الغريب في اللغة إنها تسفر عن غرابة لا ثير الدهشة خصوصاً حين يتكرر المشهد الدرامي الثقافي والنقدي إلى ما لانهاية وحين تضفي الاحداث الدراماتيكية المتشعبة طابعاً يتجاوز مفهومنا للسريالية في بلد لم يعرف في سنين عمره إلا العذاب والموت والجمر والندم ومهرجانات البكاء، ثمة من يقول ليس بالضرورة أن تكون الحياة آمنة وفي ذات الوقت يذكر، ربما سهواً، أن الموت، بكل أشكاله، هو الشيء الوحيد الذي يسعى إلى الناس ولا تسعى الناس إليه، يا للمفارقة والغرابة والدهشة .
الثقوب السوداء وهي تعصف بحياتنا بموازاة زميلاتها الكائنة في الروح تنتج مشهداً حالكاً نراه كل يوم، مشهد يحتاج لكي يرسو على سطر ما ضراوة الكلمات الأولى أو جرأة الكاتب المختلف والخاسر لا لشيء فقط للحد من النزيف أو لفرض نوعاً من الحياة الآمنة الجملية أو تلك الخالية من الجراثيم والاوبئة والمخلوقات المتفسخة . هذه المحنة تحمل في صفحاتها التي لا تحصى عدداً لا يحصى من الموتى أو الكسالى أو الطارئين في ميادين الحياة العراقية المختلفة المتقاطعة .
أن تكتب، يعني انك ملزم بتسديد دين، بمعنى انك محكوم بقرض محبة دائم فكلا الأشياء تختلف في التقابل وأن تشابهت في التعبير، والكلمات، هي الأخرى، لا ترتدي الأقنعة إنها ملفوفة بالأزرق الجميل أو موشاة بالهدايا البيضاء المقدسة والمقدمة، في ذات الوقت، على طبق من جمر المعنى .
كريهة هذه البلاد التي تحمي جلادها أو الكاتب المتواطئ يوم افتضاح أمره، فهل أصبح الموت أو التشويه والإساءة عملاً روتينياً؟ من أين تأتي هذه الروائح اللغوية الكريهة؟ كيف نتمكن من جعل الحياة قوية الأثر؟ هل العراقي يخوض حرباً بالنيابة عن الموت ضد بلاده، الغريب في الأمر هو هذا السؤال الأزلي: كيف أجتمع الموت والعراق في قالب واحد؟ لماذا نخجل من أطلاق سراح اللغة؟ العراقيون ضحايا للتورم والمرض، الحرائق والتواطؤ، الإدانة والإساءة فهل أصبحت الخيانة (اللغوية الفكرية النقدية) عملاً باراً؟ من سيدافع عن العراق أمام: منابرالجهل وخطباء الموت والجدب أو الكتابة المزورة؟ هل من المعقول أن تخلصنا اللغة من كل هذا الموت أو أخراجنا من المحنة بعد كل هذا العقوق اللفظي؟ هؤلاء الذين حولوا البلاد إلى جامع والشوارع إلى مصلى والمدارس إلى ثكنات ومنتديات العلم والفن والأدب إلى أقبية ومسالخ والمستقبل إلى وهم، وكل شيء إلى خراب، كيف ومتى وأين سنحاسبهم؟ بعد كل هذا الخراب والتلاشي والضحايا والاقبية المظلمة والظلم والطغيان والوشاة والادلاء وتوصيات العقائدي الجديد لا يمكن لنا أن نتساءل بسذاجة: من سينقذ من؟ من يصنع الموت في بلاد الرافدين؟ فالموت المعنوي واللفظي والروحي هو الشيء الوحيد الذي لا شريك له إلا العراقي، وهذا الأخير يجعل من اللغة كائناً غريباً مثلما يجعل من المعنى كتلة هلامية .
المعاناة مع اللغة أبدية، والمعاناة، هنا، ليست كلمة في قاموس، بل كلمة تنبض بالحياة، وبكل ما تزخر به الحياة من قدسية وحرية ومعنى، وعلى الكتابة أن تُرجع للغة حرارتها الأولى وللمعنى بداهته الأولى وأن تنقلنا من البلاهة والبلادة إلى البديهيات الأولى والجوهريات الأساسية: قيمة الإنسان وقيمة الحياة، فمرجعية اللغة هي الإنسانية والتحرر والتحليق والخلق .