من ضمن ماعانى منه العباسيون داخليًا، نار ابناء العم العلويين في صراعهم على السلطة. فقد ذكر المؤرخون انه قد حدثت اكثر من 40 محاولة مابين ثورة وتمرد وانقلاب مسلّح على الخلافة العباسية. وكانت بقيادة اشخاص كلهم يدّعون الإنتماء للبيت العلوي. ومن الطبيعي ان الاصطدام مع قوات الخلافة، ينتج عنه ازهاق ارواح كثيرة وانفاق اموال طائلة. وانشغال للدولة في اخماد تلك المحاولات. وكل ذلك يأتي على حساب االتنمية والازدهار وحماية الثغور.
كانت الاجهزة الأمنية في حكومة الرشيد شديدة الحذر من الخروقات السياسية الحادّة التي يمكن ان تُعرّض امن الدولة للخطر، (وقد عاصر الرشيد بعضا من هذه الخروقات “المسلّحة” في زمن ابيه المهدي) ولا ريب أن الرشيد كان يتوجس ويخشى ان يخرج عليه احد ابناء عمّه العلويين. وساعتها سيكون الموقف عليه اصعب من غيرة، لصلة القرابة التي يرغب الرشيد في ان لا يعتريها ما يعكرها.
عادة ما تكون هذه الحركات والخروقات سرية في مبتدئها. ولهذا كان الرشيد يحتاط، وقد يأخذ بالظن احترازاً وليس عقوبةً، فيحبس الى حين، من تتوارد الشبهات والاخبار عنه انه يقوم بتحركات واتصالات سريةً، او جمع اموال، او تنظيم تجمعات، او اي شيء يُشم منه السعي لتغيير نظام الحكم. وهذا تصرف طبيعي في ظل احتمالية حدوث شيء ما، يعكر الأمن العام.
هذا الحذر كان يرافقه محاولة الرشيد الدائمة، للتصافي والتسامح والود مع ابناء عمّه العلويين (بيّنّا نموذجاً لذلك في بحث سابق بعنوان “المكر البرمكي: من قتل يحيى بن عبد الله العلوي؟”).
كان الإمام موسى بن جعفر الكاظم (رضي الله عنه وأرضاه)، أحد المكرمين الأجلاء عند الرشيد. يستضيفه في دار الخلافة بكل إحترام كأحد اقرباءه الموقرين وكعالم مشهود له بالصلاح، فيحادثه ويناظره، ويكرمه بالعطايا والأموال الجزيلة. وكان الامام يقابله بالود والإحترام ، وقد وسمى احد ابناءه (هارون)، وقطعاً لا يسمي احد ابنه باسم شخص لا يحبه.
لم يُعرف عن الكاظم انه إنشغل بالعمل السياسي السري أو العلني، ولم يَسعَ للخلافة أو يطلبها أو يدعيها لنفسه، ولم يفكر بالقيام بتحرك ثوري، بل رفض ذلك بشدة وعاب على من يفكر به. إذاً هنا ينبغي علينا التساؤل: إن كان ألإمام يحضى بكل هذا التكريم، ولم يكن راغباً في إعلان ثورة، ولا طامعًا في خلافة، فلماذا سجنه الرشيد اذًا؟.
جذور هذا الهاجس عند الرشيد، تعود الى زمن ابيه الخليفة المهدي، حين خرج عليه أكثر من واحد من البيت العلوي. فقد خرج عليه: (إدريس) كما خرج عليه (يحيى) إبني عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن ابي طالب. وحين فشلت حركتهما، فرّ ادريس الى المغرب الاقصى ونجح في تأسيس دولة ألأدارسة هناك. في حين التجأ يحيى الى بلاد الديلم، واعلن فيها الخروج على الخلافة في زمن هارون الرشيد والمبايعة لنفسه امامًا للمسلمين.
علاقة الخليفة المهدي بالإمام موسى الكاظم:
مع كثرة من خرج على الخلافة العباسية من البيت العلوي ولوجود الوشايات بحق وبدون حق. فمن الطبيعي ان يتوجس الخلفاء العباسيون من بعض سادة وأعيان البيت العلوي، وقد يشكلون لهم ارقا وكابوسًا في المنام.
روى ابن الجوزي في المنتظم 3/147، والأبشيهي في المستطرف 342 وغيرهما: ان المهدي (ابو هارون الرشيد) حبس موسى الكاظم (بسبب وشاية)، فرأى المهدي في المنام علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) وهو يقول: يا محمد (اسم الخليفة ولقبه المهدي) {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم.} (ألآية 22 من سورة محمد)، قال الربيع (وزير المهدي): فأرسل إليَّ ليلاً، فراعني ذلك فجئته، فإذا هو يقرأ هذه الآية، وكان أحسن الناس صوتاً. وقال: عَلَيَّ بموسى بن جعفر، فجئته به، فعانقه وأجلسه إلى جانبه، وقال: يا أبا الحسن، رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في النوم فقرأ عليَّ كذا، فعاهدني أن َلاتخرج عليّ أو على أحد من ولدي؟ فقال: والله لا فعلت ذلك، ولا هو من شأني. قال: صدقت. يا ربيع أعطه ثلاثة آلاف دينار ورده إلى أهله إلى المدينة. قال الربيع: فأحكمت أمره ليلاً، فما أصبح إلا وهو على الطريق.
هذا كان شأن الخليفة المهدي مع ابن عمه عميد الاسرة العلوية موسى بن جعفر. رغبة في التصافي والمسالمة، وحذر مما يمكن ان تخبئه الأيام.
علاقة الرشيد بالامام موسى الكاظم:
تأمل العلاقة الوطيدة بين البيتين العباسي والعلوي من خلال هذه الرواية التي يرويها الصدوق في عيون اخبار الرضا 2/87، والتي تبين مدى حب هارون الرشيد وإبنه المأمون للإمام موسى الكاظم.حيث نقل عن المأمون قوله: ما زلت أحب أهل البيت عليهم السلام وأظهر للرشيد بغضهم تقربا إليه، فلما حج الرشيد كنت ومحمد والقاسم (إبني الرشيد) معه. فلما كان بالمدينة استأذن عليه الناس، وكان آخر من اذن له موسى بن جعفر عليهما السلام فدخل فلما نظر إليه الرشيد، تحرك مد بصره وعنقه إليه، حتى دخل البيت الذي فيه، فلما قرب جثى الرشيد على ركبتيه وعانقه،(اي كان جالساً على الأرض فنهض على ركبتيه)، ثم اقبل عليه فقال له: كيف أنت يا أبا الحسن وكيف عيالك وعيال أبيك؟ كيف أنتم ما حالكم؟ فما زال يسأله هذا وأبو الحسن يقول: خير خير، فلما قام أراد الرشيد ان ينهض، فاقسم عليه أبوالحسن فأقعده وعانقه وسلم عليه وودعه. قال المأمون: وكنت أجرئ ولد أبي عليه، فلما خرج أبو الحسن موسى بن جعفر قلت لأبي: يا أمير المؤمنين لقد رأيتك عملت بهذا الرجل شيئا ما رأيتك فعلته بأحد من أبناء المهاجرين والأنصار ولا ببني هاشم، فمن هذا الرجل؟، فقال: يا بني هذا وارث علم النبيين، هذا موسى بن جعفر بن محمد (عليهم السلام)، ان أردت العلم الصحيح فعند هذا. قال المأمون: فحينئذ انغرس في قلبي محبتهم.
(لاحظ هنا مجلس الرشيد وجلوسه على ألأرض في استقبال الناس وتواضعه في النهوض لاستقبال وجهاء القوم وأشرافهم!)
من وشى بالإمام موسى الكاظم؟:
كان الرشيد يؤدي مناسك الحج فوصلت له أخبار ووشايات عن الإمام موسى الكاظم، وهو كخليفة مسؤول عن ألأمن في البلاد ،لا ينبغي ان يغفل عن مثل هذه الاخبار، كما أنه في ذات الوقت ليس إمعة يستمع لكل ناقل وواشٍ. وإنما يتبصر ويعالج بحكمة وحذر. ويبدو انها هذه المرة لم تكن خبراً أو وشاية عابرة وانما خبراً اثقلوا به قلب الرشيد وعقله، وعمّقوا به خوفه من خطر خروج الامام الكاظم على سلطة الخليفة ومناداته بالبيعة لنفسه.
ولنا أن نتسائل: من يمكن ان يؤثر على الرشيد هذا التأثير الذي يُصدّع الرأس ، حتى يأمر بحبس رجل يحبه ويحترمه بالغ الاحترام، رجل لم يعرف عنه رغبة في العمل السياسي، ولا إدعى الخلافة لنفسه، ولا تبنى الدعوة اليها. إلا ان يكون الواشي هو شخص مسموع الكلام، من أعلى هرم السلطة التنفيذية مثلاً، أو احد المقربين من الامام من داخل الاسرة العلوية. أو هما معاً. ونحن هنا لا نشكك بقدر ما نفكر وفق المنطق، ووفق الروايات التاريخية.
عزا أبو الفرج الأصفهاني في كتابه (مقاتل الطالبيين ص 333) والطبري في (دلائل الإمامة ص273) وإبن طباطبا في (الفخري 196) وإبن عِنَبة في عمدة الطالب في انساب آل ابي طالب وغيرها من المراجع (المتشيعة لآل البيت) ، ان احد وجهاء الاسرة العلوية {وكونه فرد من داخل الاسرة ينبغي على السلطة اخذ ذلك بالاعتبار} وشى بالكاظم بسبب “المال أو بسبب الحسد، أو بسبب التنافس على الزعامة والامامة”. والمقصود بهذا الواشي هو ابن أخ موسى الكاظم، أي محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، والذي تنتسب إليه الفرقة الإسماعيلية، {ونحن هنا لا نحكم ولا نتهم}. وتأتي الوشاية بتحريض واغراء مالي من الوزير الأول (يحيى بن خالد البرمكي) وعن طريق وسطاء الى محمد بن اسماعيل بن جعفر الصادق لمقابلة هارون الرشيد وابلاغه بالتحركات السياسية لعمه الكاظم. واتهامه بالتخطيط مع آخرين، وأن الأموال تُجمع له في الشرق والغرب، وانه يدعوا للبيعة لنفسه، ويسعى لجمع الانصار، للقيام بعمل مسلح لقلب نظام الحكم.
لقد استغل البرامكة وجود نقطة ضعف وشرخ في داخل الاسرة العلوية ليوظفوا ذلك وينفذوا منه الى تأجيج التنافس بين الموسوية والاسماعيلية، وليلعبوا لعبتهم في التفرقة والتمزيق والتخلص من الإمام موسى الكاظم. وعلى أي حال فالإتهام أو الوشاية عن الامام حين تأتي من داخل الاسرة العلوية، ويدعمها المحرض عليها الوزير الاول يحيى البرمكي، فالوشاية في مثل هذه الحالة يصعب تجاهلها لقرب مصدرها من الامام.
مشكلة البرامكة مع الإمام:
إن بحثنا عن مشكلة للإمام مع أحد، فسنجد العكس، ان هنالك مشكلة للبرامكة مع الإمام، دفعتهم لأن يُحرّضوا ابن أخيه على اتهامه بالتخطيط للخروج المسلح على الدولة. فلماذا يحرّض البرامكة محمد بن اسماعيل لاتهام عمه بهذه التهمة الخطيرة؟. الجواب: أن المشكلة عند البرامكة لم تكن خوفهم من قيام ألإمام بثورة مسلحة ضد الدولة التي هم ساستها!. فهم يعلمون انه ليس من طلاب السلطة، ولم ينخرط في حراك سياسي. وقد عرف عنه من قبل رفضه المشاركة في العمل السياسي ضد الخلافة بل وعاب على من يشارك في ذلك. ولكن مشكلة البرامكة الفرس معه:
1- انه علم بارز وعميد للاسرة العلوية العربية. تلك هي المشكلة. مشكلتهم في عدم احترام الإنتماء العروبي. بمعنى ان وجود أعيان ووجهاء واشراف عرب يحتضنون الخليفة ويكونون الى صفه، وقريباً منه. فهذا ما لا يستسيغه البرامكة الفرس ولا يطيقونه. لأن الحكم قد بات غنيمتهم.
2- عرف الرشید للإمام موسى الكاظم جلالة قدره ومنزلته وكونه عميد الاسرة العلوية. فكان قريباً منه وعلى تواصل معه بحكم صلة القرابة والعلم والصلاح، والتقرب من الاشراف العرب يدعم ويقوي الجبهة العربية في بلاط الخلافة، والتقارب العربي العربي يعيد امور السلطة والحكم الى مجاريها الطبيعية، أمام التغول الفارسي للبرامكة. وهذا قد يخل بميزان القِوى المهيمنة داخل بلاط الخلافة، لصالح الوسط العربي. والبرامكة حريصون على ان تكون كفّة الميزان على الدوام راجحة الى جانب الفرس لا الى جانب العرب.
فلطالما سعوا بحكم عنصريتهم الفارسية لإحلال العنصر الفارسي بدل العربي وعملوا على إضعاف العنصر العربي، وابعاده عن الحكم وعن التأثير في القرار السياسي. وقطعًا التقارب العباسي العلوي، يستثير البرامكة ويغيظهم ويثير حفيظتهم.
3- موسى الكاظم سيد البيت العلوي وعميده، شخصية بارزة لها محبين وانصار فمن السهل ان يكون ندّاً ووجهًا سياسياً لو اقتضت الظروف. وانهاء وجوده يحقق المصلحة في بعثرة الطاقات العربية التي تناصره وتقتدي به.
4- احداث صدام بين ابناء العمومة. ولذا يجب ان ينسجوا خيوط التآمر والتدبير لازاحته من الطريق، واشعال فتيل الفتنة بين ابناء العمومة على مبدأ فرّق تسد.
وأد الفتنة التي دبرها البرامكة:
من الطبيعي ان مثل هذه التهمة (التحرك ضد الدولة) ليست هي ما يخشاها الرشيد فقط، وانما يخشاها كل حاكم تولّى أمر الناس. ولا سبيل للتهاون معها أو إغفالها خاصة ان كانت مصادرها ذات طابع خاص.
يود الخليفة ان لا يصدق، ولكن الوشاية تشعره ان حكمه ربما يكون مهدداً، والاحتراز بالحبس ضرورة. ولا مناص امام الرشيد الا ان يصدر الأمر بالحبس مهما علا شأن المتّهم. ريثما تتضح الامور ويتثبت بنفسه من كيدية الإتهام، وسيلتقي بإبن عمه ويسمع منه مايكفي لنفي تلك التهمة، فالإمام ثقة صدوق عنده. كما ان الامام لا تنقصه الجرأة ولا الصراحة ان يقول الحق. ولذا لا مشكلة حقيقية للرشيد مع الإمام، وستنتهي الى خير كما انتهت من قبل في زمن أبيه المهدي.
لم يرغب الرشيد في حبس الامام في المدينة، ربما كي لا يقع ما لا يحمد عقباه، من بعض مريدي الامام، وربما شقوا عصا الطاعة وتمردوا على الخلافة. وهذا كان سيعقد الموضوع، ويصعّب النظر في المسألة، ويثبّت التهمة. فالحكمة والحنكة هنا مطلوبة.
لاحظ مقدار الود والاحترام في ان الخليفة لم يُكلَف رئيس الشرطة أو والي المدينة بالنظر في المسألة مع ان مسؤولية هذه الأمور تقع على عاتقهم. ولم يرض ان يتعرض احد للامام بسؤال او تحقيق، فهذا اساءة للامام لا يرضاها الخليفة. بل يجب ان يلاقيه الخليفة بنفسة ليشعرة انه مازال اثيراً لديه ويثق به ويصدقه. فالشريف عالي القدر لا يناظره الا شريف عالي القدر. يستدعيه الخليفة ليقابله بنفسه وليحتفي به ويكرمه، وليكتفي منه بكلمة واحدة ولا حاجة للمزيد فيقولها وهو صادق. تبدد الشكوك، ويطمئن بها قلب الخليفة العباسي الذي شوشته واثقلته الوشايات. لذا رأى الرشيد:
1- ان يصحب الامام معه الى بغداد، درءًا للفتنة، ومنعاً لإثارة الحمية والعصبيات من الأقرباء والأتباع في المدينة.
2- ابعاد ألإمام عن الوسط الإجتماعي الذي إتُهم ان فيه الحراك السياسي المزعوم.
3- وجود الإمام في العاصمة، وقريباً من عين الخليفة سيُسهل عملية المراقبة، ويطمن ألخليفة ببطلان وزيف هذه التهمة.
لم يودع ألإمام في الحبس مع عامة الناس، وإنما حبس في بيت الفضل بن الربيع – وهو احد كبار رجال الدولة- وكان موسعاً علية في المعيشة المرفهة، ولقاء العلماء، وكثيراّ ما يلتقي بالرشيد وتجري بينهما النقاشات والحوارات الدينية المعمّقة.
هذه الرحلة من المدينة الى بغداد لم تكن خارج المألوف، فقد كان بعض اشراف البيت العلوي، وأعيان من الصحابة، يرحلون احياناً من المدينة لمقابلة الخليفة الأموي في الشام، أيام الدولة الأموية. او الخليفة العباسي في بغداد، ايام الدولة العباسية، للسلام عليهم او لاستلام نصيبهم السنوي، او لإشكالية ما تعتريهم. وكان الخلفاء يغمرونهم بالكرم والود والترحاب والامثلة على ذلك وافرة.
نقل الإمام الى محبس آخر:
ولسبب ما، يبدو انه نقل بعد فترة من الزمن الى بيت رئيس الشرطة ابن شاهك السندي. ويبدو لي ان ذلك مرتبط بأحد أمرين:
1- اما ان وجوده في بيت الفضل بن الربيع أتاح له حرية في الحركة السياسية سراً، فاستثمر تلك الحرية في إجراء الاتصالات مع انصاره. وسُرّب شيء من هذا القبيل عنه، وهذا مستبعد.
2- واما حذراً ممّا اشيع وقتها بين الناس من ان الامام في زنزانة انفرادية، ممنوع من الزيارة، يتعرض للاضطهاد وللتعذيب، وانه ربما تم تسميمه أو قتله تحت التعذيب، وغيرها من الشائعات. (ونضع هنا علامة استفهام كبيرة ونقول): من الذي اشاع ذلك؟ ومن اخبر الناس (الشيعة) ان الامام يعذب وفي زنزانة انفرادية؟؟. وكيف عرفوا ذلك وهوممنوع من الزيارة كما يزعمون!؟، ومن الذي اخبرهم انه تم تسميمه؟، في وقت هو مازال في حياته وفي عافية!. إلّا ان يكون شخصاً أو جهةً تدبرلفتنة داخلية!.
لهذا اللغط في الشائعات ودرءاً للفتنة التي اُريد اشعال فتيلها، استوجب نقل الإمام الى مكان اكثر أماناً، فتم نقله الى بيت رئيس الشرطة ليسجن فيه. (وهنا يجب ان لا ننسى ان غالب الابواق الدعائية والاعلامية في البلد يومذاك والتي تؤجج وتغذي الصراعات والشائعات، كانت يسيطرعليها البرامكة كما اسلفنا في بحث سابق).
عمدت السلطات الرسمية ممثلة برئيس الشرطة ابن شاهك السندي للتحرك بإعلام مضاد لتفنيد الشائعات. بدعوة (ثمانين شخصاً) من اشراف الاسرة العلوية ومن أعيان ووجهاء المجتمع، لزيارة مكان اقامة الامام ولقاءه في محبسه وجهاً لوجه، للحديث معه، وللتأكد من عدم تعرضه للتعذيب او المضايقة.
فقد اوردت كتب الكافي وبحار الأنوار والأمالي وتاريخ اليعقوبي وغيرها ان رئيس الشرطة ابن شاهك السندي خاطب المدعوين بقوله: يا هؤلاء انظروا إلى هذا الرجل- يقصد ألإمام- هل حدث به حدث؟ فإن الناس يزعمون أنه فُعِل به مكروه ويكثرون في ذلك، وهذا منزله وفراشه، موسع عليه غير مضيق، ولم يرد به أمير المؤمنين سوء، وإنما ينتظر به ان يقدم فيناظر أمير المؤمنين، وها هو ذا صحيح موسع عليه في كل شيء، فاسألوه. فقال (أي ألإمام): اما ما ذكر من التوسعة وما اشبهها فهو على ما ذكر. (يزعم زوراً بعض المغرضين والحاقدين على الخلافة، أنه سجن في قبو تحت الأرض وبلا فراش!!)
اما القول ان الامام اخبر (المدعوين) الذين زاروه، بانه سُقي السم في تمرات أو اُجبر على أكلها وانه يخضر أو يصفر غدا وسيموت بعد غد. فيبدو انها عبارة مقحمة على الرواية، وغير صحيحة ولامعقولة، لأنها تثير اشكاليات تصطدم مع المسَلّمات الأيمانية، وتطعن في الإمام ذاته، ونحن ننزه الامام ان يأكل السم وهو يعلم، وان يقول بعلم الغيب الذي لا يعلمه الا الله.
جدير بالذكر هنا ان قائد الشرطة (ابن شاهك السندي) الذي سجن الإمام في بيته هو فارسي الأصل. (وهذا يعطيك فكرة عن مدى تغلغل وانتشار الفرس في مفاصل الدولة المهمة) فيا تُرى هل كان السندي من ضمن من عينهم البرامكة في هذا المنصب؟. وهل كان موالياً لهم ويأتمر بأمرهم؟. أم كان من اختيارات الخليفة؟، ومن خلصاء الخلافة؟. اسئلة تبقى بحاجة الى دليل لنفيها أو إثباتها.
اطلاق سراح الأمام من السجن:
في الاوضاع العادية فالامام الكاظم من احب الناس الى قلب الرشيد. ولكن حينما يتعلق الأمر بالعرش والكرسي فلا بد ان يختلف الأمر. ولا بد من الإحتياط. فالرشيد كأي حاكم او ملك، لا بد من انه يخشى على ملكه من ان يهتز، أو يسلب منه، أو يثور عليه ثائر.
ومن محاسن القدر أنّ ماحدث للإمام مع الخليفة المهدي من اطلاق سراح الإمام من اجل رؤيا رآها المهدي في المنام. حدث شيء شبيه له مع هارون الرشيد. فقد اورد المسعودي ان الرشيد عفا عن الامام، وأطلق سراحه لرؤيا رآها في المنام. وخيّره بين المقام في بغداد بقربه معززاً مكرماً ، أو ان شاء عاد الى دياره في المدينة. ويبدو انه اختار البقاء في بغداد.
ذكر المسعودي في مروج الذهب (3/346) فقال: إن عبد الله بن مالك الخزاعي كان على دار هارون الرشيد وشرطته، فقال: أتأني رسول الرشيد وقتاً ما جاءني فيه قط،، فانتزعني من موضعي ومنعني من تغيير ثيابي، فراعني ذلك، فلما صرت إلى الدار سبقني الخادم فعرف الرشيد خبري، فأذن لي في الدخول عليه فدخلت فوجدته قاعداً على فراشه فسلمت عليه فسكت ساعة، فطار عقلي وتضاعف الجزع علي، ثم قال: يا عبد الله أتدري لما طلبتك في هذا الوقت قلت: لا والله ياأمير المؤمنين، قال: إني رأيت الساعة في منامي كأن حبشياً قد أتاني ومعه حربة فقال: إن خليت عن موسى بن جعفر الساعة وإلا نحرتك بهذه الحربة، فاذهب فخل عنه، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، أطلق موسى بن جعفر ثلاثاً، قال: نعم امض الساعة حتى تطلق موسى بن جعفر، وأعطه ثلاثين ألف درهم، وقل له: إن أحببت المقام قِبَلنا فلك عندي ما تحب، وإن أحببت المضي إلى المدينة فالإذن في ذلك لك، قال: فمضيت إلى الحبس لأخرجه، فلما رآني موسى وثب إلي قائماً وظن أني قد أمرت فيه بمكروه، فقلت: لا تخف، فقد أمرني بإطلاقك وأن أدفع لك ثلاثين ألف درهم، وهو يقول لك إن أحببت المقام قِبَلنا، فلك كل ما تحب، وإن أحببت الانصراف إلى المدينة فالأمر في ذلك مطلق لك، وأعطيته ثلاثين ألف درهم، وخليت سبيله.
وفاة الإمام:
كل الروايات التي تقول ان الرشيد عذبه ودس له السم، هي روايات ضعيفة وملفقة ولا تثبت عند التحقيق. وانما اخترعت لاحداث الفتنة أو لإستدرار التعاطف ضمن مفهوم المظلومية والأحقية في الحكم.
فالإمام كان في السجن بإنتظار عودة الرشيد الذي سيقابله ويناظره، وكان الرشيد في ذلك الوقت خارج العاصمة. فجاء أجل الله الذي إذا جاء لا يؤخر. إذ حالت وفاة الإمام في السجن دون حصول اللقاء.
المصادر التاريخية تقول ان هنالك إنقسماً بين المؤرخين في اثبات وفاته رحمه الله: هل كانت داخل السجن أم خارجه؟. فقد ذكر مؤرخو أهل السنّة امثال الخطيب البغدادي وابن الجوزي وابن الأثير والذهبي وابن كثير وابن خلكان، انه مات في السجن ميتّة طبيعية حتف انفه (بأجله)، وأورد اليعقوبي والأصفهاني انه مات في السجن غير مسموم.
أمّا المسعودي فقد ذكر في مروج الذهب (3/355)، انه مات مسموماً خارج السجن، بعد ان كان حرّاً طليقاً في بغداد. ولم يحدد كيف تم سمّه، ومن الذي سمّه، ولماذا؟. واطلاق مثل هذا الخبر دون تعيين معيّن، يصعب التأكد من صحته. وربما يكون هذا الخبر نوع من التخمين والتكهن وترديد ماتناقلته الناس من الشائعات. لأن التحقق من مسألة السم ليس بالأمر المتاح، كما لايمكن اتهام مجهول، ولا معرفة السبب الذي يدفع أحد ما لتسميم الامام.
ابحث عن المستفيد:
لنُسَلّم جدلاً ان الامام مات مسموماً بمؤامرة دبرت عليه! “وأنا لا أرى انه مات مسموماً ولكني سأمضي لمناقشة هذا ألإحتمال”. فأقول: من زعم أنه أكل السم، فينبغي ان يعقب ذلك بالسؤال التالي: من المتهم بتدبير هذه المؤامرة؟. قالوا: (يحيى البرمكي). وقالوا: (الفضل بن يحيى البرمكي). وقالوا: (ابن شاهك السندي). وقالوا: (هارون الرشيد). وقالوا: (محمد بن اسماعيل). وكل هذه احتمالات، والدليل ان دخله الإحتمال بطل الإستلال به. ولكن هنالك قاعدة تحكم الجميع تقول: إن كان قد توفي مسموماً فابحث عن المستفيد!. فإن كنت تتهم الرشيد، فضع في اعتبارك مايلي:
ما مصلحه الرشيد في قتله، فيؤلب عليه ابناء عمومته وهو الحريص على مسالمتهم؟. ولماذا يخاف الرشيد من رجل يُجلّه ولم يكن يشكل خطراً عليه ولم يكن له في الخلافة منافساً ؟. ألم يعفُ الرشيد عمن هو اخطر منه حين عفى عن (يحيى بن عبد الله العلوي) الذي خرج عليه فعلاً وقاد ثورة مسلحة؟. وحتى لو افترضنا ان الرشيد وجد من الامام خطراً، وأثبت عليه الخيانة (حاشاه)، ما الذي يمنعه من قتله علانية لو اراد ان يقتله دون الحاجة للجوء لدس السم؟. الم يكن هو حاكم أكبر واقوى دولة على الأرض، وتخافه كل الأمم وتحسب له الف حساب؟. فمم يخاف؟.الم يقد المعارك بنفسه ويقضي على حركات عسكرية مسلحة لخوارج وطالبيين خرجت على الدولة في اكثر من موقع؟. وألم يُجهز على البرامكة ويقضي عليهم في وضح النهار، وكانوا يشكلون مراكز القوة في الدولة، ولَم يخش قوتهم ومنعتهم واتباعهم وانصارهم المنتشرين في طول البلاد وعرضها؟.
مختصر القول: ان اعتقدت انه مات مسموماً، فابحث عن المستفيد، ولا تطلق الاحكام جزافاً. واصابع الإتهام يمكن ان توجه (سوى الرشيد) لأي كان، وخاصة للبرامكة ذوي اليد الطولى في الدولة، وهم الذين في سياساتهم طالما دبروا القتل والمكائد لابناء عمه ألعلويين. ألأمر الذي جعل الرشيد في حالة غضب شديد وترصد لهم، وكانت خياناتهم تلك قد عجّلت بنهايتهم.
وفاة ألإمام احدثت لغطاً وارتباكاً وزيادة فرقة خاصةً في الوسط (الشيعي) واختلافًا على من يكون الامام من بعده؟، وهل مات ام قتل؟، وهل مات أم لم يمت؟، وفيما إذا كان للسلطة ضلع في موته؟، وزعم البعض انه المهدي وانه لم يمت وانما غاب وسيعود!…إلخ. وهنا لابد للسلطة ان تضع حداً لكل هذه الادعاءآت والتكهنات. بأن تضع الناس امام الامر الواقع وان لاتتركهم يطيشون في الخيال والاساطير والاقاويل الباطلة. بوجود متربصين يوظفوا حدث الوفاة ضمن مؤامرة الشائعات لإحداث الفتنة والاحتراب الداخلي.
نظمت سلطات الخلافة مراسيم رسمية، تتيح لرجال عُدول وأعيان واشراف المجتمع، امكانية رؤية جثمان الامام، ليشهدوا على وفاته اولاً، وليشهدوا انه لم يتعرض في جسده الطاهر، لأي اثر من طعن او ضرب او خنق، أو جرح. إبراءً لذمة الخلافة في عدم مسّها الامام بسوء، ودحضاً للشائعات والتقولات التي انطلقت آنذاك.
هارون الرشيد لم يكن منزهاً ولا معصوماً، فهو بشر يصيب ويخطيء. ولكنه كان حريصاً على الود والمسالمة مع ابناء عمه العلويين. والحكمة والحنكة في سياستة وحكمه، بادية في حسن تعامله مع الاحداث التي تجري من حوله. وعدم اخذه للبريء بجريرة المذنب، حيث يتعامل بنَفَسٍ طويل وتؤودة وصبر حتى يتوثق من الأدلة، وليس بِردّاتِ فعل إنفعالية.
رحم الله الامام موسى الكاظم، ورحم الله هارون الرشيد، وغفر لهما وجمعهما في اعلى الجنان مع جدّيهما علي والعباس (رضي الله عنهم اجمعين).