عندما انهزمت اليابان في الحرب العالمية الثانية اضطرت إلى التوقيع على وثيقة الاستسلام والاعتراف بهزيمتها أمام الولايات المتحدة، وقررت القطع مع ماضيها السيئ المليء بالمذابح والعنف الوحشي ضد جيرانها، وانكفئت على إعادة بناء اليابان الحديثة الناهضة مثل المعجزة من بين أطلال الحرب وخرائبها. بعد بضعة عقود أصبحت اليابان قوة اقتصادية هائلة منافسة للولايات المتحدة في العلوم والتكنولوجيا، ولم تعد أبدا إلى المغامرات الحربية والأوهام الأمبراطوية العتيقة , نفس الشيء حدث لألمانيا، فبعد هزيمتها وخراب بلدها خرابا تاما بسبب الأوهام التوسعية النازية، قررت أيضا إحداث قطيعة حاسمة ونهائية مع ماضيها السيئ، والاتجاه نحو بناء الذات بناء على إرادة الشعب الألماني القوية، وعلى العقل العلمي الجبار الذي استطاع تحقيق ما أصبح معروفا في التاريخ بـ”المعجزة الألمانية”، وها هي ألمانيا اليوم تحتل الرتبة الأولى في الاتحاد الأوروبي بقوة إنتاجية تصل إلى 35 في المائة. ولم يعد الألمان واليابانيون إلى الماضي للاستنجاد بالأجداد أو التذكير بالأبطال القوميين القدامى والسابقين، كما لم يلجئوا إلى الكنائس أو الأديرة أو المعابد البوذية لمطالبة السماء بالتدخل لصالحهم والانتقام لهم من العدو، أو زلزلة الأرض من تحت أقدامه أو ترميل نسائه وتيتيم أطفاله وجعل أمواله غنائم لهم، ولم يقرروا النبش في كتبهم الدينية القديمة عن النظريات العلمية التي اهتدى إليها الغرب بمهاراته وأبحاثه حتى لا يعترفوا له بالقوة والتفوق، ولم يقرروا بشكل انتحاري المغامرة بخوض حرب عصابات طويلة المدى ضد العدو البلدان العربية الإسلامية، بقوا على حالهم من التخلف وأن يعيشوا بين الخرائب ولا يجدون معبرا إلى العصر، أن يعيشوا كما عاش أجدادهم تماما سواء في نسق الدولة أو في التقاليد والعادات الاجتماعية أو في أسلوب تدبير شؤون الحكم، أو في الاقتتال الهمجي الذي يعود إلى ما قبل الحضارة، فـ”القيم الأصيلة العريقة” تتضمن كل شيء، وفيها الملاذ والمنقذ والعلاج لكل الأدواء. ما زلنا نجيد ركوع وخنوع واستسلام,
ما يجري في المنطقة اليوم من الجانب الإسرائيلي هو تكريس فكرة الهزيمة للعرب والنصر لها كمعطيات حاسمة وفرضها على المنطقة، وهذا الموقف هو ما سوف يؤدي إلى الانهيار التنظيمي لقواعد المنطقة السياسية، حيث تكون النهاية انعدام فكرة الهزيمة والنصر وتحولها إلى عواقب جيوسياسية، الهزيمة مهما كان شكلها لن تمحو المهزوم، والانتصار مهما كان شكله لن يحقق الأهداف
أصبح لدى العرب قناعة، بأن القضية الفلسطينية لن يحلها محمود درويش بأشعاره القومية، أو سميح القاسم بقصائده الوطنية، أو إبراهيم نصر الله برواياته المتتابعة، أو ياسر عرفات بإشارة النصر الهزيل المُفتقد التي كان يرفعها من حين لآخر. وأن القضية الفلسطينية أصبحت بحاجة إلى قيادات تاريخية وشجاعة تفتدي السلام بالنفس كما افتدى اسحق رابين وأنور السادات السلام بنفسيهما. وأن لا زعيم عربياً ولا نظام عربياً لديه الاستعداد الآن أن يفتدي السلام الفلسطيني – الإسرائيلي بنفسه. فقد كادت أوطان أن تضيع (الأردن ولبنان مثالاً) نتيجة لذلك
في المنظور السياسي وفي منطقة متصدعة مثل الشرق الأوسط قد يكون مستوى الهزيمة والانتصار مرتبطا بمعايير وأحداث بعيدة التصور، فالقدرة على قبول الهزيمة أو الادعاء بتحقيق الانتصار هي من يحدد الواقع ويقيس الرضا عن الفضاء السياسي المرتبط بتكثيف القلق والتوتر عبر تكريس الهزيمة سياسيا وعسكرياً وإعلامياً، ما يجري في الشرق الأوسط وتحديدا ما هو مرتبط بالقضية الفلسطينية وأطرافها ارتبط تاريخيا بمفهومي النصر والهزيمة كأساس لكل المواجهات، ومن يتوقع منه في النهاية أن يفرض الفوز كهدف رئيس متمثل في تحديد استراتيجية النزاع التي يخوضها,, وهل نحن بحاجة إلى تغيير في هذه الاستراتيجية وكيف يتم ذلك؟، هذا هو السؤال المطلوب بحثه عندما يكون النصر أو الهزيمة ثمنه أكبر بكثير مما يتم إنجازه على أرض الواقع
منذ ما يقارب من ثمانية عقود ونحن كعرب نعيش فكرة الانتظار للحظة النصر وكذلك تفعل إسرائيل، وقبل أربعة عقود دخلت إيران على الخط في قضية عربية ولكن من خلال بوابة العامل المشترك الأكبر “البعد الديني”، بينما البعد الديني في قضية القدس يختفي أمام قضية احتلال الأرض التي مارستها إسرائيل، حيث كانت ومازالت إسرائيل تمارس توسعها تحت فكرة الانتصار فقط دون تقييم للمعايير الأخرى المرتبطة بالكيفية التي وجدت فيها إسرائيل وقتل الكثير من المدنيين واحتلت الأراضي وتم طرد السكان الأصليين , و كان تركيز إسرائيل مرتبطا بمحاولاتها الدائمة لنزع الشرعية عن أصحاب الأرض واستخدام القوة والتاريخ السياسي المزيف والدعم الدولي للسيطرة وتغيير معاير النصر والهزيمة لتكون في اتجاه واحد، لقد خلقت إسرائيل عملية تقييم معقدة ومتشابكة حول مفهوم النصر والهزيمة وتحولت المقاومة العربية ضد احتلال الأرض إلى خيارات صلبة لا يمكن تفسير معطياتها إلا من خلال المواجهة والحرب، وهذا ما حدث فعلا خلال العقود الثمانية الماضية، ومع تجربة السلام كان التحيز الإسرائيلي نفسه ولم تتغير مفاهيمه
ما يجري في المنطقة اليوم من الجانب الإسرائيلي هو تكريس فكرة الهزيمة للعرب والنصر لها كمعطيات حاسمة وفرضها على المنطقة، وهذا الموقف هو ما سوف يؤدي إلى الانهيار التنظيمي لقواعد المنطقة السياسية، حيث تكون النهاية انعدام فكرة الهزيمة والنصر وتحولها إلى عواقب جيوسياسية، الهزيمة مهما كان شكلها لن تمحو المهزوم، والانتصار مهما كان شكله لن يحقق الأهداف، وخاصة في القضية الفلسطينية التي تفتقر اليوم إلى إيمان صادق من جانب إسرائيل لمنح الفلسطينيين دولة مستقلة
اليوم نعيش في ظل ساسة ومسؤولين وصلوا إلى السلطة لخدمة شيء واحد: “كرسي المنصب, لم يفعلوا سوى تفصيل الكرسي على مقاسهم, لم يتوقعوا ان خروج مانديلا من السجن، سيفتح صفحة جديدة للتقدم والرقي والحياة الحرة الكريمة لكل أبناء جنوب أفريقيا البيض قبل السود، لم يحرر الناجحون بلدانهم فقط، بل حرروا نفوس مواطنيهم من الثأر والضغينة. أهم ما في سجل الناجحين، أنهم صفحوا عن أعدائهم ولم يطلقوا سوى جملة واحدة: “تعالوا نبني المستقبل ونعلن موت الماضي
إسرائيل تعرف جيّدا أن المنطقة والعالم على وشك دخول حِقْبَة جديدة ستتبدّل فيها خرائط التحالفات، ومراكز القوى والمصالح وأنّ من لا يتموضع جيّدا ستقتلعه ريح التغيير التي بدأ هبوبها، ويعلم قادة إسرائيل المعزولة عن جوارها أنّهم سيكونون في مقدمة التغيير، ولهذا فإنّ تل أبيب تسابق الزمن للتخلّص من بعض مصادر القلق بدءًا بالميليشيات ولن يكون الطموح النووي الإيراني ببعيد عن قائمة الأهداف القادمة لإسرائيل
هل مصيبتنا نحن العرب إذاً أننا نفتقر إلىالقيادات الوطنية؟ نحن نحتاج أولاً إلى أنظمة وطنية حقيقية حرة غير خاضعة أو منتخبة من الخارج لا تتسلط على شعوبها لصالح مشغليها في الخارج. وهذا للأمانة ليس موجوداً حتى الآن في العالم العربي التعيس، لأننا بالأصل لم نخرج من تحت نير الاستعمار، وعندما خرج المستعمر ترك وراءه وكلاءه ليحافظوا على التخلف ولينكلوا بالشعوب بطريقة أسوأ من طريقة المستعمر ذاته، ولينهبوا خيرات البلاد والعباد ويضعوها في خزائن المستعمر. ولا بد هنا أن نذكّر مرة أخرى بالكتاب المهم للرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي بعنوان (الاستقلال الثاني) الذي يرى فيه المؤلف أن بلادنا العربية لم تستقل أصلاً، أما الاستقلالات المزعومة التي حصلت بعد خروج المستعمر فكانت مجرد استقلال مبدئي، ولا بد من الاستقلال الثاني الحقيقي الذي يتمثل بظهور قيادات وطنية أصيلة ولاؤها للشعب والوطن وليس لكفلائها في الخارج كما هو حال معظم الأنظمة العربية حتى اليوم
يقول احد الفلاسفة العرب لا يمكن أن يكون الحاكم وطنياً إذا كان أصلاً ليس منتخباً من داخل الوطن، وكيف يكون وطنياً إذا كان مجرد أجير عند داعميه خارج الوطن، أو بالأحرى عندما يكون مجرد كلب صيد يصطاد وطنه وشعبه وثرواته ومقدراته لصالح الصيادين الكبار الذين سلطوه علينا. ألم يكن أحمد مطر على حق عندما قال: «أمريكا تطلق الكلب علينا وبها من كلبها نستنجدُ؟ لايستطيع الحاكم العربي أن يكون وطنياً، لأن ضباع العالم إما أن يحاصروه أو أن ينقلبوا عليه أو أن يتخلصوا منه فوراً كما حصل لبعض الزعماء العرب الذين فكروا يوماً بأن يتحرروا من النير الغربي. لهذا فإن كل ما هو موجود اليوم من أنظمة لا علاقة لها بالوطنية, وتلك الحقيقة المرة .