في عام 1972 اتخذت الدولة قرارا أسموه تأميم النفط وبغض النظر عن مدى جودة هذا القرار ، إلا إن التبرير لإصداره هو تحرير ثروات العراق ، وصحيح إن الموارد التي دخلت الموازنة تم استثمار بعضها في إحداث نوع من التنمية في السنوات ما بعد 1973 الاان عيون الحكومة بقيت صوب النفط كمصدر مهم وأساسي للإيرادات مما جعل كل المشاريع التنموية التي تم استحداثها عبارة عن منجزات عمرانية او منشآت خاسرة توفر العمل للأفراد ولكنها لا تسهم كثيرا في الناتج المحلي لان كفائها في حالة انخفاض حتى وان حققت الفاعلية في بعض التخصصات ، وقد ثبت ذلك بشكل واضح في الحرب العراقية الإيرانية حيث أوشكت الدولة على الإفلاس في عام 1984 عندما انخفضت أسعار النفط بحدود 4-5 دولارات للبرميل ، وقد اعتقد البعض بان الدولة ستأخذ عبرة من هذا الانخفاض فتبدأ بتصحيح اقتصادها لكي تتفادى هكذا أزمات ، ولكنها دارت ظهرها للازمة وبدأت تقترض لسد العجز في الإيرادات لتغطية النفقات العالية بسبب حالة الحرب ، وبعد فرض الحصار الاقتصادي الشامل على البلاد تعرض اقتصادها لأكثر من أزمة بعد إيقاف تصدير النفط ووصل ألأمر لحد القحط الذي تم ترقيعه من خلال البطاقة التموينية التي توفر متطلبات الكفاف لكل السكان ، واستمر الحال سوءا في الاعتماد على اتفاقية النفط مقابل الغذاء التي كانت تغذي البطاقة التموينية والأدوية وبعض الخدمات ، ورغم الظروف الصعبة من حيث عدم وجود استثمارات أجنبية وضعف القدرة على الاستيراد الخاص لشحة العملات الصعبة إلا إن القطاع الزراعي والصناعي والقطاعات الخاصة والمختلطة سجلت حضورا جزئيا من خلال قدراتها على الإنتاج وتوفير بعض احتياجات السكان رغم الاعتماد الكلي على إيرادات النفط ، وبعد 2003 لم تتحسن الحالة بل ازدادت سوءا بعد رفع القيود على الاستيراد وتعرض اغلب البنى التحتية للتدمير من خلال العمليات العسكرية او بسبب السلب والنهب ، ومن الناحية العملية والفعلية فان اقتصاديات البلد باتت تعتمد على إيرادات النفط لأنها تشكل أكثر من 95% من مصادر الإيرادات ، والتي تتحول إلى نفقات اغلبها تشغيلية والبعض الآخر نفقات استثمارية تتخللها الكثير من الخروقات والنتيجة إن الاقتصاد العراقي تحول إلى اقتصاد ريعي يعتمد على مبيعات النفط ، ولان أسعار النفط ليس لها أمان وثبات فان الاقتصاد غالبا ما يتعرض لأزمات مع كل انخفاض في الأسعار كما حصل في 2009 و2014 وما يحصل اليوم .
ولعل جزءا مما تقدم يعلل أسباب عدم امتلاك اقتصادنا القاعدة المتينة التي تعينه في الازمات فالقضية موروثة منذ عقود ، فرغم إن العراق من كبار المصدرين للنفط إلا إن الناتج المحلي قد بلغ 231 مليار دولار في عام 2018 وهو يحتل المركز 50 ضمن تصنيف صندوق النقد الدولي ويعد رقما متواضعا عند المقارنة بمجمل الناتج العالمي البالغ 85 تريليون دولار ، ويعتقد البعض إن الاحتلال الأمريكي يتحمل مسؤولية كل ما يحصل من خلل في اقتصاد البلاد ، وهو اعتقاد مقبول ولكنه لا يصلح للأعمام في كل الحالات نظرا لانتقال السلطة وتشريع الدستور وإقامة الانتخابات منذ عام 2006 وانسحاب القوات الأمريكية بإرادة وطلب العراق ، وكما هو معروف فان العراق نفذ موازنات انفجارية منذ 2005 ولغاية اليوم حيث شهدت أسعار النفط ارتفاعات كبيرة مكنت البلد في صياغة موازنات استثمارية وتشغيلية تجاوزت قيمتها أكثر من تريليون دولار ، ولكن هذه الموازنات لم تحدث تغييرات تذكر في مجال إعادة هيكلة الاقتصاد وتنوع مصادر الدخل كما إنها لم تحدث تغييرات جوهرية في التنمية المستدامة وتوفير الاحتياجات الأساسية من السكان ، ويعزو البعض أسباب الإخفاقات إلى تعاظم الإنفاقات غير الكفوءة وانتشار الفساد وعدم وضوح الأهداف وترهل أجهزة الدولة عموما وتعرض البلاد إلى حروب داخلية وخارجة أدت إلى عسكرة المجتمع وزيادة الإنفاق العسكري والخلل الكبير في جباية وتحصيل الإيرادات إذ لم تصل الإيرادات غير النفطية إلى 10% من حجم النفقات . ولعل اكبر المشكلات التي يعاني منها الوضع المالي هو غياب الشفافية في أمور كثيرة فالموازنات الاتحادية توضع على أسس قديمة وبطريقة إملاء الفراغات ، وهي موازنات يتم وضعها من قبل وزارتي المالية والتخطيط ويشترك فيها مجموعة من الخبراء وتتم مناقشتها في مجلس الوزراء ثم تحال إلى مجلس النواب لمناقشتها والمصادقة عليها ، وتستند إلى تقديرات واجتهادات وضغوطات في ظل عدم وجود التعداد العام الغائب منذ عام 1997 ، كما تغيب المعايير والبرامج والسياسات والاستراتيجيات بالشكل الكامل وبالحد الذي يرتقي لصناعة المنجزات في الواقع الفعلي ، واغلب الموازنات تخضع للصفقات بين الكتل السياسية ويتأخر صدورها ونفاذها بما يجعلها تحتاج إلى موازنات تكميلية ، وفي نهاية السنة المالية تختفي الحسابات الختامية فآخرها قدمت لعام 2013 كما إن البلد لم يعد موازنة 2014 وموازنة 2020 لم تصدر بعد ، فبأي إدارة يعمل البلد وعلى أي شيء يحتكم ما دامت فوضى الموازنات لم تضبط بعد ؟.
وان الوضع الذي يمر به البلد حاليا في نقص الإيرادات الناتج من انخفاض أسعار النفط عالميا وتعاظم الحاجة للإنفاق بسبب جائحة كورونا وغيرها ، هو امتداد طبيعي للازمات المالية السابقة كما إنها تنذر بظهور أزمات أخرى لاحقا ، إذ يعتقد اغلب المختصين بان مثل هذه الازمات متوقعة الحدوث لتشابه ظروفها وأسبابها ، فخلال السنوات السابقة طرحت مجموعة من الأمنيات ورفعت العديد من الشعارات ولكنها بقيت على حالها كظواهر ورقية غير قابلة للتطبيق ، لان التغيير يحتاج إلى عمل وليس أمنيات وفي ظل غياب التغيير او مراجعة اللوائح للالتزام بما هو مطلوب على الأقل ، وفي ظل ذلك يتكاثر الفساد ويأخذ شكلا نوعيا من الصعوبة السيطرة عليه ، وفي نظرة إلى نظامنا السياسي الذي يعبر عن النصوص الواردة في الدستور نجده مصمم بطريقة تنطوي على درجة تحتاج إلى نكران عال للذات في البناء المتراكم والتنمية الشاملة ، فالمناصب توزع بطرية الاستحقاقات الانتخابية وتمثيل المكونات والجميع مشاركون في العملية السياسية إلا انه من الصعب تشخيص المسؤولية عن التقصير لان كشف العيوب يتحول إلى المحظورات وتحقيق الانجازات تشوبها الشكوك في إنها طريقة غير مشروعة لكسب أصوات الناخبين ، والحكومات تأتي وتذهب دون أن تقدم حساباتها الختامية والحصول على إبراء الذمة ، واغلب الوظائف تدار بالوكالة او التكليف او تسيير الأعمال بحيث تصبح عرضة للتغيير المستمر وربما يؤدي ذلك لطمس الحقائق وضياع الحقوق والمطالبة بتقصي المخالفات بعد مضي وقت طويل في ظل حركة التغيير واختفاء او إخفاء المعالم لأنها خارج وقتها المطلوب ، ولعل واحدة من الأسباب التي تؤدي لضعف الأثر عند التغيير هو إتباع المنهج الممكن وليس الطموح في الكثير من المرات ، فعند عقد العزم لمعالجة أزمة انخفاض أسعار النفط تطرح العديد من الحلول الاقتصادية التي تنادي بتنويع مصادر الدخل من خلال دعم الزراعة والصناعة والسياحة ، فتنفق أموال وتجلب قروض وبعد زوال الأزمة ومراجعة الإجراءات يتم اكتشاف الإنفاق الكبير والظهور المتواضع للتغييرات ، ثم يتم الاستنتاج بان المشكلة تمت معالجتها بإجراءات اقتصادية رغم إنها مشكلة نقدية لأنها تتعلق بقصور السيولة المالية عن سداد الرواتب وسواها من الإنفاقات التشغيلية ، ومن يعلم كم انطوى على ذلك من اختراقات استثمرها الفاسدون الذين ينتشرون بالطريقة الواضحة للجميع ، ثم يتم التصريح بان التغييرات الهيكلية غير ممكنة في أنظمتنا السياسية التي تتغير كل دورة انتخابية لان السلطات تتشكل بالطريقة الدارجة في تقاسم الأدوار وتكليف الكتلة الأكبر لتشكيل الحكومة ، وهو أسلوب ديمقراطي لا غبار عليه ولكنه قد لا ينسجم مع متطلبات التغيير بالتنمية الذي يحتاج إلى تراكم التغيير بوتائر ايجابية ومعدلات ربما تحتاج إلى سنين او عقود ، وخير مثال على ذلك مشكلات الكهرباء التي أنفقت فيها المليارات ولكن دخانها الأبيض لم يظهر بعد .