الصحافة، مهنة كباقي المهن في المجتمع، مع الفارق أن مزاولها يحتك مع شرائح عديدة وفئات كثيرة في المجتمع، وهذا قطعا يتطلب منه جهدا وصبرا وكياسة وحنكة، في بلورة الأفكار وانتقاء المفردات في كل تحركاته، سواء أكانت على الورق أم في ممارساته اليومية!. ومهنة الصحافة اكتسبت تسميتها (مهنة المتاعب) ليس من باب مايتعلق بكيفية التعامل مع الخبر وصناعته وصياغته ونشره، وما الى ذلك من فقرات العمل اليومي للصحفي، بل لصقت بها هذه التسمية بسبب الويلات التي تقع على رأس الصحفي -وراس الخلفوه- من جراء تناوله الخبر من أوجه يخشى المعنيون الكشف عنها، ولاسيما (الصماخات) الذين يحلو لهم الظهور بوجوه عدة، والنطق بألسنة متلونة حسب مقتضيات المصلحة والفائدة.
إن من يتابع مراحل إقرار قانون حقوق الصحفيين العراقيين خلال السنوات العشر الأخيرة، يلمس أخطاءً وتجاوزات وتناقضات عديدة، ليست مع أرض الواقع فحسب، بل مع مبادئ الدستور في جمهوريتنا التي يزعم قادتها الحاليون أن سياستها (ديمقراطية)..! إذ سرعان ما يتبين لأي منظر أن هناك بونا شاسعا بين مفردة (حقوق الصحفيين) وبين المفردات اليومية والممارسات غير اللائقة التي يتعرض لها الصحفيون أثناء أداء واجباتهم المهنية، ضمن عملهم الدؤوب في مهنة المتاعب. إذ أن بعض مواده تنأى عن الأهداف والغايات السامية المنشودة من الصحافة والإعلام، بشكل يذكرنا بسياسة القمع والكبت وتكميم الأفواه وتسييس الإعلام وتسخيره، وجعله بوقا يزمِّر ويتغزل بأخطاء المسؤولين وتجاوزاتهم وظلمهم لشعب وُجِدوا في مناصبهم لخدمته. فالإعلامي والصحفي وضع روحه فوق راحته، وجعل نصب عينيه إيصال كلمة حق او شكوى او رأي، او الحث على تقويم اعوجاج، اوطرح حلول لمشاكل ليس له فيها مأرب إلا كمأرب باقي المواطنين، الذين لايصل صوتهم الى مسؤول أخطأ بحقهم، او تجاوز حقوقه مستغلا منصبه، او لم ينصف في قرار ما -وما أكثرهم اليوم في عراقنا-. والخوض في تفاصيل تلك المواد يتطلب منبرا اوسع من عمودي هذا، ويكفيني وسع صدر رئيس تحرير صحيفتنا ومدير تحريرها، في طرح مايصب في خدمة العراقيين من على هذا المنبر.
لكن عجبي! كيف يحق لمسؤول ما ان يقوم باعمال هي (محظورة وخارجة عن القانون وتخالف أحكامه وتضر في النظام العام) -كما جاء في القانون نصا- وفي الوقت ذاته لايحق للكاتب والإعلامي والصحفي ان يعبر ويصف ويحارب باسم الحق والشعب هذه السلبيات الـ (محظورة) إذ أجاز له القانون حصرا تناول التجاوزات: (غير المحظورة فقط وله الحق في نشرها بحدود القانون) وهذا مانصت عليه المادة 4/ اولا..! وبذا يجوز للمسؤول ان يسرق ويرتشي ويختلس ويتواطأ ويقصر أنّى شاء، ولايجوز للصحفي الإشارة الى ذلك. اما المادة 5/ ثانيا فانها تتيح (للصحفي حق التعقيب في حدود احترام القانون) بينما تتيح للمفسدين العيث والعبث وفعل ما لايمت الى إحترام القانون بصلة، بلا رقيب او حسيب. كما تجيز المادة 6/ اولا للصحفي (حق الاطلاع على التقارير والمعلومات والبيانات الرسمية، بما لايشكل ضرراً في النظام العام) هذا يعني ان الضرر لو بدر من وزيرٍ او مديرٍ او موظفٍ او رئيس وزراء او رئيس جمهورية، فهو سر من أسرار المنصب لايحق للإعلامي الإطلاع عليه وإعلام المواطن بما يحدث خلف الكواليس. هذا غيض من فيض مايحتويه قانون حقوق الصحفيين في عراقنا الجديد، عراق مابعد التحرير، عراق الحكومات المنتخبة، عراق السياسيين الذين لايخطأون ولا يتوبون، لظنهم أنهم غير مشمولين بحيث سيد البرية (ص). وما اتباع المجتمعين والمؤتمرين في جلسات مجلسي الوزراء والنواب أساليب الاجتماعات المغلقة، والمؤتمرات الخاصة، وإقامتها في بيت رئيس او وزير، إلا دليل على سعيهم في إبعاد الصحفيين عن إظهار الحقيقة، مخافة البوح بها وكشف المستور.
[email protected]