في عالم البشر، الشباب نعمة كبيرة لا يقدّرها إلا من تخطاها أو من هو على شفا مغادرتها. والمفارقة أن عالم البشر لا يختلف كثيرًا عن العوالم الأخرى، سواء أكان عالم الكائنات الحية أو الجماد؛ فالشباب يعني وجود فرصة سانحة للتعبير عن الذات وتحقيق الإنجازات؛ لأنهناك متسع من الوقت. لكن، عندما يولِّي الشباب لا يتبقى للمرء إلا التحسر على ما فات ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه في الوقت الضائع. ومن ثمَّ، الشباب سلاح ذو حدين: وسيلة لتحقيق قفزات غير مسبوقة، ومطمعًا للعجائز الراغبين في تحقيق مآربهم باستغلال الشباب.
وهذا ما يحدث بالفعل في الوقت الحالي على مستوى القارات. فقارة أوروبا، صانعة حضارة العصر الحديث قد أصابها الوهن والشيخوخة؛ وخاصة بعد أن صار يمزق أبنائها بعضهم البعض في حروب ضارية، كانت آخرها الحرب العالمية الثانية التي شنَّها كل منهم على الآخر، وزجوا فيها العالم بأسره. ولقد دخلت قارة أوروبا الحرب في نهاية مرحلة الكهولة، وخرجت منها عجوز منهكة استدرجت قارة أمريكا الشابة اليانعة؛ وورطتها في الحرب حتى تحقق مآربها ، وتقصف جبهة ألمانيا للأبد، وتخرس العدوان الياباني. ومن أهم نتائج الحرب العالمية الثانية صعود الولايات المتحدة وإفساح المجال لدول الشرق الأقصى الناشئة لتعبر عن نفسها بعقد شراكات تجارية وصناعية مع كبرى دول العالم.
ومع بداية الألفية الثالثة، تبدل النظام العالمي، وصار على مشارف الاحتضار، وبدأت دول كبرى تنزوِي في طيات التاريخ. فعصر التكنولوجيا والعولمة الذي هيمن على مزاج المستهلك، فرض نشأة صناعات مستجدة تخدم الأجواء التكنولوجية. وانقلبت الأحوال، وبدأت تظهر تكتلات جديدة بعد أن ذهب الدب الروسي في بيات شتوي جديد، وبزغ التنين الأصفر على الساحة في ثوب جديد أذهل العالم بأسره، والذي اتخذ ملاذه ليس الغرب الحديث، بل اتجه لعقد تحالفات قُوى مع دول صاعدة في العالم الثالث، مثل الهند والبرازيل في خطة محكمة استطاع فيها تضييق الخِناق على الغرب. وفيما يبدو أن التقدم صار لعنة كبرى تصيب كل من يأخذ بتلابيبه بالهِرَم، ومغادرة مرحلة الشباب اليانع. وبعد أن تنبهت دول العالم المُسنة وتلك التي دخلت مرحلة الكهولة كالولايات المتحدة والصين أن أسس الصراع والزعامة لا يمكن أن تستقيم دون وجود نبع جديد غني بإكسير الشباب، بدأت أنظار العالم تتجه إلى قارة أفريقيا الشابة التي لا زالت تعج بخيرات جعلت المستقبل في يدها.
فالقارة الشابة قد وصلت إلى بداية المرحلة التي تؤهلها لرسم مستقبلها بالطريقة التي تسير وفق رغباتها.
أفريقيا قارة المتناقضات؛ فهي موئل المآسي الإنسانية والأوبئة والانقلابات والنزاعات القبلية الضارية والمجاعات التي تدمي القلوب، وعلى النقيض الآخر هي لوحة خلّابة لطبيعة رومانسية ساحرة، حيث الغابات الكثيفة دائمة الخضرة والشلالات الهادرة والأنهار الوفيرة وحشائش السفانا الذهبية المعمورة بالأفيال والأسود. لكن، فيما بين هذين النقيضين تكمن قصة يغفل العالم سردها، سواء بقصد أو بدون قصد، ألا وهي “أفريقيا قادمة لتسود.”
طبقًا لأحدث تقارير وتوقعات الخبراء، يُتَوقع أنه بحلول عام 2050 لسوف يتضاعف عدد سكان القارة والتي يبلغ عدد سكانها في الوقت الحالي 1.4 بليون نسمة. أما في عام 2100، لسوف يتضاعف هذا الرقم مرة أخرى لتصبح أكبر القارات من حيث عدد السكان، وحينها سوف تضم ثلث سكان العالم وأغلبهم من الشباب، وأهم ما يمييز تلك الطفرة النوعية وجود نصف شباب العالم تقريبًا في تلك القارة، مما يعني أنها لسوف تكون القارة الشابة الوحيدة وسط قارات العالم
وسكان أفريقيا من الشباب ليسوا عمادها الوحيد، فهي لا تزال أغني قارات العالم بالموارد الطبيعية ومن أهمها المعادن النفيسة مثل الذهب والألماس، وكذلك المواد الخام اللازمة لصناعات المستقبل من معادن وأشباه موصلات مستخدمة في صناعة الهواتف النقالة وألواح الطاقة الشمسية. ومن ثمَّ، فإن تكوين علاقات وشراكات مع دول أجنبية لتوفير فرص عمل للشباب هي السبيل للخروج من دوامة الفقر والمجاعة؛ فأغلب سكان المنطقة الواقعة جنوب الصحراء الكبرى دون الثلاثين ربيعًا. وعلى هذا، حتميًا يلزم وجود سياسة خارجية تضمن لذلك الجيل أن يكون على دراية بأهم المستجدات العالمية وكيفية الخروج من الصراعات التي مزقت القارة، وجعلت سكانها يعانون من إرهاب دموي شنيع نابع من أبنائها. وعلاوة على كل هذا، يعتقد سكان أفريقيا أن الشراكات مع دول أخرى قوية وثرية سوف تضمن لها التفرد والتميّز. فأكثر ما يثير حنق سكان الدول الواقعة جنوب الصحراء الكبرى أن عددهم البالغ ست وأربعين دولة لم يمكنهم من التفرد؛ لأن العالم بأسره يعاملهم وكأنهم جميعًا دولة واحدة. على نقيض دول شمال القارة، كما يرى الأفارقة، فهم يتمتعون بتفرُّد، بل ويتنصلون من هويتهم الأفريقية وانتمائهم لها عندما انضموا لتكتل الدول العربية.
وبما أن العائد الديموغرافي (أي السكاني) لا يزال هو أكبر نقاط قوة قارة أفريقيا، فإن عدد السكان المتزايد سوف يضمن لها مستقبل أفضل. ويذكر الخبراء أن دول جنوب شرق آسيا في طور النمو كانت تعاني من فقر واضطرابات وانفجار سكاني، لكن سكانها الذين ينتمي أغلبهم لفئة الشباب أو اليافعين أنقذوا دولهم عندما تماشوا مع أساليب العمل والإدارة في مشروعات الشركاء الأجانب. ولهذا، صار هناك توجه لعمل تسهيلات مكثَّفة للشراكات مع دول أجنبية؛ لخلق فرص عمل تُجهِزعلى البطالة التي تتفشى بالقارة. وفيما يبدو أن معين الشباب لن ينضب سريعًا في أفريقيا كما حدث في أوروبا؛ فبالرغم من المآسي الإنسانية والمجاعات وحالات الوفيات المتكررة بين جميع الفئات العمرية وخاصة الشباب منها – لكن لازالت نساء القارة تتمتع بأكبر معدلات الخصوبة على الصعيد العالمي؛ فلقد ذكر تقرير البنك الدولي الصادر عام 2018 أن متوسط معدل إنجاب المرأة الأفريقية 4.6 مولود، وهذا عدد مرتفع للغاية عند المقارنة مثلًا بدولة مثل اليابان، التي بلغ فيها متوسط الأعمار 60 عامًا، مما يعني أن سكانها يتآكلون. وعلى هذا، بدأت تفتح اليابان أبوابها للهجرة؛ من أجل استقطاب الشباب من العمالة المدربة؛ لأنهم أساس قيام الحضارة والازدهار.
لكن يجب الحذرالأخذ فى الاعتبار أنه قد يتحول مصير القارة للنقيض في حال عدم تسليح سكانها بمنظومة تعليمية ثابتة الأركان؛ فبدون العلم سوف يتحول مستقبل أفريقيا لنقمة تدفعها للوقوع في براثن العبودية أبدية سببها تفشي الإرهاب والصراعات، الذي سوف يقضي على الإنجازات والحركة العلمية والاستكشافية التي نشطت مؤخرًا؛ فإذا لم يستعب الشباب فرص العمل والصناعات، لسوف يستقطبهم الإرهاب والصراعات.
لماذا أفريقيا حاليًا؟
لماذا أفريقيا حاليًا؟
نعيمة عبد الجواد
د. نعيمة عبد الجواد: أكاديمية مصرية، وأستاذ أدب وترجمة، لها عدة أبحاث علمية منشورة دولياً، وكذلك لها العديد من المؤلفات الأدبية والصحفية، بالإضافة لأنشطتها الثقافية. وعلاوة على ذلك، فهي كاتبة دائمة في عدة صحف ومواقع عربية.
مقالات الكاتب