23 ديسمبر، 2024 1:08 م

لماذا عادت الاتفاقية العراقية الصينية الى الواجهة مرة اخرى؟

لماذا عادت الاتفاقية العراقية الصينية الى الواجهة مرة اخرى؟

تؤشر عودة الاتفاقية العراقية الصينية الى واجهة الوقائع والاحداث، وتصدرها المشهد مرة وبصورة مختلفة عن السابق، الى ان ضغط الظروف الاقتصادية الحياتية على الدولة العراقية بمختلف مؤسساتها ومفاصلها وعلى الشارع العراقي بشتى عناوينه ومسمياته ومستوياته، دفع الى البحث والتفتيش الموضوعي عن حلول ومخارج عملية وواقعية وسريعة، وبكلف واشتراطات اقل، وبمسالك ومسارات مختصرة وبعيدة عن متاهات البيروقراطية والروتين وقنوات الفساد.
في وسائل الاعلام، وعبر المنابر السياسية، وفي اوساط الرأي العام، بات الحديث عن الاتفاقية العراقية الصينية والدعوات الى تفعيلها، يشغل الحيز الاكبر، في ظل عجز الحكومة عن التوصل الى حلول واقعية وعملية وسريعة للازمة الاقتصادية الخانقة التي طالت لاول مرة رواتب موظفي الدولة، بحيث تسببت بتأخير صرفها لمدة شهرين، وبالتالي انعكس ذلك بصورة واضحة على مجمل حركة الاسواق ونشاط القطاع الخاص.
ابرمت الاتفاقية العراقية الصينية خلال زيارة رئيس الوزراء العراقي السابق عادل عبد المهدي على رأس وفد كبير ضم عشرات الوزراء والمحافظين والمستشارين والخبراء ورجال الاعمال في مختلف المجالات والاختصاصات الى الصين في الثالث والعشرين من شهر ايلول-سبتمبر من العام الماضي 2019، حيث كانت بوادر وملامح التظاهرات الاحتجاجية بدأت تلوح في الافق، والمساعي المحمومة من قبل بعض الاطراف السياسية للاطاحة بالحكومة كانت قد تكشفت الى حد كبير، لذا كان من الطبيعي جدا ان تتعرض مبادرة عبد المهدي الى الكثير من الانتقادات والاعتراضات والتحفظات التي ساهمت في تأجيج الشارع، لتضيع الاتفاقية في موجة الاجواء السياسية والشعبية المشحونة بالتوتر والانفعال والفوضى، المترافقة مع حزمة المطاليب السلمية المشروعة.
ومن المؤسف انه لم يلتفت الكثيرون في حينه الى النقاط الايجابية الكثيرة في الاتفاقية مع الصين، وحتى من تحدث عنها وتناولها بالتحليل والتوضيح لم يجد اذانا صاغية من الاخرين، وربما ما زال الكثيرون يجهلون تلك النقاط الايجابية، رغم تصاعد المطالبات والدعوات الى العودة اليها وتفعيلها.
المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء السابق، الدكتور مظهر محمد صالح، يشير الى ان الاتفاقية العراقية الصينية عبارة عن قرض ائتماني صيني قدره عشرة مليارات دولار يتم تسديده الى بكين عبر وضع عائدات مائة ألف برميل من صادرات النفط الخام العراقي يوميا في حساب خاص في أحد البنوك الصينية، وتبلغ قيمة تلك العائدات نحو ملياري دولار في السنة بأسعار قُدرت حينها بخمسة وخمسين دولارا للبرميل الواحد، وتبلغ مدة الاتفاقية عشرين عاماً، والاتفاقية في اطارها العام تخلو من الشروط الجزائية، وتندرج ضمن اتفاقيات الصداقة، وفي حالة حصول خلاف يتم اللجوء إلى هيئات التحكيم الدولية، وهي قابلة للتمديد والزيادة إذا رغب الجانب العراقي.
ويوضح المستشار صالح ان الاتفاقية تشتمل على أمور عدة منها، إنشاء صندوق عراقي- صيني للإعمار، تتولى الحكومة العراقية الاشراف عليه عبر البنك المركزي والحكومة الصينية بضمانة مؤسسة التأمين الصينية “ساينو شور”Sino sure” ، تحجز فيه إيرادات مائة ألف برميل يومياً من النفط العراقي المباع إلى الصين، مقابل أن تضع الحكومة الصينية مبلغ عشرة مليارات دولار بفوائد مدعومة من قبلها، وفي حال نجحت الحزمة الأولى من المشاريع، وابدت الحكومة العراقية رغبتها رفع مستوى الاستثمارات، يتم رفع سقف إيرادات مبيعات النفط العراقي إلى ثلاثمائة ألف برميل يومياً، وبالمقابل تزيد الصين سقف الإقراض إلى ثلاثين مليار دولار، ثم يودع المبلغ في مصرف “سيتي بنك-الصين”، الذي يقوم لاحقاً بتحويله إلى حساب العراق في المجلس الاحتياطي الفدرالي الأمريكي في نيويورك (الذي يشرف على مبيعات النفط العراقي الإجمالية)، قبل أن يصار لتحويله الى حساب جديد يسمى “حساب الاستثمار”، ويتم إنشاء حساب آخر يسمى “خدمات الديون”، ويخصص لدعم نسبة الفائدة، ويستقطع مبلغه من حساب الاستثمار.
ومن ابرز المشاريع التي يفترض انجازها من خلال الاتفاقية، تطوير البنى التحتية والمنشات الحيوية، من قبيل المطارات والمدارس وتوسيع شبكات الطرق الخارجية والسكك الحديد، ومعالجة تلوث المياه، وبناء المجمعات السكنية، ومشاريع الطاقة، وغيرها.
وتمتاز الاتفاقية العراقية الصينية، في انها لاترتب على العراق التزامات مالية مسبقة، ولاتتقاطع مع ضرورات ومقومات الامن القومي واعتبارات السيادة الوطنية، ولاتنطوي على املاءات، واكثر من ذلك كله، انها ابرمت مع طرف دولي كبير ومهم وله ثقله الاقتصادي العالمي، لاتوجد هناك عقد او اشكاليات في التعاطي معه، على العكس تماما من التعاطي مع الولايات المتحدة الاميركية او اطراف دولية واقليمية كان لها دور سلبي في خلق وتعميق المشاكل والازمات السياسية والامنية في العراق على مدى مايقارب من عقدين من الزمن، وربما ابعد من ذلك.
وتأسست رؤية عبد المهدي وفريقه الاستشاري على ابعاد واهداف اقتصادية وسياسية وامنية يمكن ان تتحقق من وراء الاتفاقية العراقية الصينية، وهذا ما اثار حفيظة واشنطن، التي سعت ومازالت الى ابقاء العراق تحت هيمنتها وسطوتها الكاملة، وهي رأت في تلك الاتفاقية تهديدا كبيرا وخطيرا لوجودها في العراق، واستهدافا لمشاريعها واجنداتها المستقبلية في عموم المنطقة، الامر الذي حدا بها الى توجيه اكبر قدر من الضغوط لعبد المهدي وحكومته بشتى السبل والوسائل والادوات، ولاشك ان بعضا مما تخلل التظاهرات السلمية المطلبية التي انطلقت في تشرين الاول-اكتوبر الماضي في عدد من المحافظات العراقية، من سلوكيات وممارسات سلبية، اشر الى اصابع واشنطن فيها، من خلال سفارتها في بغداد، وجهات وشخصيات تعمل بواجهات مدنية غير حزبية.
وقد يكون التصور القائل ان ابتعاد عبد المهدي عن واشنطن واقترابه من بكين وطهران وانفتاحه على فضاءات دولية واقليمية لاتروق لواشنطن، كان احد اسباب التوجه لمحاصرته ومن ثم ارغامه على التنحي، قد يكون مثل هذا التصور واقعيا الى ابعد الحدود، بيد ان القوى التي ساهمت في الدفع بهذا الاتجاه، هي ذاتها اليوم راحت تدفع بأتجاه تفعيل الاتفاقية الاعراقية الصينية، كأحد الحلول والخيارات المتاحة لمواجهة الازمة الاقتصادية الحادة التي تواجهها البلاد في ظل جائحة كورونا وتراجع اسعار النفط، وعدم توفر البدائل المناسبة والكافية لتعويض العجز المالي الكبير، ناهيك عن التخبط الواضح للحكومة الحالية وعجزها عن العثور على مخارج مناسبة للازمة-كما اشرنا انفا- في وقت راحت الضغوط الشعبية تتسع مع تزايد ابعاد ومساحات الازمة الاقتصادية.
واليوم فأن الخبراء والمختصين في الشؤون الاقتصادية، يربطون تدوير عجلة الاقتصاد العراقي، وتفعيل وتحريك القطاعات الاستثمارية، وتعزيز مشاريع البناء والاعمار، بأعادة احياء الاتفاقية العراقية الصينية، خصوصا مع رغبة بكين وتفاعلها واستعدادها للسير قدما نحو الامام في هذا الخيار.