كنت قد عشت طفوله متواضعة،أعود من المدرسة،وحقيبتي المدرسية التي ورثتها من أخي الأكبر قد تركت أثرها على كتفي،أتناول غدائي المتواضع مع أسرتي أو ما بقي منها،نحن بالكاد نرى أبي لأن عمل وآحد لايكفي، ولا أوقات عمل محددة له،لا أستطيع ان اتذكر ما طبيعة عمله لكن ما أتذكره ان قميصه الأبيض الذي يرتديه صباحا يقترب من ان يكون أسود اللون في نهاية يومه، فسنين العجاف ليست سبعة كما ورد في قصة سيدنا يوسف، بل قاربت على ان تكون دهرا.
وما ان أنتهي من طعامي أتوجه مسرعا للعب بكرة أقل مايطلق عنها أن عمرها ضعف عمري،فكان قرار شراء كرة جديدة يتخطى صلاحياتي وأصدقائي،لذلك كان مايجمعنا بمصلح الأحذية(اجلكم الله) علاقة عمقية لكونه المسؤول عن صيانة كراتنا واحذيتنا الرياضية فمن كان يمتلك حذاء رياضي منا كان محظوظ رغم ان عدد المسامير المتواجدة في ذلك الحذاء تكفي لصنع أثاث منزل متكامل،لذلك كنا عادة مانتجه للعب الكرة حفاة الإقدام،وكان من يمتلك الكرة والحذاء هو صاحب اليد الطولى في تحديد أوقات لعبنا، نعود للبيت قبل الظلام لكي نتمكن من مشاهدة فترة برامج الأطفال التي تبدأ الساعة السادسة،وكالعادة نصطدم بأن القائد الضرورة آنذاك لدية إجتماع مع قيادتة الحزبية، وبذلك يكون قد قضى على أحلامنا بمتابعة ما بقينا ننتظرة ساعات طويلة، وما ان أبدأ بالتذمر حتى تعض أمي على أصابعها، وتهمس بحذر وخوف شديدين، للجدران أذان، ولكوني لا أملك من الإدراك الكثير في ذلك الوقت، كنت أصدق فعلا ان النظام الحاكم آنذاك فعلا قد وضع أذان له داخل جدران منزلنا، وان جارنا ابو علي الذي خرج ولم يعد الى أسرته، لكونه استهزء بأحد رموز النظام البعثي داخل بيته، تم الإستماع الى حديثة من خلال تلك الأذان الموضوعة داخل جدران منازلنا.
وما ان يدخل أبي مساء، وقد أخذ منه التعب ما أخذ، حتى يهمس في أذن أمي، ويسألها عن أحوالنا، وبدورها ترد بما يثلج صدره لتزيح عن كاهله بعض ما عانى طوال اليوم، وكعادتة كان ينتظر نومنا بفارغ الصبر، ليجلس في إحدى زوايا غرفته، حاملا بين يده مذياع بالكاد يعمل،باحثا عن أخبار غير تلك المحلية لعل فيها أمل لنهاية حقبة من الخوف والريبة والحرمان، وكعادتي اتظاهر بالنوم لاسترق السمع لأعرف عن ماذا يبحث أبي، والتساؤل بداخلي، إلا يخاف أبي من الجدران؟ أوليست تحتوي على الأذان؟ ماذا لو حدث لأبي ماحدث لجارنا؟
لكنة كان عادة ما يختم إستماعه للمذياع، بأبتسامة عريضة ويهمس لأمي، هذا آخر شهر و تنتهي أيام الطاغية، مسكين أبي ظل يردد، هذا آخر شهر، لمدة عقد من الزمن!
لم اعرف سر لهفة أبي على نهاية حقبة الدكتاتورية، حتى عام 2003.
عام أخرجت فية جثة جارنا ابو علي من إحدى المقابر الجماعية إضافة الى جثث الألف الأبرياء، عرفت حينها لماذا كان أبي مهموم و يواظب على الإستماع الى مذياعة،ولماذا كانت أمي تصر على ان للجدران أذن…
أحمد الله كثيرا وأشكره ان حقيبة ابني المدرسية اليوم غير مستعملة وهو غير مضطر الى لعب كرة القدم حافي القدمين و يمتلك أكثر من كرة ويشاهد برامجه المفضلة دون ان يقطعها عليه احد،ولا تهمس له أمه بعبارة ان للجدران أذان، وجارنا أبو أحمد موجود بوسط أسرته.
فهو حر للتفكير والإبداع والتفوق، سقف الحرية التي حرم منها أبي وأنا لغاية 2003 إنتهت فلن يضطر لان يخاف من الجدران..