الأشعث الفرزوني من البديهي إن التقدم والتحضر الذي تحرزه بعض المجتمعات في العالم أو تأخر وتخلف مجتمعات أخرى لا يمكن أن يعزى ، كما يعتقد الكثيرون ، الى أسباب وعوامل واهية وساذجة كأن تكون عوامل طبيعية أو بسبب الحروب أو الإستعمار والإحتلال أو عدم توفر الموارد الطبيعية وما الى ذلك . فهناك العديد من الدول تخضع لظروف طبيعية ومناخية قاسية جداً إلا ان مجتمعاتها أحرزت مستويات عالية من التقدم والتطور والتحضر كالدول الإسكندنافية وبعض الدول الأوربية واليابان ، في حين نجد العكس تماماً في دول ذات ظروف طبيعية ومناخية معتدلة كدول الشرق أوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية إلا ان مجتمعاتها متأخرة ومتخلفة . وكذلك هناك العديد من الدول التي خاضت مرات عديدة حروب طاحنة ، كالحرب العالمية الأولى والثانية ، والتي أودت بمعظم إمكانياتها ومواردها المادية والبشرية إلا ان مجتمعاتها استعادت تقدمها وتطورها وتحضرها بفترات قياسية كما هو الحال لدول أوربا واليابان وروسيا على سبيل المثال في حين بقيت مجتمعات أخرى بعيدة عن مضمار التقدم والتطور بالرغم من عدم تعرضها للحروب الطاحنة كبعض دول أمريكا الجنوبية وإفريقيا وآسيا . إضافة الى ان العديد من الدول خضعت للإحتلال نتيجة الحروب مثل ألمانيا واليابان على سبيل المثال إلا ان مجتمعاتها حققت أعلى الدرجات في التقدم والتطور والتحضر ، على عكس بعض الدول أو المجتمعات التي لم تخضع بتاتاً للإحتلال أو الإستعمار إلا أنها بقيت متأخرة ومتخلفة عن ركب التقدم والتحضر كبعض من دول أمريكا اللاتينية وآسيا . أما من ناحية مدى توفر الموارد الطبيعية من مواد خام كالنفط والحديد والذهب واليورانيوم وغيرها فهناك العديد من دول العالم تفتقر الى الكثير من الموارد الطبيعية إلا انها حققت أعلى درجات التقدم والتطور والتحضر مثل اليابان ، وبالمقابل هناك العديد من الدول التي تتوفر فيها العديد من الموارد الطبيعية إلا انها إستمرت في تخلفها وتراجعها في جميع المجالات كما هو الحال في معظم دول الشرق الأوسط وأفريقيا وبعض دول آسيا وأمريكا اللاتينية .
الخلاصة والمنطق البديهي وتجارب التاريخ تشير بوضوح وبدون اي لَبْس بان التقدم والتطور والتحضر يمكن ان يتحقق بإحدى الحالتين : إما بوجود نخبة من المجتمع على درجة عالية من الثقافة والتعلم والإدراك تتولى إدارة البلاد بكل مفاصلها مهما كانت الطريقة التي توصلها للحكم شرط أن تكون هذه النخبة الحاكمة على درجة كبيرة من الإدراك لمسؤولياتها وتتحمل بكل معنى الكلمة مسؤولية بناء جيل جديد ، بل أجيال جديدة ، من المجتمع يفهم ويستوعب المبادئ والممارسات الحقيقية لتحقيق التقدم والتطور والتحضر في المجتمع ، وتؤسس بشكل فاعل دعائم دولة المؤسسات وتكيِّف جميع الإمكانات لتطوير كافة شرائح المجتمع وتأهيلهم بالشكل الصحيح لفهم واستيعاب مضامين الممارسات الديموقراطية المتعارف عليها في دول العالم المتقدم والمتحضر وذلك كبداية لمرحلة ممارسة المجتمع لحقوقه في إنتخاب ممثليه في إدارة شؤون البلد وفق النظم الديموقراطية الحقيقية . أما الحالة الثانية لتحقيق التقدم والتطور والتحضر فتتمثل بوجود مجتمع عموم شرائحه يحمل من الوعي والإدراك والثقافة ما يؤهله لإحداث ثورات إجتماعية لتصحيح مسارات السلطة الحاكمة أو حتى تغييرها وانتخاب سلطة حاكمة تعي وتدرك بوضوح تام وبمسؤولية عالية معالم التقدم والتطور والتحضر وتؤسس دولة مؤسسات وتضع كافة المستلزمات الضرورية لإرساء قواعد النظام الديموقراطي الصحيح المبنية على مبادئ الحرية واحترام الانسان وكرامته وتحقيق العدالة وحرية الفرد في اختيار ممثليه لإدارة شؤون البلد وإرساء قواعد حكم المؤسسات وسيادة القانون وتوجيه إمكانات الدولة بإتجاه تحقيق التقدم والتطور والتحضر بما يخدم مصالح المجتمع كافة ومستقبل أجياله . وسنكمل الفكرة في المقالة القادمة .