عندما نفتقد العراق نبحث عنه في جيوب جغرافياته الثلاث, لا لنختلف لكن للواقعية حقها علينا, العراق الذي نراه خارطة على جريدة, لا نملك فيه دولة وثروات ولا سيادة ولا امل نحلم به, على الجريدة فقط مرسوم الحدود والسيادة معترفاً به دولياً وعضواً في هيئة الأمم ومؤسساً في مجمع سكراب الملوك والرؤساء والأمراء العرب, هذا هو العراق الرسمي, لا الشمال شماله ولا الغرب غربه ولا الجنوب جنوبه ولا الشرق شرقه.
شماله مصاباً بشلل رئيس حزب العشيرة دون امل بشفاءه, غربه تم تأجيره واستلام ثمنه من قبل رموز المادة (4) ارهاب, جنوبه ووسطه, قفز المذهب على ظهره ودفعه الوسطاء بأتجاه امتداده الشرقي, هذا الواقع نرفضه, وعلينا ان نفتح فيه جرح معاناتنا لينزف, بدون ان نراه نازفاً اوجاعنا سوف لن نفكر بمساعدته على الشفاء.
عندما اعبر عن قناعتي, على ان صرخة الأصلاح والتغيير والتحرر الديمقراطي, لا يمكن لها ان تنطلق من خارج حناجر عراقيو الجنوب والوسط, هذا لا يعني اني اصبحت مناطقي او اتجاهل, على ان شمال وغرب البلاد هما اجزاء طبيعيه من العراق الذي نأمل ان نراه موحداً.
هنا نسأل: اين هي ثقافة التعايش السلمي ورغبة الأندماج والتوحد مع الآخر في السلوك السياسي للمكونين الكردي السني, لا شيء على الأطلاق, هنا ومن اجل ان يستعيد العراق هويته المشتركة ويتجاوز محنة التمزق والأنقسام, يجب ان نعول على عراقيو الجنوب والوسط, هناك اسباب تاريخية حضارية وفرادة مجتمعية تدعم وجهة النظر تلك, مع اخذنا بنظر الأعتبار القيود الثقيلة التي تفرضها قوى ايديولوجية التمذهب.
اما لماذا الجنوب والوسط .. ؟؟.
عراقيو الجنوب والوسط يشكلان الأغلبية في المجتمع العراقي, كتلة بشرية متوحدة مع الأرض مندمجة في بيئتها عبر عراقة تمتد لألاف السنين, تميزها ثقافة مشتركة وفنون واداب وفلكلور شعبي, لا تعرف الأدلجة القومية او الدينية, منسجمة مع ذاتها منفتحة على الآخر, جدلية مع النظم السياسية رافضة للدموية منها, وازاء موجات القمع تنغلق على ذاتها حتى لا يخترقها الخراب من خارجها, محافظة على اغلب فرص الأنتفاض والتحرر, تستعين بعذوبة لهجة فنونها وفنون لهجتها منبع للعواطف والمشاعر والأحاسيس المشتركة.
عراقيو الجنوب والوسط يتضامنون مع الرمز ان كان نزيهاً عادلاً كفوءً, مثلما احبوا الأمام علي (ع) احبوا الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم, انهم مجتمع غير متطرف, يؤمنون بالعلم ويحترمون الوعي ويسترشدون في العقل, ورغم ان الأسلام السياسي قد كسر جسر التواصل بينهم وبين الحضارات العريقة لأجدادهم, احتفظوا بصميمية وعراقة انتمائهم الوطني, لهذا استمروا بيئة مثالية لمستقبل المشروع الوطني العراقي.
رغم اغلبيتهم المسلمة, لكنهم المسيحي والصابئي المندائي واليهودي والأيزيدي وجميع الطوائف والمعتقدات صاحبة القدم والعراقية على هذه الأرض, بعكسهم عراقيو الأقليم الكردي والمحافظات الغربية, فقد اصابهم عوق التطرف الطائفي القومي في الصميم.
عراقيو المحافظات الغربية, مع الأعتذار للقلة التي تتنفس برئة العراق الواحد, شكلوا نقطة خراب داخلي وظيفتها كسر عظم العراق, ابرز مآثرها في التاريخ الحديث, انقلاب 08 / شباط / 1963 وما رافقه من مجازر وابادات واذلال واستحقار لأكثر من نصف المجتمع العراقي, ليس لديهم ما يحسنوا فعله غير الدسيسة والوقيعة والمغامرات الأنقلابية, وعبر قرن كامل من النهج غير المشرف, انتهوا بالعراق الى مأزقه الراهن وجعلوا من محافظاتهم حاضنات مثالية لأرهاب دولة الخلافة الأسلامية, انهم الوجه الآول لعملة الخذلان التي شكلت القيادات الكردية وجهها الثاني.
انها قناعة حاولت القفز عليها فوقعت فيها, ومواقف حالولت الأنسحاب من تحت بساطها فوجدت نفسي واقفاً على قدميها, الجنوب والوسط جغرافية عراقية اصيلة, يسكنها احفاد عراقة حضارية, ما كانوا تاريخياً طائفة او مذهب او تجمعات عشائرية مصنعة او مجالس اسناد او مليشيات تفترس اهلها, انهم العراق بكل ما للكلمة من معنى, وبدونهم سوف لن ينهض ويثور على واقعه اصلاحاً وتغييراً, ان لم يدركوا تلك الحقيقة , ويعتمدوها طريقاً وطريقة, سوف لن يغادروا مستنقع مآساتهم الذي اكتسب ازليته على حساب ادميتهم.
على كل مثقف نظيف اليد وسياسي سليم الضمير ورجل دين يحترم مقدساته وقيمه السماوية, ان يقفوا الى جانب عراقيو الجنوب والوسط, وببسالة يدخلوا مواجهات الوعي بأدواته المعرفية, ليحرروا المواهب ومصادر الأبداع والبناء وتحديث الحياة لتغمر الملايين بعطرها, يحررون العقول من مقابرها الجماعية ويجففوا بكاءيات الأحزان والكئآبة وعتمة الأستغباء ويعيدوا للقلوب ربيع افراحها.
على المثقف ان يحترم قناعاته والسياسي ان يحترم ثقة واصوات ناخبيه والمرجع الديني ان يحترم كلمته ومنطقه وفاءً لمن يصدقونه ويهتدون بموعظته ونصيحته, ان يتطوعوا حشوداً وطنية انسانية ليحرروا المكانة الكونية لسيد المعرفة والحكمة والعدل علي (ع) ويحرروا قدسية عمامته من رؤوس مدعية عشعش فيها قمل الشيطان, ويعيدوا المعنى الأنساني لأستشهاد الأمام الحسين (ع) ولكربلاء قدسية اوجاعها في ذاكرة العراقيين ولعاشوراء جمالية تقاليد الرثاء الشعبي.
اقولها واثقا : ان لم يخرج عراقيو الجنوب والوسط من عتمة خيمة المذهب الى حيث الفضاء الوطني ويرفعوا عن حاضرهم ومستقبل اجيالهم عباءة العبودية للمرجع والطاعة لوسطاء الخديعة ثم يمسكوا عروة الوطنية العراقية احراراً في عقلهم و وعيهم وارادتهم وادوارهم وترشيد روابطهم الروحية النبيلة بمعتقداتهم ومقدساتهم, سوف لن تنهض وتتحرر الحقيقة العراقية ويصلح العراق شأنه ويغير ما لم يعد نافعاً, يعيد نسيج وحدة مكوناته وطناً موحداً لديه ما يفخر به دولة ومجتمع وحاضر زاهر ومستقبل اجيال آمن, بغير هذا الطريق ستستهلكنا الأقدار وتبتلعنا الهاوية, الحقيقة تلك يدركها اغلب مثقفي وسياسيي العراق, لكنهم يتجاهلونها ربما خوفاً من ان يفقدو شيئاً من ذاتيتهم, المعرفة التي تفتقر الى الشجاعة, تصبح جهالة منافقة.