18 ديسمبر، 2024 9:04 م

لماذا لجأ ملك السويد الى الدولة العثمانية؟

لماذا لجأ ملك السويد الى الدولة العثمانية؟

كارل الثاني عشر أو تشارلز الثاني عشر (1682 م – 1718 م)، تولى حكم مملكة السويد، سنة 1697م، وهو في الخامسة عشر من عمره. يوم أن كانت السويد امبراطورية كبيرة، وواحدة من اعظم دول اوربا حيث تضم مناطق نفوذ واسعة. وحدود ممتدة عابرة للسويد الحالية، الى الاقاليم شرق بحر البلطيق، وأجزاء كبيرة من روسيا والمانيا. وتتمتع بترسانة من الأسلحة، وجيشٍ ضخم وأسطولٍ بحري كبير. وتميز الملك الشاب بكونه قائدًا عسكريًا ماهرًا، وحاكما نشطًا، وطموحًا الى حد بعيد برغم حداثة سنّه، رابط الجأش في لحظات الخطر، قاد سلسلة سريعة من الحركات العسكرية في اوربا. بقصد المحافظة على حدود مملكته، ولتوسيعها في شمال أوربا والأراضي الروسية.
لصغر سنه تألب عليه ملك الدنمارك وملك بولونيا وقيصر روسيا، مستغلين قلة خبرته في الحكم، طامعين في تقسيم مملكته. مما تَطلب منه الحركة الجادة والسريعة، لتلافي كل هذه المخاطر المحدقة به. ولعل الخصم الأكبر الذي واجهه أولًا، تمثل في روسيا التي تشكل أكبر تهديد للسويد. فالعلاقات معها كانت متوترة على الدوام بسبب الاختلاف على الحدود ومناطق النفوذ. وكان جيش الروس أكثر عدداً، وإن كان أقل كفاءة من الجيش السويدي من حيث المعدات والتدريب (1). ولكنه كان يطمع في بسط نفوذه على مناطق تابعة للسويد، وخاصة المناطق المُطلّة على البلطيق، كي يحظى بمنفذ بحري ويقترب من اوربا الغربية.
سياسة قيصر روسيا العسكرية:
كانت سياسة بطرس الاكبر ملك الروس العسكرية، تقوم على اضعاف الاقوياء من الدول المجاورة له، اي الامبراطورية السويدية، ومملكة بولونيا ، والإمبراطورية العثمانية. من خلال الحيلولة دون تحالفهم. والتفريق بينهم، واضعافهم الواحد تلو الآخر. ونفذ مشروعه في العام 1700م ، بإيقاد الحرب مع ملك السويد أولاً (2)، مستهينا بحداثة سنه وقلة خبرته. فتقدم بطرس الأكبر بقواته باتجاه بحر البلطيق . واستولى على أجزاء كبيرة من الأراضي السويدية الواقعة على أمتداد الساحل الجنوبي لبحر البلطيق.
هزيمة الروس في نارفا:
جاء الخبر للملك كارل الثاني عشر، ان فرقة عسكرية من الجيش الروسي هاجمت ليتوانيا الواقعة على البلطيق والخاضعة للسيادة السويدية. بمعنى ان الروس طرقوا ابواب السويد الشرقية الجنوبية. فعزم على المواجهة العسكرية. وقاد معركته الاولى وكان في الثامنة عشر من العمر بجيش قوامه 100 الف مقاتل. فهزم الجيش الروسي والذي كان قوامه 50 ألف مقاتل في موقعة نارفا (شرق استونيا) وكانت الفرصة متاحة له لمطاردة الروس إثر وإجتياح اراضيهم ، مستغلًا حالة ضعفهم وإنكسارهم. ولكنه آثر الإنصرف عائدًا لإخضاع القوى المتنمرة التي خلّفها خلفه، التي تريد الهيمنة على بحر البلطيق . فانتصر على الدنمارك. ثم سار الى تحالف قوات بولندا- ليتوانيا وحليفها في مناطق السكسون في شمال المانيا فقهر جيوشهم، وعزل ملك بولندا واقام مكانه احد محالفيه. فنجح في توطيد سيطرته على البلطيق وحقق انتصارًا باهرًا ، وبعد ان كسر شوكتهم تفرغ للروس. ولكن هذا الوقت اتاح للروس ولقيادته العنيدة ممثلة في القيصر بطرس الاكبر، استعادة بناء قواتهم الى حد ما، والاستعداد لملاقاة الملك الشاب مرة اخرى.
هزيمة الروس في غرودنو:
لم يجلس هذا الملك الشاب الجسور في القلاع والحصون لأصدار الأوامر بالقتال بعيدًا عن الجبهة. كما أنه لم يعبأ بترف المُلك والقصور. فهو محارب عتيد عنيد هو الآخر. يقود المعارك بنفسه مخاطرًا بحياته. وكان كل انتصار له بمثابة شحنة إضافية من الشجاعة والاقدام، لمواصلة صد اعداءه واخضاعهم، ذائدًا عن حدودد مملكته، أزاء كثرة الطامعين. فالتقى مع الروس مجدداً وهزمهم في غرودنو (روسيا البيضاء).
حصار بولتوفا وهزيمة السويد:
تقدم الملك الشاب في سنة 1709م الى موسكو، مزهوًا بإنتصاراته المتتالية، وثقته بقواته التي لم يزد تعدادها في هذه المرّة عن 25 الف مقاتل فقط.، فحاصر الروس في بولتوفا (في أوكرانيا) (3). وكان هذا خطأً فادحًا. ومغامرة غير محسوبة العواقب. أوكبوة لا تحمد عقباها. لأن الظروف لم تكن مواتية آنذاك. فقد كان الروس ضعف العدد واكثر استعدادًا هذه المرة. ثُمَّ المناخ الشتوي القاسي البرودة. والتوغل العميق بعيدًا عن ارض الوطن (كان الروس ينسحبون امامه ويحرقون كل شيء حتى لا يحصل الجيش السويدي على المؤن من القرى التي يمر بها). ثُمَّ صعوبة إدامة خطوط الامداد التمويني والعسكري مع ستوكهولم. والانهاك الذي اصاب الجنود السويديين في حروب متتابعة بعيدًا عن الوطن، ولإصابته هو بالذات برصاصة كانت قد هشمت عظام قدمه واعجزته عن المشاركة الفعالة في الجبهة. كل هذه عوامل اضعفت القدرات القتالية للسويديين وفتت في عضدهم ومعنوياتهم. فهُزم الجيش السويدي هزيمة منكرة . وانتصر قائد روسيا القيصر بطرس الأكبر.
الموقف السلبي للعثمانيين من الخطر الروسي:
كانت الدولة العثمانية منشغلة داخليًا بالمنازعات السياسية على منصب الصدر الأعظم والمناصب الوزارية التي تتبدل باستمرار . ولم تولِ التحركات الروسية كبير اهتمام. فوقعت في خطأ استراتيجي جسيم. في انها لم تشارك السويد حربها ضد الروس عدوهما المشترك. وتركت السويد تقاتل وحدها. ويعزو البعض ان ذلك يرجع الى ان من تولوا الوزارة في الدولة العلية لم يكن لهم باع في السياسة والخطط المخابراتية والنوايا الدولية. او لم يدركوا، أو لعلهم لم يُقَدِّروا أطماع وخطط عدوهم التقليدي الروسي. حيث كان الأجدر بالدولة العلية مساندة ملك السويد الذي يحارب عدوهما المشترك، خاصة وان المواجهات كانت قرب أراضيهم العثمانية. إذ أن مساندة الدولة العثمانية بكل ثقلها، سيكون لها مردود ايجابي. وكسب كبير. يصب في مصلحتها وحماية حدودها واراضيها أولًا قبل غيرها. ولكان لمساندتها الأثر الفعال لوقف الزحف الروسي، وتحجيم قوته وانهاء تهديده. وبإمكانها مع السويد وبولونيا صنع حاجز ابدي امام الأطماع الروسية في اوربا الشرقية.
نجدة العثمانيين لملك السويد:
لم يعد بإمكان ملك السويد التقهقر الى بلاده بمن بقي معه من قواته بعد ان خسر معركة (بولتوفا). فطريق العودة طويل وغير آمن. فاتجه صوب حدود الدولة العثمانية وهي الأقرب اليه. وكانت قوات الروس تطارده فاستطاع بمن نجا من قواته ولا يزيد عددهم عن الفي مقاتل عبور الحدود العثمانية. باحثًا فيها عن مكان يحتمي فيه قرب آزوف (Assov)، وهي تقع قرب الجهة الشمالية لبحر قزوين داخل الاراضي العثمانية. وهناك هاجم الروس الملك وقتلوا قرابة نصف رجاله. فأرسل السلطان العثماني أحمد الثالث (4) قواته إلى آزوف لنجدة ملك السويد. ومعالجة خرق الروس للحدود العثمانية، واعتدائهم الصارخ على أراضي السلطنة.
لم تكن الامبراطورية العثمانية العليّة في ارقى حالاتها وتألقها التاريخي على عهد السلطان احمد الثالث. ومع ذلك كانت مرهوبة الجانب ولها سمعة يحسب لها حسابها. وهذا يمكن فهمه من خلال ملاحظة أنه لم تجرؤ دولة اوربية بمفردها على مواجهتها الا من خلال تحالفات مع دول اخرى.
اصطفاف عثماني سويدي، واستضافة:
الذي دفع ملك السويد للتوجه الى الحدود العثمانية والاحتماء بها، عدم وجود عداء مسبق بينهما، بل وجود تقارب في المواقف السياسية، والحربية، كونهما يواجهان نفس العدو. ولوحظ ان هذا التقارب النظري ، تطور فيما بعد الى تحالف تنسيقي ودفاع مشترك بين الامبراطورية العثمانية ومملكة السويد سنة 1740م . في مواجهة الروس العدو التقليدي لكليهما. بحيث يفتح احدهما جبهة ضد الروس ليخفف ضغط الروس على الجبهة الأخرى. ولكن هذا التحالف جاء متأخرا بعد انتهاء عهدي السلطان العثماني احمد الثالث، والملك السويدي كارل الثاني عشر.
وبدعوة من يوسف باشا محافظ مدينة بندر (حاليا في مولدافيا) (5). سمح السلطان العثماني للملك السويدي، بالإقامة فيها ووفر له مستعمرة أو تجمع سكاني مناسب، يضم كل اللاجئين السويديين وغيرهم، ممن رافقوا الملك كارل. وعين له طبيبا يهوديا برتغاليا لعلاجه من الجرح البليغ في قدمه، والذي كان يعاني منه ويتسبب في رفع حرارة جسمه باستمرار.
التمدد الروسي في الولايات السويدية:
ومن الطبيعي بعد تلك المعارك التي كلفت السويد الأموال الطائلة. ثمّ بعد هذه الخسارة الكبيرة في بولتوفا، استحوذت روسيا على المكاسب العظيمة التي حققها الملك كارل. وبسطت نفوذها في دول البلطيق واراضي شمال اوربا السويدية، الفاصلة بينها وبين المانيا. وعاد ملك بولونيا المخلوع (المناهض للمشروع السويدي) الى الحكم مجددًا، ونجحت روسيا في الالتفاف حوله سياسيًا وتحييده بل واخضاعه. فكان كل ذلك إيذانًا بإفول الإمبراطورية السويدية. وظهور الإمبراطورية الروسية كدولة عظمى الى العالم.
الى هنا تكون روسيا القيصرية قد نجحت في خطتها بازالة قوتين عظيمتين من القوى الثلاث المجاورة لها. ولم يبق امامها سوى الدولة العثمانية. وعندها تنبه العثمانيون لخطأ سياستهم ، وتفريطهم في فرصة ثمينة للتحالف والدفاع المشترك مع السويد . وانه ما كان ينبغي لهم ترك السويد وحدها في حربها مع الروس، ولا ترك روسيا تستولي على ولايات السويد الواقعة على بحر البلطيق كغنائم سهلة. إن عملية غض النظر العثماني عن الزحف الروسي. بالقطع سيُجَرّأ روسيا ويُطمّعها في الاستمرار بالتوسع على حساب الدولة العثمانية هذه المرة. مما يعني يقينًا ان الاستمرار في السياسة العثمانية الغير حاسمة آنذاك، كان سيؤدي الى اضمحلال دولتهم العليّة وفناءها من العالم. او تفككها وتجزئتها وضمها الى روسيا. بيد أنّ هذا الوعي جاء متأخرًا كثيرًا (6).
حفاوة العثمانيين بملك السويد وجنوده:
عند العثمانيين، تلقى الملك كارل الثاني عشر، كرم لا نظير له. ومعاملة خاصة، مشابهة لمعاملة السلطان ذاته. وليس كما جرت العادة بالنسبة للأمراء الغرباء حيث كانت تجري معاملتهم كوزير محلي. وعاش في رغد من العيش في بداية لجوءه في اسطنبول قريبا من السلطنة لمدة عام. في حين ان عساكره أقاموا في بيندر. وكان يُنفَق عليه وعلى عساكره، من الخزانة العثمانية ، من خلال نظام المساعدات اليومية المعمول به في الإمبراطورية العثمانية (7). وامتدت إقامته في ظل الحماية العثمانية، لما يقارب من 5 أو 6 سنوات. ومن محل اقامته، بقي الملك يُسيّر امور مملكته عبر إرسال السعاة كل بضعة أيام، ذهابا وإيابا بين الأراضي العثمانية والسويد، لنقل الأخبار والأوامر وتأمين الاموال لرواتب الجند ولمواصلة استعدادات الحرب.
كان الملك كارل يحاول جاهدًا استمالة الدولة العثمانية لمحاربة روسيا. واثارة مخاوفها من ان يصيبهما ما اصاب بولونيا التي اصبحت خاضعة لأوامر روسيا. ولكنه لم ينجح في مسعاه لمعارضة الصدر الاعظم العثماني لشن الحرب. أمّا على الصعيد الشخصي فقد كان الملك مقربًا من السلطان. وورد ان السلطان أحمد الثالث كان ينادي الملك السويدي بـ (أسدي)، ويسأله: متى يرى كارل الثاني عشر مهاجمة (بطرس) الكبير الروسي؟. كما واهتمت والدة السلطان أحمد الثالث بقضية الملك السويدي وتراسلت معه في بندر، وغالباً ماكانت تستقبل كارل الثاني عشر ضيفاً في بيتها بحضور الطبيب البرتغالي اليهودي وزوجته (8).
الحرب العثمانية الروسية في بروث:
كانت روسيا تُصّعد من اختراقاتها للحدود العثمانية، للضغط على الدولة العثمانية، وتطالبها بإخراج الملك السويدي من اراضيها. وكان السلطان احمد الثالث يقابل تلك الطلبات بالرفض. قام بطرس الاكبر قيصر روسيا بمهاجمة الإمبراطورية العثمانية بـ (200,000) جندي، وكان قد تولى الوزارة بلطه جي محمد باشا (9). وكان ميالاً للحرب . فاندلعت مواجهة حربية شرسة في سنة 1710م قاد القوات العثمانية الصدر الاعظم بلطه جي بنفسه. وعُرِفَت المواجهة بإسم حملة نهر بروث (Pruth)(10). وحضرها الجنود السويديون. وكادت هذه الحرب ان تقضي على روسيا وقيصرها وتوقع كل قواتها وقيصرها في الأسر. ولكنها انتهت الى عقد اتفاقية صلح بمعاهدة ادرنة 1713م. خضعت فيها روسيا لشروط الدولة العثمانية. وتنازلت عن الاراضي التي استحوذت عليها على البحر الاسود ولم يبق لها موانئ او ثغور وعاد البحر الاسود بحيرة عثمانية اسلامية من كل جوانبها. كان الملك كارل حاضرًا هذه المواجة الحاسمة، وكان يراقب اداء الجنرال العثماني ويعجب بقدراته وبخططه القتاليه. ولكنه لم يكن راضيًا عن ايقاف القتال، وأظهر بالغ الانفعال والسخط على بلطه جي. ولذا سعى لدى السلطان لعزل بلطه جي عن (الوزارة). وهذا ما تحقق فعلاً (11). ومهما يكن من شيء، فالقائد الناجح هو من يتعلم من التاريخ، ومن تجارب الآخرين، ومن اخطاءه الذاتية.
احداث الشغب بين الاتراك والسويديين:
في سنة 1714 م استاء رعايا الدولة العثمانية الأتراك، وبعض الانكشارية (12) في بيندر من بعض تصرفات ضيوفهم السويديين. فقد كان الملك يخطط ويجند المقاتلة، ويُجَهز للحرب ضد روسيا، وكان يتدخل في الشؤون السياسية داخل البلاط العثماني، ويحرض الصدر الاعظم على اشعال الحرب ضد روسيا. وتكررت الشكاوى من تجار وأهالي المدينة حول اختلافات مالية مع الجنود السويديين، وعدم تسديدهم ما اقترضوه من تجار المدينة. فتضايق الأهالي وارادوا اخراجه وجنده من بلدتهم. كما تضايق السلطان وامتعض حين تناهى الى مسامعه تدخلات الملك في الشؤون السياسية للبلاد.
حصلت احداث شغب ومناوشات بين اهالي المدينة ومعسكر الملك وقام الغاضبون وانكشارية المدينة بأعمال تخريب في محل اقامة الملك السويدي لحمله على الرحيل. فتدخلت القوات العثمانية لفض الإشتباكات، وحسمت الموقف عسكريًا، باستسلام معسكر الملك. فأصدر السلطان امره بعدم التعرض للملك كارل. كونه ضيف، والمسلم مطالب بحماية واكرام الضيف على اي ملّة كان. وقرر نقل التجمع الى أدرنه.
في ادرنه وُضِع الملك تحت الاقامة الجبرية. وواصل منها إدارة امور المملكة السويدية. ثم تم نقله بعد ذلك الى اسطنبول التي هي مقر السلطنة، ليواصل فيها اقامته الجبرية. وقد لا يكون مفهومًا بالضبط ماهو المغزى من نقله الى اسطنبول، وجعله قريبًا من مقر البلاط: هل كان ذلك من باب الحفاوة والتكريم. أم لتسهل مراقبته عن كثب بعد ان امتعض البعض بما فيهم السلطان من تدخلاته. أم لأبعاده عن جنده والحيلولة دون تحشيده للحرب ضد روسيا من داخل الأراضي العثمانية، ومن ثمّ توريط الدولة العثمانية في حرب جديدة قد لا تكون مستعدة لها. أم لتهيئة اجواء الطلب اليه للرحيل الى بلادة.. وعلى اي حال، كل ذلك وارد.
طُلب منه الرحيل الى بلده. فلم يستجب للطلب في حينه محتجًا بعدم شفاءه من الإصابة في قدمه والتي تستوجب بقاءه في السرير لفترة أخرى. والراجح انه كان يأمل من وراء تمديد فترة بقاءه، ان ينجح في اقناع قيادات الدولة العثمانية بشن حرب حاسمة على روسيا. وهكذا بقي في اسطنبول بعد هذا الطلب قرابة عشرة اشهر. فلما يئس من مسعاه ، لم يبق امامه سوى الرحيل والعودة الى بلاده.
اعجاب الملك بالحياة والضيافة العثمانية:
كانت فترة بقاءه في الدولة العثمانية فترة مدهشة. كان يلتقي ويجتمع فيها مباشرة مع السلطان أحمد الثالث. كانت فرصة ثمينة درس فيها علوم الجغرافيا وتخطيط المدن والامور العسكرية والهندسية واطلع على التقدم العلمي والثقافي والتفوق التقني العثماني. وكان منبهرا وعاشقًا للحضارة العثمانية في ميادينها المختلفة: المدنية والعمرانية، والمجالات العسكرية البرية والبحرية. وعندما عاد إلى السويد قام بنقل العديد من الامور الحضارية والثقافية التي شاهدها عند العثمانيين وطبقها في مملكته.
وقد نقل صاحب كتاب ومضات عثمانية نقلاً عن باحث تركي يدعى نجدت بايراقدار اوغلو في كتابه ” رسائل رائعة في تاريخنا” إلى أن الملك كارل الثاني عشر قد عبّر عن إعجابه الشديد بالعثمانيين لما رآه وعاشه هناك في إحدى رسائله قائلاً:
{كنت أسيراً في بولتافا، وكان ذلك بمثابة الموت لي، ثم تحررت من الأسر، وكان جلياً أن الموقف أمام نهر بوغ كان أشدّ تهلكة؛ فالماء من أمامي والعدو من ورائي، والشمس التي تلفظ اللهب على تلتي. أراد الماء إغراقي، والعدو تقتيلي، والشمس تذويبي لكني تحررت مرة أخرى. لكني اليوم أسير؛ أنا أسير الأتراك لقد فعل هؤلاء مالم يفعله الحديد والنار والماء، لم اكن مقيد القدمين ولا محبوسًا في زنزانة… بل اني حرّ طليق افعل ما أريد، ولكني مرّة اخرى أسير. انا أسير النبل واللطف، لقد احاطوني بهذا السوار الماسي. ما أعذب ان تعرفوا الحياة كأسرى أحرار وسط أمّة بهذا القدر من العطف، والطيبة، والأصالة، واللطافة، انا أسيرًا بكرمهم وأخلاقهم وحضارتهم ومعاملتهم الطيبة} (13).
عودة الملك الى السويد:
في عام 1714م قرر الملك العودة الى مملكه السويد بعد غياب طويل. وترك منفاه الإختياري في الإمبراطورية العثمانية ، فرجع بعد أن تلقى تحذيرات من الهيئات التنفيذية والتشريعية الأوصياء على الحكم في مملكة السويد تحذره من امكانية خلعه عن العرش، بسبب طول غيابه. وبسبب تدهور الوضع الاقتصادي في البلاد. وانها يمكن ان تبرم معاهدات سلام مع روسيا وبولندا والدنمارك لإنهاء حالة الحرب. فخرج من الدولة العثمانية مزودًا (بفرمان) كتاب حماية من السلطان العثماني. يمنع أي دولة أوروبية من التعرض له. وهذا يعطيك الأنطباع عن قوة ونفوذ الامبراطورية العثمانية وكيف كانت مرهوبة الجانب في البلدان الأوربية يومذاك. وقد تمكن الملك كارل من الوصول إلى بلاده بوقت قياسي في ظرف أسبوعين فقط. قاطعًا اراضي العديد من الدول الاوربية.
يعتبر الملك كارل الثاني عشر بطلاً قوميًا. وكان يلقب بـ “الملك المحارب” لقضاءه خمسة عشرة عاماً في الحرب والغربة بعيدًا عن الوطن، خاض فيها العديد من الحملات العسكرية في اوربا وآىسيا. افنى فيها زهرة شبابه وشغلته عن أمور الزواج وانجاب الوريث. كان يتمتع بمعتقداته الدينية . ممتنعًا عن الكحول. ويكرس نفسه للإهتمام بالرياضيات والعلوم وكل ماله صلة بتحسين كفاءة الآلة العسكرية والإمور الحربية.
سنة 1718م، حاول الملك كارل غزو النرويج التي كانت تحت سيطرة الدنماركيين لتحييدها، من اجل ان يتفرغ للحرب ضد روسيا. ولكن قبل بدء الهجوم، واثناء تفقده للجبهة اصيب بطلق ناري من احد الجنود المشاة الدنماركيين المسلحين بالبنادق القديمة. وتوفي في الحال، وهو ابن 36 سنة. لينقل جثمانه ويدفن في العاصمة ستوكهولم. ولتنتهي بوفاته معظم الاعمال الحربية للسويد.

المراجع والهوامش:
(1) ويكي واند السويد https://www.wikiwand.com
(2) تاريخ الدولة العلية العثمانية للاستاذ محمد فريد بك المحامي تحقيق الدكتور احسان حقي ص 312 ط دار النفائس/ بيروت.
(3) تقع في الجنوب الغربي من مدينة خركوف. أو الى الجنوب الشرقي من كييف في اوكرانيا
(4) السلطان احمد الثالث بن محمد الرابع (1673- 1736م) هو السلطان الثالث والعشرون في ترتيب السلاطين العثمانيين. تولى الخلافة وعمره اثنين وثلاثين سنة، درس على يد العديد من علماء عصره، وكان ذكيًّا، مرهف الإحساس، يُحبُّ الشعر والخط.
(5) بندر تقع على نهر دينيستر . وجمهورية ملدافيا، او مولدوڤا دولة أوروبية ذات نظام جمهوري، تقع شرق أوروبا بين اوكرانيا ورومانيا.
(6) تاريخ الدولة العلية العثمانية ص 330. (مصدر سابق).
(7) موقع مجلة الوعي http://www.al-waie.org/archives/article/5199 مقال مترجم، نقلًا عن صحيفة كريستليت داوبلاذ الدنماركية » Kristeligt Dagblad العدد 284- 285 السنة الخامسة والعشرون، رمضان وشوال 1431هـ، الموافق أيلول وتشرين الأول 2010 م.
(8) موقع مجلة الوعي (مصدر سابق).
(9) والصدر الأعظم أو الوزير الأعظم يقابله في وقتنا الحالي رئيس الوزراء. ويُعد الصدر الأعظم أعلى المناصب والمقامات داخل الدولة العثمانية بعد السلطان.
(10) النهريشكل حاليا الحدود بين رومانيا ومولدوفا.
(11) تاريخ ابن خلدون للأمير شكيب ارسلان ص 252.
(12) الإنكشارية تعني: “الجنود الجدد” هي قوات مشاة من النخبة بالجيش العثماني، وهم الحرس الخاص للسلطان العثماني.
(13) ومضات عثمانية لمحمد يوسف العوض ص 125.
الرابط والصفحة https://kitabat.com/author/khaladabdelmagid-com/
البريد الالكتروني [email protected]