أن ماكرون “يدّعي أنه يفرّق بين الإسلام المعتدل والإسلام المتطرف، ولكنه في واقع الأمر يعادي الاثنين، ويتبنّى سِياسة ‘تصنيع الخوف ‘ والاستثمار الانتخابي في ‘الإسلاموفوبيا ‘ المنتشرة حاليا في أوروبا والعالم الغربي عمومًا، لأسباب انتخابية صِرفة بعد تراجُع أسهُمه مقابل اليمين واليمين المتطرف اللّذين تتصاعد حظوظهما وشعبيّتهما في أوساط الرأي العام الفرنسي هذه الأيّام”.
أن “الإسلام ليس في أزمة، وإنّما ماكرون نفسه هو المأزوم، وكذلك الدّول التي تتواجد فيها الجاليات الإسلاميّة المهاجرة، ولأسباب ذاتية صِرفة، بعضها طابعه اقتصاديّ، وليس لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بهذه الجاليات المسلمة، وإنْ وُجدت هذه العلاقة فهي ضعيفة وثانوية”.
الخطورة في تصريحات ماكرون ليس في كونها نقدا للدين الإسلامي؛ فالرئيس الفرنسي ليس مفكّرا يطرح أفكاره للنقاش، بل هو المسؤول الأول في بلد يتراوح عدد المسلمين فيه بين خمسة إلى ستة ملايين، وقد جاءت تصريحاته تمهيدا لمشروع قانون ضد ما سمّاه ‘الانفصال الشعوري’ استغرق تحضيره أشهرا ويهدف، حسب واضعيه، إلى ‘مواجهة التطرف الديني وحماية قِيم الجمهورية الفرنسية’ وهو يهدف إلى فرض رقابة أكثر صرامة على الجمعيات الإسلامية والمساجد”.
لا يكف ماكرون عن تصدير أزمات فرنسا المزمنة وفشل سياساته بتنوير بلاده والعالم، في كل مناسبة أو بدون مناسبة، بأن الإسلام مصدر أزمات العالم وسبب مشكلاته”.وكلما اقترب ماكرون من موعد الانتخابات زادت عنصريته للاقتراب من اليمين المتطرف”.ولا جدال في أن فرنسا تعدّ واحدة من أسوأ الدول الغربية في التعامل مع مواطنيها المسلمين، نتيجة تبنّي نموذج متطرف في العلمانية استُخدم كمبرر للتمييز ضد المسلمين، بدعوى الاندماج ومحاربة التطرف
منذ دخلت فرنسا معركة تكسير عظم مع فتيات المدارس والمعاهد الثانويّة تسعينات القرن الماضي وأطلقت نيرانها صوب الفولارة أو غطاء الرأس أو قطعة القماش أو الحجاب.. منذ ذلك الحين لاح جليّا أنّنا بصدد محاكم تفتيش علمانيّة أو ربّما هي الفاشيّة اللائكيّة استنجد بها العقل الاستعماري لمّا فشل في خوض معاركه كما سابقا تحت ظلال الصليب فاختار هذه المرّة ركوب الثور العلماني بعد أن شنّجه وزوّده بحبوب الهلوسة ثمّ أطلقه على الإسلام وشعائره ومظاهره في محاولة لتركيع الذي لا يركع.. إنّها الشموليّة العلمانيّة حين تعلن التحجّر والدكتاتوريّة اللائكيّة حين ينهك أعصابها محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم.
تلك كانت الانطلاقة التي توّجها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ذلك الذي أعلن جهارا وبلا تورية عن تبنّيه لحرب مفتوحة على الإسلام، حين قرّر أن يمدّد دين 2,2 مليار مسلم فوق مسلخة الإيليزيه ليلتقي على طرفيها القسّ اللائكي المتطرّف إيمانويل جان-ميشال فريد فريدريك ماكرون والقسيسة اليمينيّة المتطرّفة ماريون آن بيرين لوبان، ومن ثمّ يتنافسان على نهش الاسلام في مسابقة هستيريّة للفوز بأصوات الحقد اليميني المتحفز للبطش.
معركة فرنسا مع الإسلام ليست حديثة، حتى الأساليب ليست حديثة، ودرجة العداء بدورها ليست حديثة، ومن يقلّب صفحات التاريخ سيجد فيها مراغما لما يبحث عنه، سيجد الحقيقة مكرّرة مجترّة وما عليه إلا تغيير التواريخ والأسماء فقط لا غير. ذلك فهمناه وعرفنا أصوله، لكن لماذا تحوّلت معركة ماكرون ضدّ الإسلام إلى تراشق بينه وبين الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان؟! للإجابة وبلا حاجة للتوغّل والاستغراق، يمكن أن نستعمل عبارة”كتشاوة” ككلمة سرّ تفتح لنا الكثير من المجاهل.
إذا هيّا لنفكّك كلمة “كـ/ـتـ/ــشـ/ـا/و/ة ” ونلقي نظرة داخل أحشائها لعلّنا نفهم لماذا ولغ لويس فيليب الأوّل قبل دهر، ثمّ ما زال ماكرون يواصل الولوغ؟ لماذ هذه الحساسية المفرطة بين مانويل واردوغان؟!.
حين دخل إلى الجزائر عنوة قال الجنرال الفرنسي -سفاري-كلمته المشهورة “يلزمني أجمل مسجد في المدينة لنجعل منه معبد إله المسيحيّين” هناك وقع الاختيار على جامع كتشاوة الذي شيّده خيرالدّين بربروس سنة 1520.. سمع الأهالي بالأمر فتداعوا إلى مسجدهم وتحصّنوا بداخله، قبل أن تحاصر قوات الاحتلال المسجد وتمنع الدخول إليه تمكّن 4000آلاف جزائري من دخوله، ربّما كانت تلك واحدة من أكبر عمليّات الاستشهاد “السلمي” الجماعي في التاريخ، كان السكان على علموا بطبيعة المحتلّ وبقدرات البطش الرهيبة لدى الجنرال سفاري دوق دي روفيقو، كانوا أيضا يدركون أنّهم عزّل ولا يمكنهم إيقاف السيطرة على المسجد! إذا لماذا رابطوا بداخله؟! بالتأكيد أنّه لم يكن من اليسير التسليم في الجامع دون مقاومة، ولمّا لم تتوفّر إمكانيّات المقاومة والحماية والصدّ، لم يبق غير التضحية، كان من الصعب على من تعلّقت أرواحهم بالمسجد وألفهم وألفوه أن يتركوه لوحده فريسة للهدم والتحوّل المهين، فاختاروا الموت معه وفيه ومن أجله… وفعلا كلّف ثمن عبور جيش الجنرال سفاري إلى بهو المسجد 4آلاف شهيد.
بعد أن تمكّن من تصفية المعتصمين أخرج الجنرال كلّ المصاحف وأحرقها في السّاحة المحاذية للمسجد “تسمى اليوم ساحة الشهداء” وفور السيطرة على الجامع وإبادة المصلّين المعتصمين بداخله أقيمت في كتشاوة أول صلاة مسيحيّة يوم 24 ديسمبر 1834، وكان الحدث بالغ الأهميّة إلى درجة أنّ ماري اميلي الملكة الفرنسيّة احتفت بالمناسبة وأرسلت جملة من الهدايا الملكيّة الثمينة للكنيسةالجديدة، كما أرسل الملك هدايا أخرى عبارة عن ستائر فاخرة فيما وصل صدى السيطرة على المسجد إلى البابا جريجور السادس عشر الذي سارع بإرسال التماثيل التي تجسّد القدّيسين لتزيّن أركان الكنيسةالقائمة على أنقاض المسجد، هناك تمّ انتزاع الهلال وتثبيت الصلبان ثمّ أزيلت لوحة مسجد كتشاوة وألقيت فوق رماد المصاحف، واستبدلت بلوحة كاتدرائيّة القديس سانتا فيلي، ومن بهجته بالمشهد قال قائدُ الحملة الفرنسيّة “الآن انتصر الصليب على الهلال؛ فلأوّل مرّة يثبّت الصليب في بلاد الأمازيغ”.
قبل أن نمضي قدما لا بد من فتح قوس لاستعراض بعض التواريخ ، يجدر التذكير أنّ جامع كتشاوة مرّ بست مراحل ملفتة، مرحلتين عثمانيّتين وهي التأسيس عام 1613 ثمّ ترميمه وتحديثه بشكل كبير في سنة 1794 ، ثمّ مرحلتين فرنسيّتين الأولى سنة 1832 عندما أباد جيش الاستعمار المصلّين وحوّل الجامع إلى كنيسة، ومرّة أخرى سنة 1844 حين تمّ هدم المسجد بشكل شبه كليّ وأقامت فرنسا كاتدرائيتها من جديد بعد عمليّة أشغال دامت 15 سنة، لتأتي المرحلة الجزائريّة مطلع الاستقلال حين أعادت الجزائر الجامع إلى وظيفته الأصليّة، كان ذلك سنة 1962، بعدها تأتي المرحلة التركيّة، حين تصدّع الجامع ومالت صومعته بعد زلزال 21 ماي 2003 وتمّ إغلاقه بشكل كامل أمام المصلّين سنة 2007، وظلّ المسجد مغلقا إلى حدود 2013 تاريخ زيارة أردوغان للجزائر أين زار الجامع وطرح إعادة ترميمه، وفعلا وافقت الجزائر وتولّت الوكالة التركيّة للتعاون والتنسيق “تيكا” أعادت الترميم بتكلفة بلغت 7 ملايين يورو ليفتتح مجددا سنة 2018.
نعود إلى حرب فرنسا على الهويّة، حيث ورد في تقرير أعدّته مجلة ” Le Nouvel Observateur” أنّ تشارلز لافيجيري رئيس أساقفة الجزائر في عام 1867 كان لديه هوس بذكرى القديس أغسطينوس أسقف هيبون /عنّابة/، والقديس سيبريان بقرطاج، وكان طموحه إعادة شمال أفريقيا إلى المسيحيّة التي كانت تدين بها في نهاية الإمبراطوريّة الرومانيّة، وانطلق الأسقف في حملة تبشيريّة، افتتح بموجبها مدارس وأسّس قريتين للأيتام، تقوم بتكوين رجال ونساء مفرنسين بالكامل ومعزولين كليّا عن بقيّة السكّان”.
واعتمد الاستعمار الفرنسي على شعار سيعمل به لأكثر من 130 سنة ” إنّ العرب لا يطيعون فرنسا إلّا إذا أصبحوا فرنسيّين، ولن يصبحوا فرنسيّين إلّا إذا أصبحوا مسيحيّين” وبالتاكيد إنّ اللغة العربيّة هي إحدى العوائق الكبرى أمام مشروع استبدال هويّة البلاد بهويّة المستعمر، لذلك قامت فرنسا وعلى مدى عقود من سنّ قوانين ومراسيم وتمرير توصيات معلنة وغير معلنة لتجفيف هوية الشعب الجزائري، غير أنّها انتقلت من فشل إلى آخر، وبعد قرن وستة أعوام من العجز جاءت فرنسا سنة 1938 بمرسوم شوطون” رئيس وزراء فرنسا كاميي شوطون” ذلك المرسوم الذي منع استعمال اللغة العربيّة في الجزائر واعتبرها لغة أجنبيّة.
وكانت الباحثة الفرنسيّة إيفون توران “Yvonne Turin ” قد تطرّقت إلى جانب من معركة الهوية التي خاضها الشعب الجزائري ضدّ المستعمر، أكّدت إيفون أنّ فرنسا “حاولت إنشاء مدارس عربيّة فرنسيّة ثمّ المكاتب الإسلاميّة ثمّ مدارس عربيّة بحتة، ولم يلتحق الجزائريون إطلاقا بأي من هذه المدارس، بل لقد هدمت في أوقات الانتفاضات ومنها انتفاضة 1871، في برج بوعريريج ومازونة وبجاية، لأنّها / مدارس النّصارى/ وقامت حرب المدارس، وقد اشتكى ضابط من مستغانم من مقاطعة المدارس وتأثير الزوايا في الشباب وفقدت المكاتب العربيّة قوتها وخسرت المعركة..” كما أكّد الملازم بوسري في تقريررفعه إلى المفتشيّة العامّة سنة 1846 “إنّ مشائخ الزوايا يختارون في تدريسهم للقراءة نصوصا من القرآن معادية لنا، ممّا يحطم فيهم وبسرعة الشعور الذي سعينا لتطويره فيهم من طرف مؤسّساتنا وتعتبر التأثيرات الدينيّة من ألدّ أعدائنا والتي يجب أن نخشاها ونخطط لها سياستنا، ولقد كانت القبائل الأشدّ عداء لنا هي التي تلك التي ينتشر فيها التعليم الإسلامي”… وما زالت الحرب ناشبة على الشعب والأرض والهويّة والرسول الأكرم، وما زالت تأخذ طابعها الإجرامي مع التدرّج في طبقات الإجرام انطلاقا من تصريح وزير الحرب الفرنسي جيرار الذي أكّد أنّه “لا بد من إبادة جميع للسكان العرب، إنّ المجازر والحرائق وتخريب الفلاحة هي في تقديري الوسائل الوحيدة لتركيز هيمنتنا” وصولا إلى تصريح المؤرّخ الفرنسي جاك جوركي الذي أكّد ” أنّ الفرنسيين قتلوا منذ الاحتلال مروراً بالثورات والانتفاضات التي قام بها الوطنيّون الجزائريّون إلى غاية الاستقلال عشرة ملايين شهيد…”.. فيما ذكرت الكاتبة الفرنسيّة سيمون دو بوفوار صديقة جان بول سارتر في كتاب لها أنّ الجيش الفرنسي اقترف ما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف حالة اغتصاب لنساء جزائريّات، وذلك بين سنوات:1954-1962.
ثمّ أنّه وفي 4 من جمادى الآخرة 1382 هـ / 2 من نوفمبر 1962 رفع الأذان وصعد الشيخ البشير الإبراهيمي إلى منبر الجامع العائد من بعيد الى اصحابه وخطب في النّاس، وعلى بركة الله أقيمت أوّل صلاة جمعة في جامع كتشاوة بالجزائر العاصمة، بعد انقطاع دام لأكثر من 130 سنة.
جانب من خطبة الشيخ البشير الإبراهيمي عشيّة إعادة المسجد بعد أكثر من قرن من المصادرة “يا أتباع محمّد عليه السلام هذا هو اليوم الأزهر الأنور وهذا هو اليوم الأغر المحجل، وهذا هو اليوم المشهود في تاريخكم الإسلامي بهذا الشمال، وهذا اليوم هو الغرة اللائحة في وجه ثورتكم المباركة، وهذا هوالتاج المتألق في مفرقها، والصحيفة المذهبة الحواشي والطرز من كتابها.
وهذا المسجد هو حصة الإسلام من مغانم جهادكم، بل هو وديعة التاريخ في ذممكم، أضعتموها بالأمس مقهورين غير معذورين واسترجعتموها اليوم مشكورين غير مكفورين، وهذه بضاعتكم ردت إليكم، أخذها الاستعمار منكم استلابا، وأخذتموها منه غلابا، بل هذا بيت التوحيد عاد إلى التوحيد وعاد التوحيد إليه فالتقيتم جميعا على قدر.
يا معشر المؤمنين: إنكم لم تسترجعوا من هذا المسجد سقوفه وأبوابه وحيطانه، ولا فرحتم باسترجاعه فرحة الصبيان ساعة ثم تنقضي، ولكنكم استرجعتم معانيه التي كان يدل عليها المسجد في الإسلام ووظائفه التي كان يؤديها من إقامة شعائر الصلوات والجمع والتلاوة ودروس العلم النافعة على اختلاف أنواعها، من دينية ودنيوية فإنّ المسجد كان يؤدي وظيفة المعهد والمدرسة والجامعة.
يا معشر الجزائريين: إن الاستعمار كالشيطان الذي قال فيه نبينا صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه رضي أن يطاع فيما دون ذلك)، فهو قد خرج من أرضكم، ولكنه لم يخرج من مصالح أرضكم، ولم يخرج من ألسنتكم، ولم يخرج من قلوب بعضكم، فلا تعاملوه إلا فيما اضطررتم إليه، وما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.”