي لم يراها الشعب في جلّهم. لابل وجد فيهم جشعا يفوق التصور، ورغبة في الاستحواذ على المال العام والخاص ، وهدر الثروات القومية. وربما لايصدق احد ان سفارتنا في الصين كانت قد احالت طلبا للراي الاستشاري الى وزارة الخارجية في عام 2009 حول عقد قيام احد العراقيين ببيع بئر نفطي في العراق لسيدة صينية ، ، اما اليوم فحتى الارهابيون يصدرون النفط وبسعر 7-10 دولارات للبرميل ، في حين ان سعره الحقيقي يتجاوز المئة دولار.
2 .انهم في الغالب الاعم من اختصاصات بعيدة عن اختصاصات الادارة. لذا نراهم يحاربون اصحاب الكفاءات وذوي الاختصاص، وبذلك ابعدوا طبقة التكنوقراط. والكثير منهم اسرع الى الحصول على شهادات من جامعات مفتوحة هي اقرب الى الشركات التجارية منها الى جامعة بالمعنى الدقيق. ناهيك عن الشهادات المزورة .
3 . جاءوا الى العراق وهم محملين بتصورات قديمة مضى عليها زمن طويل, تغيرت فيها معالم المدينة في العراق الى حد كبير , وتصورات امنية غير صحيحة فرقتها ظروف العراق قي ظل النظام السياسي السابق . بحيث جاءوا بقناعة مفادها ان الشعب كله ينتمي لحزب البعث , كما انهم وبحكم صلتهم بمخابرات دولهم الجديدة فقد زودوا باجندات خاصة واجبة التنفيذ في العراق . لذا فقد شمل ضررهم واذاهم كل العراقيين في الداخل والخارج ، ولاحاجة لتوضيح الضرر الداخلي فهو واضح للعيان. اما الضرر الخارجي ، فقد عقدت وزارة الخارجية مجموعة اتفاقيات لاعادة العراقيين في كل من النرويج والسويد والدانمارك، وفي يوم توقيع مذكرة التفاهم مع ممثل السويد في مقر وزارة الخارجية ، تردد الوزير العراقي قائلا اعتقد ان هذا الاتفاق سيقود الى المحاسبة. فماكان من وكيل الوزارة والمسشار الاقدم فيما بعد محمد الحاج حمود الاّ ان حثه بلهجة عراقية خلت من اية لياقة دبلوماسية قائلا: ( دوقّع الحساب يوم الحساب ). وكذا كانوا يبيعون العراقيين مقابل مصالح شخصية رخيصة، علما ان هذا الوكيل كان في العهد البائد المشرف على رسالة ماجستير سبعاوي اخو صدام غير الشقيق عام 1983، ثم المشرف على رسالة ماجستير ابن سبعاوي (ايمن) عام 1995. وعلاقته الحميمة مع رموز البعث ادخلته وزارة الخارجية حتى تاريخ احالته على التقاعد قبل سقوط النظام السابق عام 2003، وتردد في وزارة الخارجية بان وزير الخارجية انذاك قد همّش على طلب احالته للتقاعد بعبارة ( يحال على التقاعد لغبائه ) وقد تعذر الحصول على نسخة منه. وهذا السلوك يتطابق مع ماقاله بريمر من انهم لايترددون من قضم عظام امهم وابيهم.
4. الاغلبية الساحقة منهم ليسوا من اصحاب المبادىء، بل انهم انتهازيون ووصوليون . لذا ترى احدهم من حزب معين اليوم يتنقل في الغد بين الاحزاب الموجودة على الساحة السياسية بحسب مصلحته ، وهم بذلك كالسمسار الذي يرسي المزايدة على المزايد الاعلى . وكما قال الحاكم المدني في العراق بول بريمر بانهم ليسوا اكثر من مادة تنفيذية في سوق المراهنات الشخصية الرخيصة. وهذا قاد بدوره الى ظهور الطائفية والمحاصصة . وقد سمعنا في هذه الايام من يطالب رئيس الوزراء الجديد حيدر العبادي بان يكون ممثلا للتحالف الوطني ، ولم يقل اد باننا نريده ان يكون ممثلا للعراق كله. لابل رأينا احد الوزراء الكرد كان يقول في بغداد بانه وزير جمهورية العراق، وما ان يغادر اجواء بغداد في طريقه لاربيل حتى تراه يصّرح للاعلام بانه وزير للاكراد. ولا حاجة لايراد امثلة اخرى لكثرتها.
5 . لذا فقد كانت اولوياتهم تنحصر اولا فيما يلي : –
(أ) طاعة وتنفيذ اوامر من جلبهم الى العراق ومنحهم تلك المناصب ، حتى اطلق عليهم لقب ( سياسيون مسيرون عن بعد ). وكان المالكي اول من يدرك تلك الحقيقة، لذا فان محاولات سحب الثقة منه باءت بالفشل، بمجرد ان يتصل بمراكز قرارهم لتتغير النتيجة بعد ساعات، فمنهم مفتاحه في ايران، واخرون في امريكا، وغيرهم في السعودية وتركيا، وهكذا دواليك. ولم يستطع احدهم ان يتخذ موقفا شجاعا من قضية ما حتى لوكانت مصيرية ، وذات مرة استدعاني احد السفراء حول موضوع مشاركته في مؤتمر مناقشة موضوع الشركات الامنية الخاصة في سويسرا, فقلت له يجب ان تتحدث عن حادثة ساحة النسور التي راح ضحيتها 17 مدنيا عراقيا ، فقال باللهجة العامية ( اني ما اريد اخرّبها ويه امريكا )، فتعجبت من موقف ممثل دولة كهذه همّه الوحيد الايفاد ومخصصاته المالية ، ولايهمه حتى لو مات افراد الشعب.
(ب) جمع اكبر قدر من المال وباية وسيلة كانت مشروعة او غير مشروعة ، لان الدرس الوحيد الذي تعلموه في الخارج هو ان المال ( الضمان الوحيد للحفاظ على الانسان في الغربة ).
(ج) اشباع الرغبات الجنسية الرخيصة التي لم يتسنى لهم تحقيقها في السابق, لذا فقد راينا الكردي يتسارع للزواج من عربية ، وبالمقابل يتزوج العربي من كردية وهكذا. ومثل هذه الزواجات السياسية, ان صحّ التعبير ، هي غير موفقة في الغالب.
(د) التمتع بقدر من الامتيازات لا نظير لها في دول العالم ، حتى ظهرت احصائيات تشير الى ان البرلماني العراقي يتقاضى عشرة الاف دولار عن كل يوم عمل برلماني حتى في حالة غيابه . في حين يتقاضى الرئيس الامريكي 33 الف دولار شهريا.
(ه) الحصول على قدر من الاحترام لم يحصلوا عليه في الخارج . لهذا فقد كان اول شعار تداولوه عند مجيئهم هو ( احترم تحترم ) لتعرضهم الى الاذلال في الدول الجديدة التي اقاموا بها , والصياغة الاكثر تطابقا لهذا المثل هو ( احترم من لم يحترم )، او( احترم من لايستحق الاحترام ).
(و) تدمير بنية العراق ، استكمالا لما قام به الاحتلال من حل الجيش والغاء الاعلام الحر ، وذلك عن طريق : –
(1) الغاء قوانينه الرصينة السابقة واحلال محلها قوانين خلافية ( حمالة اوجه ) وهو اول من لا يطبقها اويعترف بها ، لذا ترى الجميع ينادي بالعمل بموجب الدستور النافذ الذي لايطبقه احد.
(2) استحداث مؤسسات قائمة على اسس دينية أو مذهبية أو قومية أو طائفية ، مثل مستشفى الصحابي فلان، وجامعة أل البيت وشارع العشرة المبشرة وبنجرجي الامام فلان وهكذا دواليك.
(3) تعيين انصارهم ومن يساندهم لتحقيق هذه الرؤيا، لذا تجد اقارب المسؤول في كل دائرة ، اضافة الى فئة المتملقين، خاصة وان هناك فئة من العراقيين يتملقون لكل حاكم على امل ان يلقي لهم بعظمة. وكان التركيز يحري على اللاجئين الحاقدين المقيمين في الخارج، او الغرباء الذين لايعرفون تاريخهم، واخير بعض العاملين في الامم المتحدة والمحالين على التقاعد، لانهم مادة طيعة لتنفيذ الرغبات الرخيصة، وابعاد الوطنيين وذوي الكفاءة من الذين يريدون الحفاظ على العراق من شرور هذه الفئة.
(4) القضاء على قيم المجتمع ومبادئه واخلاقه باستحداث امور جديدة غريبة عن المجتمع العراقي وتسويقها للبسطاء والسذج على انها امور صحيحة بدلالة ان الغرب ياخذ بها ( كظاهرة المثليين وغيرها ) بقصد افساد الاخلاق. لذا قيل ان الصفة الغالبة فيهم الوقاحة وانعدام الحياء.
(5) كان معظمهم من الذين اخفقوا في علاقاتهم الاجتماعية، لا سيما وان اقامتهم في الغرب واتسام العلاقات فيه بالمادية أو دفع افراد عوائلهم الى استخدام مساحة الحرية الواسعة هناك , لذا فقد كان معظمهم من المطلقين من زوجاتهم . وقد تركوا ورائهم اولادهم وبناتهم يمارسون تلك الحرية. ونظرا لتقدير المجتمع العراقي للعلاقات الاجتماعية فقد كانوا يضطروا الى الاجابة بانهم متزوجون وعائلاتهم في الخارج وهم بذلك ينطقون بنصف الحقيقة والاصح القول بانهم مطلقون واولادهم خارج سيطرتهم الاسرية , كما هو الحال في المجتمعات الغربية . لذا فقد لازمهم الفشل في ادارة الدولة، لانه من البديهي ان من لايستطيع ان يدير شؤون عائلة صغيرة من عدة افراد فكيف يدير عائلة كبيرة تضم اكثر من 30 مليون نسمة.
(6) لقد كان كل رصيدهم لمواجهة المجتمع العراقي معرفة اللغة الاجنبية, الانكليزية في الغالب ثم الفرنسية والاسبانية وغيرها ، ولكن معرفتهم كانت مقتصرة على لغة الشارع لا لغة علم واختصاص . وكان القادمين من الولايات المتحدة الامريكية هم اكثر من تباهوا بذلك , في حين وجدنا ان الكثير منهم لم يكن قادرا على كتابة كلمة ( مبروك Congratulations ) بالانكليزية بشكل صحيح .
(7) كانت سلوكياتهم مستهجنة وغريبة عن المجتمع العراقي فاغلبهم يمكن تصنيفه ضمن انماط الشخصية المرتابة في علم النفس ونظرا لانهم عاشوا في مجتمعات خاضعة للمراقبة في كل مكان ( ففي كل باص في الغرب ما لا يقل عن 8 كاميرات ) وفي كل موقف سيارات وشارع ودائرة نجد كاميرات المراقبة. لذا فلا نستغرب عندما نسمع أو نقرا ان السفير الفلاني كان يحمل جهازتسجيل معه عند لقاءه باي مسؤول عربي أو اجنبي ويسجل كل حديث حتى لو كان على سبيل المجاملة, وهكذا نجد ان اي لقاء بسيط في مكتب الجامعة العربية قد تم تسجيله, لا بل وصل الامر الى حد ان يسجل احدهم عن الاخر حركاته وسكناته. وتطور الامر في بعض المراحل بحيث اصبح المسؤول يحذر خصمه عن طريق اي مشروب يقدمه له ليصوره في موقف مشين يهدده به لاحقا ، وجرى مثل هذا الامر مع نائبة في البرلمان.
(8) الكرم الزائف, وكما قال احد الكتاب العراقيين الساخرين ( مجدي ويصيح وير) وترجمته ( شحاذ ويتظاهر بالكرم ) ولكن الادق ( شحاذ ويتكرم بمال غيره ). وهكذا وجدنا احد السفراء يكتب لمركز الوزارة طالبا التبرع بمبلغ من المال لافريقيا الوسطى، في حين كان هذا السفيرلايتبرع بقرش واحد لاقرب الناس اليه.
(9) عدم التحلي بالصفات العربية كالرجولة والشهامة والفروسية, فالعرب تفتخر برجولتها وشهامتها وفروسيتها، فالمجتمع العربي هو في الغالب مجتمع ذكوري والامثلة على ذلك كثيرة, أما هولاء القادمون من مجتمعات غربية وغريبة عن المجتمع العربي فقد تخلوا عن مبادى الرجولة والشهامة والفروسية, ولهذا فكل منهم اذا وعد كذب واذا حدثك نافق واذا غبت نالك بالغيبة . ولهذا تراه ما ان يستمع لاراء غريبة حتى يهز راسه ويقول صحيح صدقت , وما ان تخرج حتى يقول, ماهذا الغباء والتخلف. وهكذا نجد ان احد السفراء يصف السفير الفلسطيني بأحمد الاوصاف في حضوره، وبمجرد خروجه كان يقول ساخرا: هولاء الفلسطينيين يحسبون انفسهم دولة، ان هذا السفير لم يتقاضى مرتبه منذ ثلاثة اشهر.
(10) الترف الزائد (البطر) , وهكذا تجده يسعى بكل وسيلة لتحميل الدولة مصاريفه الخاصة ويجاهد في ذلك ويتذلل اصغر موظف في الوزارةلتحقيق ذلك . وما فضيحة عمليات تجميل البرلمانيين الباهظة الاّ دليل على ذلك. وفي هذا المجال ترد حادثة طريفة اثناء عملي في وزارة الخارجية, فقد اتصل احد الموظفين العاملين في الدائرة القانونية التي كنت اترأس قسم المعاهدات فيها ليخبرني بورود كتاب من احد سفراء العراق عام 2010 يطلب فيها بيان مدى شمول (كلبه) بقانون التامين الصحي الخاص بالدبلوماسيين وعوائلهم , فاخبرته ان يكتب الى السفير المذكور العبارة التالية ( اذا كان الكلب احد افراد عائلة الدبلوماسي فانه مشمول بالقانون المذكور ) . وتحضرني هنا ذكرى اللقاء الاول للترحيب بمسؤول جديد الذي قدم نفسه بانه كان طالبا في لندن واقام باميركا, وكانت حياته صعبة، حيث لم يكن يتناول الطعام في الايام العشرة الاخيرة من كل شهر انذاك لعدم كفاية نفقات البعثة انذاك. في حين كان هذا المسؤول لايتناول الا السوشي الياباني طيلة سنوات المنصب الخمس.
(11) محاربة ذوي الكفاءات والوطنيين المخلصين لوطنهم لضمان استمرارهم في السلطة, وتطييق اجنداتهم التي جاءوا من اجلها . ولهذا فقد حدثت هجرة معاكسة بمجرد دخول هولاء الى العراق بالتتابع, وبالمقابل خرج من العراق مئات الالاف من العراقيين والكثير منهم من اصحاب الكفاءات، واتمنى لو كانت هناك احصائية رسمية تبين عدد الكفاءات التي هجّرتها كل وزارة. ويكفي القول ان في بريطانيا اليوم اكثر من خمسة الاف طبيب عراقي، لابل ان احد الاطباء من اصل عراقي تولى منصب وزير الصحة في بريطانيا ، وهو الجراح السير ارا درزي. وهذا ما جعل من العراق بلد الهجرة الاول دوما .
(12) استشراء الفساد بشكل مفرط ، فضاعت ثروة البلد طيلة اكثر من عشر سنوات ، حتى بلغت اكثر من ترليون و 300 مليار دولار. وهذا ملف يصعب الوقوف عنده، لان الحديث فيه يطول لكثرة تفاصيله ، وما يثيره من شجون.
واذا كان عرّابهم بول بريمر قد قال في وصيته المذكورة سلفا والموجهة لسلفه نيغروبونتي بانهم: ” نصفهم كذابون والنصف الاخر لصوص. مخاتلون…يتظاهرون بالورع والتقوى، وتحت جلد هذا الحمل الاليف ذئبا مسعورا…حاذقون في فن الاحتيال…يريدون بقاء جنودنا لانها الضمانة الوحيدة لاستمرارهم على راس السلطة…يجيدون صناعة الكلام المزوق وضروب الثرثرة الجوفاء …فارغون فكريا وفاشلون سياسيا…يعلمون علم اليقين بانهم معزولون عن الشعب ولايحظون باي احترام.
وازاء كل هذا التخريب الذي لايتحمله اي بلد مهما كان قويا ، فمن الصعب قيام دولة بالمفهوم الحديث. وكانت النتيجة كيان سياسي ( دولة فاشلة ) دون سيادة ، مظاهرها:-
-دولة بلا نشيد وطني .-دولة بلا عيد وطني.
-دولة بلا رئيس لاكثر من سنة ونصف في عداد المفقودين علما ان المقصود بالرئيس في الدستور انسانا فاعلا يؤدي خدمة عامة لا راقدا في الانعاش ، وهذا ماكلف ميزانية الدولة بحسب بعض التقديرات 120 مليون دولار. في حين شهدت شخصيا رفض طلب عامل بصفة فراش بمبلغ من المال يعادل خمسون دولارا لدفن ابنه الرضيع، فقيل له بانه لايوجد اي باب للصرف لهذا الموضوع.
-اعلام كثيرة كل منها يمثل فئة معينة. وكان وفد العراق في الامم المتحدة يضع في بعض الاحيان اعلام عديدة في مقدمتها العلم الشيعي ثم علم اقليم كردستان – العراق ، وعلم التركمان الازرق وعلم الاشوريين البنفسجي، وربما لم تتح الفرصة للاخرين القيام بذلك، مما جعل العراق مادة للسخرية وتندر كثير من الوفود التي قال احدهم انتم تمثلون دولة ام مجموعة دول؟
ــ انعدام الامن وانتشار الميليشيات مع سلسلة تفجيرات شبه يومية -اعداد كبيرة من النازحين داخليا وخارجيا.-انعدام الخدمات الاساسية كالماء والكهرباء.-غياب الجيش النظامي، الذي افتقد للعقيدة العسكرية، والتدريب العسكري، فانهار في اول مواجهة يوم 10/6/2014 ..
-ضعف التعليم على مختلف مراحله، لابل وجدت جامعات ومعاهد دينية اقرب الى كتاتيب الزمن الغابر.-تعثر البطاقة التموينية .
-ميزانية الدولة التي لم تقّر حتى هذه لحظة كتابة هذه السطور في شهر آب 2014.-ثالث بلد في حالات الاعدام. والكثير غير ذلك.-القذارة المنشرة في كل مكان .-تفشي البطالة وانتشار المخدرات بين الشباب، بعد ان كان العراق واحدا من انظف دول العالم في هذا المجال.
وختاما , فبعد مرور اكثر من احد عشر عاما فان هذه الفئة الغريبة عن المجتمع العراقي والتي جاءت بالتنسيق مع اجهزة مخابرات دولية تحمل تعليمات معينة الهدف منها تدمير العراق والعودة به الى القرون الوسطى كما قال وزير الخارجية الامريكي جميس بيكر لنظيره العراقي طارق عزيز اثناء لقاءهما في جنيف مطلع عام 1991،مطالبة بالانصياع لاراة الشعب في التغيير الجذري وعدم الالتفاف عليها، لاسيما وقد ظهرت بوادر الصراع على المناصب وتكرار نفس الوجوه القديمة، والا سيقتص منها الشعب العراقي في اول عثرة كما فعل مع سابقيه ، لاسيما وقد حذرهم الرئيس الامريكي اوباما بالامس قائلا( ان الذئب على الباب). والمعروف عن العراقي بانه قد اخذ من البعير صفتي الصبر والحقد ، وقديما قالت العرب ( احقد من بعير). ومن سيبقى منهم سيتذكر العبارة التي قيلت يوم سقوط الاندلس ( ابكوا مثل النساء ملكا مضاعا ، لم تحافظوا عليه مثل الرجال ).
العراق بلد النخاسة السياسية بأمتياز بعد أن أصبح السياسيون “البعض منهم بحسب تصريحات إعلامية” يتحدثون عن مكاسب ليست من أجل ناخبي هذا السياسي وكتلته بقدر ما هي من أجل زعماء “ساسة” يطلقون سماسرتهم “دلالوة” لبيع هذا المنصب أو تلك الدرجة، ومن بعد فإن المعالي المشتري أو السيد المدير أو السيد القائد ينشغل من أعلى هامته وحتى اخمصي قدميه وهو على سدة المسؤولية بجمع ما أنفق من أموال مع أرباحها طبعا غير مكترث للتظاهرات ولا أسبابها، وهو محق بذلك فالشعب الغاضب المتظاهر ليس مَن جاء به للمنصب الرجال جاي بفلوسه ولا خلف الله على واحد من الشعب.
السماسرة في العراق كثر ويكاد يكون بلد الحضارات العريق بلد السماسرة بجدارة، فلدينا سماسرة تجارة البشر الذين يتاجرون بالاعضاء كل الأعضاء بلا استثناء بما فيهم السادة اعضاء مجلس النواب ومجالس المحافظات الأجلاء، ولدينا سماسرة مشاريع اصحاب الكومشنات، وسماسرة وسماسرة، هؤلاء السماسرة جميعاً يقفون خلف الأضواء يستلمون ارباحهم ويعيشون بثبات ونبات ويخلفوا صبيان وبنات وطايحة براس الكتل خطية يحرقهم غضب الشعب الذي يبدو أنه إلى الآن لم يتمكن من إزاحة دور السماسرة الكرام عن المسرح السياسي وبقية المسارح العراقية الكثيرة..
الأساس الفاشل للعملية السياسية في العراق بعد 2003، وما حمل معه من كوارث، ارتأيت أن ألخص هذا الفشل على شكل نقاط عامة، لتتكون لدينا صورة شاملة عن فشل النظام السياسي :
الدستور العراقي ملغوم ومكتوب بلغة ركيكة وتمت كتابته بصورة غامضة مُستعجلة، وبإشراف الأجنبي الدخيل، وهو لا يصلح كأساس لمشروع سياسي ديمقراطي لأنه لم يُكتب بإرادة شعبية حقيقية، وتركز مواده على الاختلافات المذهبية والقومية والقبلية على حساب العراقيين ووحدتهم وفيه الكثير من العيوب والتناقضات.
تقاسم السُلطة وفق مبدأ المُحاصصة الطائفية وليس على أساس الكفاءة والنزاهة.
اختراع نظام مجالس المُحافظات والبلديات الذي لا ينسجم مع وضع العراق.
فوضى الأحزاب وسيطرة المال السياسي على الانتخابات.
العصبوية السياسية واستغلال الدين في السلطة من قبل أحزاب الإسلام السياسي.
البرلمان المُنتخب يولد بالدرجة الأساس من رحم أحزاب سياسية فاسدة مُحددة تُسيطر على المُجتمع بالمال والنفوذ وبذلك يكون ولاء أغلب أعضاء البرلمان للحزب وليس للوطن والشعب.
غياب المعارضة القوية داخل البرلمان.
فشل السلطات التنفيذية التشريعية والقضائية، إذ أن رئيس مجلس الوزراء ضعيف القرار ولا يتمتع باستقلالية، والبرلمان لا يؤدي دوره الرقابي والتشريعي، ويقابل ذلك ضعف في الجهاز القضائي، وعجزه عن لجم الفساد في مؤسسات الدولة، ولا يوجد أي تنسيق واتفاق بين الجهات الثلاثة على محاربة الفساد.
عدم استقلالية المفوضيا العُليا (المستقلة) للانتخابات.
منح الامتيازات الفاحشة والرواتب الضخمة للساسة والمستشارين وحاشيتهم من دون جُهد يُذكر.
انتشار ظاهرة مزاد العُملة وغسيل الأموال المُرتبطة بأصحاب النفوذ والمسؤولين البارزين في العملية السياسية.
غياب الهوية الوطنية لدى الطبقة السياسية العراقية.
عدم استقلالية رأس القضاء العراقي فهو مسييس ومسير من قبل السلطة، ولذلك أصبح من الطبيعي أن نرى مُجرمًا تتم تبرأته وبريئًا تتم مُحاكمته.
منح شرعية دائمية لمدحت محمود، ومن معه، مقابل تحويلهم إلى بيادق تتحكم بهم الأحزاب بهدف طمطمة فسادها وضمان حريتها اللصوصية.
عدم وجود إرادة سياسية حقيقية أو رغبة في التغيير.
عدم وجود نظام اقتصادي معروف في العراق سواء كان اشتراكيًا أم رأسماليًا أم غير ذلك، وهو عبارة عن تدوير وهدر للأموال من دون أي مُخطط اقتصادي واضح.
قطاع النفط محكوم للفساد المشترك بين الشركات الأجنبية والسلطة السياسية، وتقول التقارير إن هناك رشاوى بالملايين للفوز بصفقات نفطية بالعراق.
عدم السيطرة على تهريب النفط سواء في الجنوب أو في الشمال.
إحكام اقتصاد الدولة للثروات الريعية وغياب الاقتصاد الإنتاجي الفعال.
النظام السياسي محكوم للتبعية الخارجية ولا يستطيع حماية سيادة الدولة.
الفشل الأمني الذي يتمثل في ضعف جهازي المخابرات والاستخبارات.
تسييس الإعلام وإخضاعه لصالح السلطة السياسية.
تهميش الكفاءات النزيهة المُستقلة وتوجيه الدعم فقط لمن يعلن الولاء للأحزاب.
السماح بانتشار السلاح والفصائل المسلحة ومنحها سلطة أقوى من القوات الوطنية.
عدم مُحاسبة الفاسدين والسماح لهم بالهروب والسفر للخارج.
الفشل في رسم خطة لتوفير الخدمات الأساسية والجوهرية للمواطنين.
عدم وجود خطة لتعزيز الصناعة والزراعة والاعتماد على الاستيراد الخارجي وغياب الدعم للفلاحين.
إهمال مراقبة الحدود الجغرافية للدولة العراقية وضعف التعامل مع القضايا الإقليمية.
ضعف التمثيل الخارجي للعراق سواء في الأمم المتحدة أو في العلاقات الدولية الخارجية.
إخضاع التوظيف الحكومي لثقافة الواسطة.
عسكرة المجتمع وإعطاء الأولوية للجهد العسكري على حساب بقية القطاعات.
انتشار الفساد الإداري والبيروقراطية في المؤسسات والدوائر.
هدر الثروات دون إقرار أي مشروع إعمار أو إسكان للطبقة الفقيرة.
عدم وجود عدالة اجتماعية في توزيع الثروات ومنح الرواتب للمواطنين.
استغلال حاجة الموظفين للمال بالتسليف الباطل والاعتداء على رواتبهم واجبارهم على دفع فوائد ثقيلة.
تدمير الثقافة والفن وعدم وجود أي برامج داعمة للحراك الثقافي.
لم تسعَ السلطة لإصلاح التعليم بل استمرت في افقاره وتدميره ولم ترسم منهج صحيح لبناء الإنسان.
تزوير الشهادات المدرسية والجامعية والشهادات العليا ومنح مقاعد الدراسات العليا على أساس الواسطة.
ضعف القطاع الصحي وعدم وجود خطة حقيقية للارتقاء به وغياب نظام التأمين الصحي العادل.
المشاريع التي تم تنفيذها محكومة للمقاولين الفاسدين ممن لهم علاقات مباشرة سياسية مع المسؤولين مما كبد الدولة خسائر فادحة.
البناء العشوائي، إذ لا توجد خطة للتحديث العُمراني وقد تحولت الأرض العراقية إلى تنافس على البناء المدفوع من قبل سماسرة السلطة من دون أي تخطيط يُذكر.
النقاط المذكورة أعلاه مُجرد لمحة سريعة عن عيوب العملية السياسية وتشققاتها، والتي توضح أن أزمة العراق ناتجة من الأزمة الهيكلية المتعددة المستويات التي يعاني منها النظام السياسي الذي يسعَ إطلاقًا لمكافحة ظاهرة الفساد وتحجيمها، وفي الحقيقة، فإن تشوهات النظام السياسي العراقي لا تُعد ولا تُحصى، وهي تمتد إلى أصغر مؤسسة في الدولة، وتحتاج لبحث عميق ومفصل، رغم أنني مؤمن أن الخلل السياسي معروف ومُشَخَص سلفًا، ويتبقى أن ينجح الشعب في تفكيك هذه العملية السياسية الفاشلة بالوسائل السلمية وإصلاح عيوبها المذكورة وتحديث بُنيتها المُهترئة وتحقيق التحول والانفتاح الديمقراطي اللازم.
إمكانيات انهيار النظام السياسي وضرورات عدم استمراره
في فضاء السياسة لا يوجد شيء ثابت، وحتى أعتى الديكتاتوريات في التاريخ، رضخت وانهارت، ولنا الكثير من الأمثلة المعاصرة، منها الاتحاد السوفيتي أو إسقاط نظام بينوشيه الديكتاتوري في التشيلي رغم القمع وحظر التظاهر، وصولاً إلى تجارب الدول العربية مع الحقب الديكتاتورية مثل مصر وتونس، وما يمكن قوله إن نظامًا سياسيًا هشًا وعاجزًا كالذي يحكم العراق لا يُمكن إلا التنبؤ بانهياره، فهو كما ذكرت سلفًا أشبه بالجسر الآيل للسقوط.
إن أول عامل يُشير إلى حتمية انهيار النظام السياسي الحالي هو تجرده من الشرعية، لأن النظام السياسي يكون شرعيًا في حال أدى مهماته عند الحد الذي يشعر الناس، أن النظام صالح ويستحق التأييد والطاعة والدعم والاستمرارية، وأن يشعر المواطنين أن سلطة بلادهم هي سلطة وطنية مُخلصة لشعبها، وللقيم الاجتماعية العامة، والعامل الثاني، هو اهتزاز ثقة المواطن بالسلطة جراء غياب الفعل السياسي، وما صاحبه من تصدعات وتشوهات وفشل للنظام السياسي الذي عمق الإحباط ودواعي العزوف عن السياسة لدى المواطنين، وبما أن مُهمة سلطة الدولة حماية المجتمع وأفراده وتقديم الرفاهية لهم، فإن عجزها عن تحقيق ذلك يعني مبدئيًا خسارتها للتأييد الشعبي.
ومن أسباب انهيار الدول والحضارات هو وجود سلطة حاكمة تحرص في سلوكها السياسي والأخلاقي على الجشع والترف حسب ابن خلدون، إذ ينتقل عندها الشعور بالمسؤولية الاجتماعية والسياسية والعسكرية والاقتصادية إلى شعور سحق الجميع من أجل المصالح الخاصة والترف المفرط والرفاهية. ثم يقول ابن خلدون في هذا الصدد “ويبلغ فيهم الترف غايته بما تبنقوه (بما تنعموا به) من النعيم وغضارة العيش، فيصيرون عالة على الدولة” ويضيف: “بل أنهم مع هذا، يحاولون إظهار القوة من خلال احتكار السلاح والجيش، وذلك لقمع الناس إذا أرادوا الثورة ومواجهة استئثار هذه النخبة الحاكمة للسلطة والثروة”.
المتسلطون السياسيون هم كما يقول ابن خلدون، عالة على الدولة، بعدما بلغوا أعلى مراتب الترف والاستهتار بالمال العام وثروات البلاد، ولا يمتلكون في جعبتهم أي مشاريع ناهضة، وإنما يسعون للاستمرارية وحفظ امتيازاتهم، ولذلك سخروا المال والسلاح والقوة الداخلية والخارجية، وكل شيء في مواجهة التغيير الذي ينسف وجودهم ويبني مشروع الدولة الرائد. ثم يفصل ابن خلدون عملية انهيار السلطة المترفة بقوله: “فإذا جاء المطالب لهم (التظاهرات أو الثورة) لم يُقاوموا مدافعته، فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة، ويستكثر من الموالي (الدعم الخارجي)، ويصطنع من يُغني عن أهل الدولة بعض الغناء، حتى يتأذن الله بانقراضها، فتذهب الدولة بما حملت”.
ومن الأسباب المؤدية إلى انهيار وسقوط النظام السياسي الحالي هو تمسكه بمبدأ العنف والعنف حسب المنظرة حنة آرنت يُدمر السلطة، وأن التفاعل السياسي سيضيع عن طريق اللجوء للعنف، وبدلًأ من أن يطغى الدعم المتبادل بين المجاميع الاجتماعية، يتم استخدام السلاح ضد المُعارضين للسلطة، وهنا يصبح العنف تعبيرًا استبداديًا على حساب رغبة الناس، وهذا مؤشر يعكس عجز السلطة، وترى آرنت أن “العنف المكشوف يحدث عندما تفقد السلطة قوتها”. وفي ظل غياب الرؤية السياسية وعجز الساسة عن إيجاد الحلول الواقعية المُناسبة لإدارة شؤون الدولة، ومع عدم وجود مؤسسات قوية وغياب التوازن بين المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ستتفاقم المشاكل الاجتماعية أكثر، وكلما حاولت السلطة إصلاح الوضع دون إصلاح جذري للنظام المعطوب، تتضاعف وتتشعب المشاكل، لأن الصواب لا يجتمع مع الخطأ في ذات الوقت، والفساد والإصلاح لا يجتمعان معًا كما لا يجتمع الخير مع الشر، فهل من المنطقي مثلًا أن يُطالب الساسة بالقضاء على الفساد، وهم يمارسون الفساد، وهل مثلًا، يصح أن تدعو السلطة إلى احترام القانون وتستثني نفسها وحاشيتها منه، وهل من العقل والحكمة أن يؤمن ساسة الدولة بوجود الديمقراطية وهم يُصادرون حريات الناس وحقوقهم، وهل حقًا يُمكننا أن نؤمن بشعار القانون والشارع محكوم للانفلات الأمني، أو هل من المعقول أن يدعو الدستور للتوزيع العادل للثروات، وفي الواقع؛ يعيش ملايين الناس تحت خط الفقر بسبب فساد السلطة التي تشرف على هدر الثروات؟
هذه التناقضات الحادة وغيرها الكثير، تشير إلى وجود خلل في المنظومة السياسية وأزمة بنيوية سياسية واقتصادية ومجتمعية لا يستطيع العراق تجاوزها مع السلطة الحالية، وتشير هذه التناقضات كذلك إلى وجود انفصام سياسي يسيطر على عقلية المسؤولين، فهم يعيشون في عالم من السراب الباذخ، ويصرون على صواب الخطأ القائم وتنزيه أنفسهم وتصديق وهمهم، وهنا نتحدث عن حالة من حُب الذات وجلد الذات في آن واحد، والرغبة في الاستئثار الدائم بالسلطة. بمعنى أن النُخب السياسية لا تبدي أي رغبة في التنازل عن سلطتها أو الاعتراف بأخطائها وتلبية مطالب المجتمع، بل على العكس، تسعى إلى زيادة عُنفها ضد المعارضين وشرعنة استمرارها بالحكم لأطول فترة مُمكِنة مع التمسك بسياستها الفاشلة.
مع هذه التوحش السياسي يزداد الثقل على الدولة لأن الحاكم يرفض الانصياع، وفي ذات الوقت عاجز عن تقديم الخدمة وإقامة مشروع دولة حقيقي، وهنا تصنع السلطة الضغط على نفسها بنفسها، وتصل إلى طريق مسدود وتدخل الدولة في دوامة من الاغتراب السياسي والتحلل والانقسام العمودي والأفقي الذي لا ينتهي إلا بانتهاء سلطة الفساد وتبني مشروع الإصلاح الشامل. ومع عجز النظام عن السيطرة على الشروخ المتفاقمة ووضع أُسُس نظام سياسي ديمقراطي يضمن حقوق الناس ووحدة الدولة وتماسكها الاجتماعي، تزداد التحديات على السلطة ويزداد نفور الشعب منها وكرهه لها، مما يفضي إلى فجوة سياسية بين الشعب والسلطة، وتكبر هذه الفجوة بقدر إصرار السلطة على البقاء ومحاولتها تسيير الشأن العام وفق منطق الاستحواذ والإقصاء والاستخفاف بمطالب الإصلاح والتغيير.
إن تراكم الأزمات الداخلية في الدولة العراقية وعدم القُدرة على التعاطي معها سيقود الدولة إلى العُزلةِ الداخلية والخارجية والدمار الاجتماعي والاقتصادي ويجعل السُلطة تفقد حواضنها الاجتماعية والدولية مع انتشار فضائحها على نطاق واسع، مما يجعلها سريعة التداعي أمام أي حراك شعبي، وقد اثبتت التظاهرات الأخيرة مدى هشاشة هذا النظام السياسي، وكان اللجوء للقمع والاغتيالات دليلًا دامغًا على أن السلطة لم تعد تمتلك غير الدفاع عن نفسها بالسلاح واتهام شباب الحراك بالانجرار وراء المؤامرات، وهذا الأسلوب الفاشي ضاعف خصومها ووضعها في موقف المواجهة المباشرة مع الشعب، وموقف معيب أمام الرأي العالمي العام ومنظمات حقوق الإنسان، وكان الحراك الشعبي الأخير هو بمثابة بداية سقوط النظام السياسي، ولذا، المرجح هو عودة الزخم الجماهيري مع الانهيار الاقتصادي الذي تشهده البلاد، ولا أظن أن النظام لديه النفس الطويل لينجو من الغضب الشعبي القادم، أو لديه وسائل أخرى يشرعن فيها استمراريته التي باتت على المحك.
لم يعد الشعب العراقي يتحمل هذا الوضع المأساوي للدولة والطغم المتسلطة عليها، فقد قامت هذه الاولغارشيات الفاسدة باختطاف الدولة بقوة القمع وأساليب الخداع وارتبط ذلك بانحدار الثقافة السياسية، وتحويل حكم الدولة إلى ملكية خاصة لفئة معينة، مما جعل المسار السياسي العراقي يزداد تناقضًا وتمزقًا وقابلًا للانفجار في أي لحظة. ومن العوامل المساعدة على انهيار النظام السياسي الحالي، هي شجاعة الجيل الجديد، فهو جيل جريء مُحب للحياة والحرية والانفتاح، وعندما يلاحظ هذا الجيل أن محيطه لا تتوفر فيه شروط العالم العصري الذي يحتاج، فلن يتردد في الدفاع عن حقوقه المستلبة، وقد بدا ذلك واضخًا في انتفاضة تشرين، فما الذي يدفع الشباب على هذه المواجهة الشرسة والتضحية بأرواحهم غير رغبتهم بالتحرر من طوق الفساد والاستبداد السياسي؟ وهنا أتحدث عن سخط شعبي فتي مليء بالطاقة والحماسة، والمعروف أن الشباب يشكلون اليوم الغالبية العظمى من نسبة سكان العراق، ما يجعلهم يصنعون كتلة صلبة في مواجهة النظام السياسي. إن الإصلاح ومحاربة الفساد لا يتم بالنية فقط، بل بأفعال واقعية ملموسة، يرى المواطن آثارها في السياسة والاقتصاد والثقافة، ومن السذاجة أن نعتقد أن السلطة التي دمرت مرتكزات الدولة يُمكنها تحقيق مشروع الإصلاح فكيف للفاسد أن يكون مصلحًا؟
إن تمسك السلطة بحكم الدولة بطريقة عصبوية رجعية ذات نزعة أحادية، واستمرارها في النهج المناقض لحقوق المواطنة والديمقراطية والحداثة، وخنقها لمشروع النهضة والبناء والإعمار سيفضي إلى مزيد من التأزم والعقم السياسي، وقد أدخل هذا النهج السياسي الإقصائي النظام السياسي في أزمة هيكلية التي سرعان ما تحولت إلى أزمة مجتمع كامل، أضرت بانسجاميته إلى الحد الذي جعل البعض يُطالب بتقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم. هذا اليأس الاجتماعي سيتحول إلى قوة ضاغطة ويتوسع ضغطها باتجاه السلطة مع اصرار الأخيرة على إبقاء الدولة في سجن الرجعية السياسية وتوريث الفساد.
أن فشل الحكومة في انجاز مشروعها التنموي واصرارها على الفشل ونخر سيادة الدولة وإضعاف القانون والنظام ومصادرة قيم المواطنة والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، هو بمثابة معول يهشم ثوابت الدولة ومدخل إلى تحلل وتآكل النظام الذي لم يعد قادراً على تحمل هذا الكم الهائل من الرواسب وهنا أعني بالتحديد أن النظام السياسي في العراق لم يعد لديه القُدرة والقابلية على استيعاب ومعاجلة جميع العوائق التي ضربت عمق الدولة العراقي, بل هو يُضاعفها لأن أساس النظام مبني على انحراف حاد ومحكوم للفساد ولذلك لا يستطيع تقديم شيء ولا يُمكنه استنهاض نفسه بعدما سقط في هذا الخندق الغائر من العجز والفشل، ما يجعله يُدافع فقط عن مصالحه وإبقاء السلطة في قبضته وهذا يعني عملياً أن السلطة تقص في الغصن الذي تجلس عليه في الوقت الذي تتشعب فيه المشاكل، مشكلة طوق ضاغط حول السلطة. وبالنظر للأسباب المذكورة، يُمكن القول أن النظام السياسي الحالي إما سيسقط سقوطًا حرًا لأسبابه طبيعية كالفساد والفقر والظلم أو سقوطًا مدفوعًا بالتحرك الشعبي.
لقد تم في السنوات الأخيرة العمل على تحويل العراق إلى دولة ريعية غنائمية، وتعاملت السُلطة وبطانتها مع أفراد المجتمع كونهم فريسة لا تستحق الرأفة، وفرضت عليهم القوة القهرية، ولم تسعَ إلى توفير الحياة الكريمة لهم، وبقت تحتكر الثروات الريعية لصالحها، وهذه الذهنية الاستبدادية تدل على ضحالة المستوى الثقافي والموضوعي للطبقة السياسية وتحتاج بالطبع لقوة شعبية مضادة.
أن النظام السياسي في العراق مصاب بثلاث عُقد مُزمنة:
العُقدة الأولى، هي الشعور بالنقص والمظلومية الدائمة، وأعني بذلك أن الطبقة السياسية تحاول دائمًا التذكير بأنها ضحية الديكتاتورية، وإنها صاحبة بطولات غابرة وهي تحكم العراق كاستحقاق لها، مقابل سنوات نضالها في الخارج ولم تطوِ صفحة الماضي وراءها، وأنما ركزت على الاستحواذ المادي والسياسي وتعويض حرمانها، وبقيت تلعب على وتر التذكير بأخطاء النظام السابق وجرائمه في كل حادثة ومناسبة للتنصل عن المسؤولية، دون أن تقابل الأخطاء السابقة بأفعال حقيقية وقيم أخلاقية مضادة على أرض الواقع ، تجعل المواطن يؤمن أن من جاء هو افضل ممن ذهب ولذلك نلاحظ أن الكثير من الأصوات المعارضة للسلطة سرعان ما تتهم بأنها أصوات بعثية تحريضية تسعى النيل من وحدة العراق.
العقدة الثانية للسلطة تتمثل في أن النخب الحاكمة لم تنسلخ عن التبعية والعبودية الخارجية، وتتحرر منها وبقيت مرتبطة بالدول التي آوتها ارتباطًا وثيقًا، وتقدم لها التنازلات وما زالت، وجردت نفسها من الشخصية والهوية السياسية الوطنية، وبقيت حبيسة الجمود والتبعية والارتهان للأجنبي، ولذا لا غرابة أن تعجز سلطة العراق عن لجم التدخلات الدولية والاعتداء على سيادة العراق، ومثلًا، استخفاف تركيا بمياه وحدود العراق هو نابع أصلًا من حالة ضعف سيادة الدولة وإيمان تركيا بعدم وجود هيبة وشخصية لدى سلطة العراق.
العقدة الثالثة هي عدم الاعتراف بالأخطاء والاستماع للناصحين ورمي المعارضين مرارًا وتكرارًا بتهمة المؤامرة الخارجية وزعزعة الأمن وإثارة البلبلة، وهذا السلوك العنجهي عمق فشلها وإخفاقها السياسي والاقتصادي.
هذه العقد الثلاث أضعفت شخصية السلطة وجردتها من المهنية والهوية الوطنية، وأبعدتها عن التخطيط للمستقبل وأبقتها في دوامة من الشعور بالمظلومية الدائمة واستخدامها كمسوغ لحكم الشعب بالإكراه والشعور بالأفضلية، إضافة إلى عقدة الخضوعية للأجنبي الذي احتضن أفراد السلطة في سنوات المعارضة وإصرار السلطة على عدم التفريق بين عِرفان الجميل وبين الحفاظ على هيبة الدولة وعدم المجاملة على حساب سيادتها وهويتها مع عدم الاعتراف بالفشل، وبالمسؤولية وتقبل النصائح والاستجابة للمطالب الشعبية. إن هذا السلوك النفسي سيطر على عقلية السلطة طوال سنوات وجعلها غير قابلة للمرونة في التعاطي مع الأزمات، وتنظر إلى موضوع مثل الاستقالة وإتاحة الفرصة لمن هو أقدر على أنه خطيئة كبرى.
من الأسباب التي تجعلنا نؤمن بضرورة التخلص من هذا النظام السياسي هو افتقاره إلى أخلاق المسؤولية والسياسة اللازمة، وحتى وإن كانت هناك نظريات تقول إن السياسة لا تجتمع مع الأخلاق لكن تبقى السياسة بحاجة لشيء من الأخلاق، وتحتاج إلى ساسة يتمتعون بصفات الحُرص والصدق والمسؤولية الأخلاقية تجاه وطنهم وشعبهم. يقول إيمانويل كانط “السياسة الحقيقية لا يُمكنها أن تتقدم خطوة واحدة ما لم تضع الأخلاق أولًا”. وحسب عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، فإن هناك ثلاث صفات يجب أن تتوفر في السياسي “الرغبة والشعور بالمسؤولية وبعد النظر”، ويضيف فيبر أن “أخلاق المسؤولية في السياسية أهم أخلاق الموقف وأن دافع العمل الذي نقي أخلاقيًا أكثر أهمية من نتيجة الفعل”. وعلى ضوء قول كانط وفيبر، يمكن القول إن فساد السياسة هو نتاج فساد الأخلاق وضعف الشعور بالمسؤولية وضعف العقل العملي، وانسياقه وراء الشهوات، ولذا لا فائدة من بقاء سياسي لا يتمتع بهذه الصفات ولا يسعى لاكتسابها.
ومن الأسباب الأخرى التي تحاكي ضرورة تفكيك النظام السياسي الحالي، هو تحطيمه للبُنية الوطنية وإبقاء الفكرة الوطنية شاغرة لا قيمة لها في الوقت الذي ذهبت الأحزاب السياسية لتستغل الشباب وتجندهم لصالحها تحت شعار (تمكين الشباب) وعزلهم عن الواقع، ليشكلوا السور الحامي لسلطة الفساد من المعارضة الشعبية، وقامت بنقض العلاقة الأخلاقية بينها وبين الشعب، وعززت في ذات الوقت الولاءات الحزبية والعلاقات القرائبية، ليتم إقصاء المواطن من جوهر الدولة، ولم يدع هذا السلوك المُنحرف المُشبع بالأنانية أي مجال لإقامة علاقة بين الحاكم والمحكوم على أساس المواطنة، وإنما قامت السلطة بتبني مبدأ الرعوية والتمييز. وما نحتاجه نحن هو دولة مواطنة ديمقراطية قائمة على الحرية والعدالة الاجتماعية، ومن هذا المنطلق يجب أن يعي شباب العراق خطورة الوضع في وطنهم ويرفضوا التعامل مع السلطة المتحايلة ويحرصوا على الدعوة إلى القضاء على الفساد، وإعادة الاعتبار لوظيفة الدولة وبناء نظام ديمقراطي ناضج يرتكز على الإصلاح الفعلي.
لقد أفرطت السلطة في السنوات الأخيرة في الحديث عن محاربة الفساد، لكن دون أن تقدم تصورًا واضحًا للقضاء على هذه الآفة الخطيرة، وثمة بالطبع فرق شاسع بين محاربة الفساد قولًا وفعلًا، وقد حاولت السلطة السياسية إطلاق الوعود وتحسين سمعتها ببناء مشاريع صورية مثل الملاعب ومراكز التسوق والمطاعم التي يقف وراءها متنفذين سياسيين والهدف منها، إلهاء الناس عن المشاكل الجوهرية وتصريف السيولة المالية الضخمة، وتحويل المجتمع إلى مجتمع استهلاكي كسول، وفي الحقيقة؛ هذه خطط ترقيعية ومحاولة لتلميع صورة النظام الفاسد، وأن هذه التوجهات التي تبادر بها السلطة بين الحين والآخر لا تتماشى مع ضرورات ومتطلبات التغيرات التي يعرفها الجميع في العراق، وأولها هيكلة النظام السياسي وإتاحة الفرصة للكفاءات التكنوقراطية، ورسم إستراتجية سياسية واقتصادية واضحة لنهضة الدولة، وتجنب الاعتماد الشكلي للانتخابات الدورية التي تسيطر عليها الأحزاب بالمال والدعايات الضخمة وحشر الشعارات الدينية التي تهدف إلى إعادة تدوير نفس الوجوه وفق مبدأ الاستخلاف لا التغيير الجذري الشامل الذي بات ضرورة حتمية للعراق من أجل تجنب هول حدوث كارثة اجتماعية أو حتى حرب أهلية مستقبلية يفرضها الفساد ورعونة السلطة وحاشيتها.
إن قضايا مثل تفشي الفساد الإداري والرشوة المحسوبية والبيروقراطية المزمنة، واستغلال المنصب، وعدم الاخلاص في العمل وإناطة المسؤولية إلى شلة من غير المؤهلين والنصابين والفاسدين تعني المزيد من الكبت والمعاناة، التي لا تنتهي إلا بالقضاء على المهزلة السياسية التي تدور رحاها منذ قرابة عقدين من الزمن.
لقد فاحت رائحة الفساد والعصبية المُتجذرة في الأحزاب السياسية الطائفية للنظام السياسي العراقي، وقد خسرت السلطة ثقة الناس ونفدت جميع فُرصها، ولم يعد بالإمكان التسامح والتعامل معها، ولم يعد بإمكان العراقيين الانتظار أكثر من ذلك، فقد بلغ السيل الزبى في الوقت الذي يشهد فيه العراق تحول ديموغرافي وانفجار سكاني كبير، ويقابل ذلك، نقصًا في مشاريع الإسكان والإعانة الاجتماعية، ما يجعل الدولة تقف على برميل بارود، ولهذه الأسباب أقول إن من يريد النهضة للعراق، ومن يحبه بصدق، فعليه التخلص من مُتلازمة الدونية والانقياد والتطبيل الأعمى للسلطة والمُساهمة في تفكيك هذا النظام السياسي الذي دخل فعليًا في مرحلة العد التنازلي، ولذا أرى أن هذه فُرصة حاسمة لإخضاعه وعدم السماح له بتجديد فترة حياته السامة، وإما السكوت عنه فذلك يعني المزيد من التشظي على جميع المستويات وأن الفساد سيزداد عفنه كلما طال تخميره.
إن الاستيلاء على السلطة والتمسك والتفرد بها، وتكرسيها في خدمة جماعة وأحزاب سياسية فاسدة على حساب الشعب ورغمًا عنه، هو جريمة وشر مُطلق لا يجب أن يبقى ويقتضي تحرك ورفض شعبي واسع النطاق، وهذا يستدعي مزيدًا من الصبر والثبات والنضال الديمقراطي السلمي كالتظاهر والإضراب والاعتصام والعصيان المدني، لربح المعركة أمام السلطة دون الخنوع والانقياد والتسليم، ومن المهم أن نعرف كيفية مواجهة عفاريت النظام السياسي بصفتهم القوى الفاسدة التي نهبت ثروات البلاد، والتي تتحمل مسؤولية الأزمة الاقتصادية والسياسية والمجتمعية في العراق، والأهم من ذلك أن نؤمن في أن مسألة الإصلاح السياسي الجذري والتحول الديمقراطي السليم في بلاد الرافدين بحاجة إلى شحذ الهمم وإرادة شعبية قوية تقودها النُخب الوطنية، هدفها التغيير العميق بالوسائل السلمية وتحرير العراق من عقلية الهيمنة المُطلقة على السلطة والتسيير الأحادي للدولة، وإعادة تشكيل البرلمان وقانون الاحزاب أو تغيير نظام الحكم في حال رغب الشعب بذلك وبناء دولة الحق والقانون والمواطنة والإنسانية والديمقراطية، ومن أجل وطن مُزدهر يكفل الحُريات وخالٍ من الفقرِ والتمايز الطبقي والتقاسم المحاصصاتي للسُلطة وضمان مُستقبل أجيال العراق الناشئة، فالشعب مُطالب اليوم برص الصفوف والتعاضد والتعاون ضد الفساد السياسي من مُنطلق قول الشاعر : لولا التعاونُ بين الناسِ ما شرفت نفسٌ ولا ازدهرت أرضٌ بعمرانِ!