18 ديسمبر، 2024 7:05 م

لماذا يجب أن يصمت الكاتب؟

لماذا يجب أن يصمت الكاتب؟

في مقالة سابقة كتبتها تحت عنوان: “لماذا يجب أن يموت المؤلف؟” (الرأي الأردنية، 7/12/2019) وضحت مدلول نظرية موت المؤلف، فأنا لا أحبذ أن يفسر الكاتب نصه مهما أسيء فهمه، فللكاتب أن يقول، وللقارئ أن يؤول، وإلا على الكاتب أن يشرح لكل قارئ مقاصده من العمل. ليس من باب موت المؤلف هذه المرة، ولكن من زاوية أخرى؛ فقط قل كلمتك وامشِ… رحم الله المتنبي الذي كان ينام ملء جفونه عن شواردها، ولا يهتم مفسرا وموضحا. كان يقول قصيدته، ويتركهم (المتلقين) في شغل منهمكين. وهو غارق في هدأة باله، بل إنني أراه بعد كل شاردة، يعد شاردة أشد. فمن مثل المتنبي في هذا الزمن الرخو؟

هذه قضية نقدية شائكة وقديمة، فقد تعرض الشعراء والنقاد إلى مواقف محرجة نتيجة إساءة الآخرين فهم ما يقولون. إنها مشكلة حقيقية أولا في الكاتب الذي أخرج المعنى على هيأة ما، ولكن بعد أن استقر في ذهن المتلقي وجد أن ما قصده ليس هو المعنى الذي وصل إلى فهم القارئ. وعدا أن الكاتب هنا وفي هذه الحالة سيعترف بقصور النص، وفشله في أداء رسالته.

يُروى عن الناقد عبد الله بن عتيق أنه وصف الشاعر عبيد الله بن قيس الرقيات بـ “فارس العمياء”، وعندما استهجن الشاعر هذا الوصف، أبان له الناقد أنه هو من وصف نفسه بذلك عندما قال في بيت شعر له: نفذت بي الشهباء نحو ابن جعفر سواء عليها ليلها ونهارها. فما يستوي الليل والنهار إلا على العمياء. فيضطر الشاعر إلى شرح مقصوده بقوله: “إنما عنيت التعب”. فيقول له الناقد: “بيتك هذا يحتاج إلى ترجمان”.

إن ما وصل الناقد من معنى لهو المعنى الذي تؤديه العبارة الشعرية دون تمحّل أو تأويل، إذ لا ينفع فيها التأويل ليوجّه معناها نحو صحة المقصود؛ على الرغم من أن الناقد يعلم المعنى الذي قصده الشاعر. إنه قصور المبنى عن أن يحمل المعنى الكائن في النفس، ولا يصح هنا أن يقال: “المعنى في بطن الشاعر”. بل المعنى في ذاكرة الكلمات ومبانيها وتراكيبها، وعلينا ألا نتذرع كل مرة بمقولة بائسة ليس لها سند أو منطق أو داعٍ لتعيش اليوم في ظل هذا التعدد النصي والتأويلي والنقد التنظيري.

كثير من الكتّاب اليوم يحتاجون إلى أن يترجموا نصوصهم وأن يشرحوا أقوالهم. إنها أزمة نص في حقيقة الأمر، وليست أزمة تلقٍ كما قد يتوهم البعض. ربما يعود ذلك في جزء منه إلى أن الكاتب نفسه لا يعي مدلول الكلمات التي يستخدمها وتراكيبها، فقط هو يعرفها مبنى ولا يعرف ما فيها من ذاكرة، أو ربما نسي في لحظة ما المعنى المستقر، وأراد اللعب على معنى آخر مجتلب، فتخونه اللغة والتعابير، هنا تخرج ذاكرة الكلام لتقول له قف، لقد أخطأت، فيأخذ في التبرير أو التراجع والاعتذار. إن هذا يحدث كثيرا، ولو تنبه المتحدثون ومنهم الكتاب لما استخدموا تلك التعابير، لأنها تحيل على ذاكرة “محرجة”. تخيل مثلًا أن تقول لصحبك الخارجين إلى العمل وأنت مسرور باشّ: “انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب”. ليس في الآية “لفظا” ما يشير إلا إلى الناحية الإيجابية، لكنّ الآية ذات ذاكرة تغصّ بالعذاب “لا ظليل ولا يغني من اللهب”. إنه أصبح وهو لا يعلم كمن يدعو عليهم لا لهم. ومثل ذلك كثير في النصوص الأدبية.

تزداد المواقف المحرجة التي يضطر فيها الكاتب للدفاع عن نصه، وخاصة فيما يتصل بالتأويل الديني أو السياسي أو الأيروسي. إن المتلقين هنا أكثر حساسية من غيرهم، فترى الكاتب يسارع أن يوضح بمقالات وتعقيبات ومنشورات قصده ومقاصده. هذا هو الخلل من ناحيتين؛ الأولى أن النص إلى الآن لم يبلغ سن الرشد فلم يستطيع أن يقف بمعناه ومبناه واضحا في عقل القارئ، وإما أن يكون المتلقي قاصرا جدا في فهم المعنى. وفي كلتا الحالتين النص لا يصلح للتلقي بتاتا، ويجب أن يرمى في سلة المهملات. ويجب على الكاتب أن يصمت على أقل تقدير، ففي الشرح قصور آخر غير القصور الأول.

هذا الخلل تكشف عنه حلقات نقاش الكتب التي تشترك فيها مجموعة من القراء متباينين في ثقافتهم، وفي آليات التلقي، فتجد أن النص قاصر، وبليد، ويحرج صاحبه أشد الحرج، فيتهم القراء بالقصور، وآخر ما يفكر فيه نفسه أو نصه الذي ربما في نشوة الفجر الكاذب يعتبره ابنا شرعيا للسماء أفاضته عليه ملائكة الوحي. لم يفكر هؤلاء الكتاب بقصور النص، وإنما فقط يفكرون في قصور القارئ، فخير وسيلة للدفاع عن النص هي الهجوم على القراء. هذا الصنف من الكتاب ساذج جدًا وبسيط، وما زال يلزمهم الكثير ليتعلموا العتبات الأولى لصنعة الكتابة.

إن هذه بلا شك أخطاء، بل سقطات، وتختلف اختلافا بينا عن بعض ما يقع فيه الكتاب، عندما يقع النص فريسة الآخر، فيأخذ صاحبه بتفسيره تفسيرا لا يزعج هذا الآخر المتربص به، كما حدث مع الشاعر محمود درويش مثلا في تفسيره لقصيدة “عابرون في كلام عابر”. هذه القصيدة التي أزعجت الإسرائيليين كثيرا، واتهموا الشاعر على إثرها بالتطرف، فيضطر درويش إلى تحجيم القصيدة، ويقصّر مداها الجغرافي، فيقصرها، تفسيرا لا نصّا، على منطقة الضفة الغربية والقدس وغزة، أي مناطق ما عرف باحتلال 67، والنص بالفعل لا يقول ذلك، ولكنه يقول فلسطين كل فلسطين. إنه موقف محرج يضطر الشاعر إلى التفسير. ربما كان هذا جانب يشير إلى ضعف الشاعر وليس الشعر. وإن كان يقصد منطقة 67 فعلا، فإن ذلك يشير إلى ضعف النص الذي يجب ألا يكون محرجا لكاتبه. وفي كلا التفسيرين ليس من مصلحة الكاتب أن يقف مثل هذا الموقف من الضعف والتأرجح.

هناك الكثير من الكتاب مراوغون، ويلعبون على الحبلين، يريدون من النص أن يكون مخادعا، ليستطيع تفسيره حسب ميزان القوة، فمرة قد يكون مع عليّ فيفسره تفسيرا يرضي عليّا وأشياعه، ومرة يفسره على هوى معاوية، ليكسب الود والمال، ولذلك تراه مستندا إلى أرضية رخوة من المعنى يستطيع أن يحركها اتجاه اليمين أو اليسار، فيميل مع الريح حيث تميل. إن الأفضل لهؤلاء ألا يكتبوا أدبا، وعليهم أن يسكتوا، فخير الناس، ومنه الكتاب، من أراح واستراح. أليس كذلك؟

لقد مات المؤلف منذ زمن بعيد، وعلى الكتّاب أن يقتنعوا بذلك، وإن لم يكونوا على استعداد ليقتنعوا، يجب عليهم أن يصمتوا كلية عن التفسير أو يمتنعوا تماما عن إنشاء الكلام المحرج، ففي واحد من ذينك الخيارين سلامة للكاتب. وأشد سلامة هو أن يتخذ بعضهم السلامة التامة وأن يصمتوا نهائيا، فالعالم ليس ملكك وحدك أيها الكاتب، فرحم الله كاتبا كتب صوابا فغنم، أو سكت فسلم من ألسنة النقاد الحادة التي لا ترحم.
منطقة المرفقات