لم أقـرأ مجموعـة قصصيـة منذ فترة ليست بالقليلة , ولعل ذلك يعـود الى قلـة متابعتـي لآخـر الإصدارات الأدبيـة في مدينتـي (الكوت) بعـد أن كنت قد شعـرت بالإحبـاط وأنا أقـرأ آخـر مجموعة قصصيـة وقعـت عليهـا يدي قبل سنـوات لأحد كتّـاب المدينـة , وسأحـاول قدر الإمكـان أن أتحفـظ على اسـم وعنـوان المجموعـة أو الإشـارة لهـا ولو من بعيـد في هذا المقال احتفالاً وإحتفاءا باللقلق العائد الذي أرقنـي ليلتين لما حمـل على جناحيـه من أسـىً ولوعـة شاركتهما إيـاه لاشعوريا حيث إن الأدب الفاتن الجميل يسرقك دونما تشعـر . ولأني لم أتعـرف على كتـابات الرائع حميد الزاملي من قبـل , اعتبرت في البداية بأن النسخـة التي حصلـت عليهـا من ” المعلم ” باسم الشمري مجموعـة أخـرى مكملـة للطابور المهمـل من القصص والروايات التي صدرت في السنوات الأخيـرة والمخزونة في مكتبتي الشخصيـة دون اهتمام . وهنـا أحـب أن أشيـر الى أمرٍ مهـم قد يؤاخذني عليه القـارئ إذا ما استعجل فهم سطوري أعـلاه حيث إنه على الأغلـب سيعتبر كلامـي نقـداً للأفكـار والموضوعـات التي باتت تُطرح مؤخـراً في الأعمـال الأدبيـة المختلفـة التي بدأنا نراها تستعيـد ربيعهـا ( كمّـاً ) في السنـوات الأخيـرة . وفي هذا الموقف لا أملك إلا أن أقتبس بعضـاً من فكـرة الأستاذ حميد الزاملـي في قصتـه ” قصص ميتـة ” ضمـن مجموعة ” عـودة اللقلق ” التي طرحهـا مؤخراً حيث يقـول :
” لقد عانيت طيلـة السنـة الماضيـة من عقـم الكتابـة وهروب الأفكـار من مخيلتـي ” .
وهنا بالضبط , لعل الزاملـي لا يقصـد نفسـه بالتحديد , إذ يُخيـل لي بأنه وكعادته في ” عـودة اللقلق ” يؤشـر بطريقـة غير مباشـرة الى كثـرة الموضوعـات الأدبيـة المحروقـة التي شاعـت منذ سنيـن في كتاباتٍ كثيـرة لعلها كانت المساهم الأول والأكبر في قلـة الإقبـال والإحجـام عن مطالعـة الأعمـال الأدبيـة من قبل الأوساط الاجتماعية المختلفـة وفي مقدمتها فئة الشباب التي انتمي إليها . فالقارئ لا يحبذ قراءة فكرة مسحوقة أو مكررة أو مقتبـسة أو مبتذلـة أو منسوخـة على الإطـلاق وهو دائمـاً ما يبحث عن شيءٍ جديد يحاكـي نـزعـة التجديد المغروسة فطريـاً في الروح الإنسانيـة التواقـة والمحبـة للأدب الخـلاق ذي الموضوعات المبتكـرة . وهذا الأمـر بلا شك نجح حميد الزاملـي في توظيفـه توظيفـاً سليما بل ورائعا الى حدٍ كبيـر . فلـم أشعـر بأي نوعٍ من الملل وأنا أعيد قراءة المجموعة كاملـةً مرتين متتاليتين مع الاندماج التام والذوبان الفوري في كـل كلمـة أو إيحـاءة رسمهـا الكاتب بحرفنـةٍ وإبداع .
” عـودة اللقلق ” مجموعـة قصصية جديدة للشاعر والروائي الواسطي حميد الزاملي , صدرت مؤخـراً عن دار عدنـان للطباعـة والنشر التي قد لا أتفق مـع ما يعتقده الأستـاذ صالح الطائي في مقالتـه التي قرأتها في صحيفة عروس الأهـوار الالكترونية والتي ذيلهـا بالثنـاء على نوعيـة طباعة هذه المجموعة , مشيـراً إلى إنهـا تنبئ ” بمستقبل زاهر لفن الطباعة العراقية بعد أن تعرض خلال السنين الأربعين الماضية إلى التدمير والتخريب ” . ورغم أنني أعتقـد بأن تقنية الطباعة ونوعها أبخست ” عـودة اللقلق وحميد الزاملي ” حقهمـا معـاً إلا أنني لا أريد الخوض في هذا الموضوع مبتعـداً عن روعـة المحتـوى وجماليته الأدبيـة بل أحببت أن أشير فقـط الى المظلوميـة الكبيرة التي تحملهـا الأديب العراقي في هذا المجال بشكلٍ عـام ومنذ وقتٍ طـويل .
وبالعـودة الى المجموعـة , فأنا لا أستغرب أبـداً أن يُبصر أديبٌ متمرس الأشياء من حوله بطريقـة مختلفـة وفريـدة من نوعهـا , فهـو من دون هذه الميزة ” المرهقـة ” لا يستوي أديبا على الإطـلاق , ولعلنـا كقـراء لطالمـا عشنـا واستمتعنـا بعذاب الأدباء وإرهاقهم من إنهم يرون الأشيـاء بطريقة أخـرى لا نستطيع نحـن إدراكها كما ولا نملك القدرة على وصفهـا بالطريقةِ التي تلامس العواطف وتحرك الشعـور , فتُضحكَ قارئها وتبكيه , تشده إليهـا بقوةٍ ثم ترميـه , توصلـه بعد أن تجافيـه , تتفاعـل معهـا كل خلاياه وتنقلـه الى العالـم الذي يريده الكاتب بالطريقـة التي أبصرهـا وعاشهـا ولمسهـا هـو وحـده بكل تأكيد . ففي مجموعتـه الأخيـرة يُدخلنا حميد الزاملي في متاهـة كبيـرة مع بدايـة أغلب قصص المجموعة , فهـو يوحـي لك بأنه يعمل بالفرشـاةِ لا بالقلـم , بالتحديد كرسام ماهـر ينثـر ألوانه في كل اتجاهات لوحتـه , فيرسم لك إبتداءا أشكـال مبهمـة محيـرة تجعلك تعيش أجواء الأحجيـة لتحاول بتركيزٍ عـالٍ أن تستكشف ما ستنتهي عليـه الأنامـل المبدعـة بكـل لهفـةٍ وشـوق . فهـو يقدم لك فكـرة متعددة الوجوه يصعب على القارئ للوهلـة الأولـى أن يكتشف مركزهـا والى أين ستمضي بهـا الأحداث وكيف سينتهي الحال بشخصياتها وقصصهم , وتلك تقنية مميزة تجذب انتباه القارئ لمواصلـة القراءة في محاولة لاستكشاف ما ستؤول إليه الأمور . حيث إنه يتخيل للوهلـة الأولـى بأن ” جبـار البائـع ” في ” هروب ليس ببعيد ” ليس إلا عيناً للسلطـة تحـاول من خلاله الإيقـاع بالغريب ” محمـد ” في فخ الخوض بحديث سياسي . ثم إنك تكـاد تكـون شبـه متأكد بأن ” مهـدي الرسـام ” قضـى منتحـراً ” في برج الزقاق العالـي ” دون أن تعلم بأن معضلـة العصـر العراقي الحديث كانت السبب في قتلـه لا انتحـاره . فيتابع القارئ محاولا إيجـاد الأسبـاب ممتعضـاً للوهلـةِ الأولـى من محاولـة الكاتب تبرير الإقدام على الانتحار …
تقنيـة أخـرى أستخدمهـا الزاملـي بحرفيـة عاليـة تحاكـي الواقـع الى حدٍ بعيـد , تمثلـت بصورة أساسيـة في التشديد بصـورة غير مباشـرة على إن الآمـال لا تتحقق بالشكـل المرجـو والنهايات قد تأتـي سعيـدة , لكنهـا بكـل تأكيد ليست بالصورة التي نريد . ففي مشهدٍ درامي أكثر من مؤثر , يعـود ” حسيـن الثائر ” ولكن لا يعـود طائر اللقلق . ويمسي عشق خلـود الذي كـاد أن يوصلـه الى المـوت مـاضٍ بينمـا لا تزال ” خلـود ” تجثـم في خلاياه . وفي ” الرقم خارج الخدمـة ” تقاتل الأسـود بشرف , لكنهـا في النهايةِ تمـوت موتاً لا يليق بكيانها وعنفوانها على الإطـلاق . وفي ” حذاء الملك ” يُقهر الملك الشاذ وتنجـوا مملكـة النمـل إلا إن ثمـن النصـر باهضٌ كالعـادة حيث يذوي في الطريق إليه ” الشـاب العائد ” الذي خطط للنصر وأدار دفة المعركـة . وفي ” درس خصوصي ” يقترب الأستاذ ” عبد الحميد ” من “فايزة ” لكن ثمن ذلك كان ختم المستطيل الأحمر والمغادرة النهائيـة … إذن فالأشيـاء لا تكتمل في كثيرٍ من الأحيـان وإن حدث واكتملت فهي لا تأتي بالطريقة التي نريد بينما ما فتئت الأقـدار مجحفـة كثيرا حتى مع القليل الذي تمنحـه .
الإحساس العالـي بالأشيـاء الذي يحملـه حميد الزاملـي يجعلـه مكتئباً وهـو في أقصـي درجـات النشوة والسعـادة , هارباً من الماضـي رغـم عدم إمكانية تجاوز انعكاساته و ذكرياته , واقعيـاً فذاً مع غرقـه حد الأذنين بأحـلام اليقظـة , وقـوراً وعابثا في الوقت نفسـه … وهذا المزج الخطيـر في جمع الأضـداد لا يمكن لكاتبٍ أن يوظفـه بطريقة متجانسـة مالم يكن عبقرياً متمكنـاً يعـرف حرفـة الشعـور ويجيد الوصول الى القلـوب , كيـف لا وهـو يعتق في داخلـه 59 امرأة , هذا إذا ما أضفنا أيام الهـوى في الخارج طبعـاً … هذا فضـلا عن الرمزيـة العاليـة التي تمتعت بهـا كل قصص ” عـودة اللقلق ” بدءا من عناوينهـا التي إذا ما سرحت النظـر بعيـداً استكشفت معاني بليغـة تحتـاج لأكثـر من هاوٍ مثلـي لكـي يترجم مغزاها ويعطيهـا الأبعـاد الحقيقيـة التي تاهـت عنـي وسـط سطـور أحد أجمـل المجموعات القصصية التي قرأتها على الإطـلاق .
أخيـرا , ” عـودة اللقلق ” تعيـد لي الثقـة بالقلـم العراقي و الواسطي بالتحديد وتجعلنـي أفخـر كثيراً بأني ابن مدينـة احتضنت أديباً مبدعـاً وكبيـراً كحميد الزاملـي الذي لم التقيه حتـى الآن …