بعد يومين من إعلان الرئيس اوباما الانسحاب العسكري للقوات الأمريكية المزعوم وانتهاء حرب أميركا في العراق قال اوباما في احتفال إعلامي وضمن خطاب انتخابي أعد بهذه المناسبة : (لقد غادرت القوات الأمريكية العراق وهو مستقراً بعد أن أرست فيه الديمقراطية ). وقد سمى المالكي هذا اليوم 18 كانون الأول بيوم الوفاء ، في نفس الوقت كانت المكالمات والمهاتفات بين المالكي وهو متواجد في أميركا ومكتبه في بغداد تتبادل تفاصيل صراع بين أقطاب السلطة وخطوات للإطاحة بعناوين قادة سياسيين مشاركين في العملية السياسية وموقعين على اتفاقيات الشراكة التي اشرفت على انجازها الإدارة الأمريكية لتقاسم السلطة.
وبدلا من أن تكتمل احتفالات وبهجة العراقيين بيوم الانسحاب وهزيمة الغزاة في مدنه على غرار ما احتفلت به مدينة الفلوجة الباسلة والطارمية وغيرها من المدن ، تعجل المالكي بتنفيذ مخطط الاستفراد بالسلطة من خلال الإطاحة بأقطاب القائمة العراقية وأصدر أوامره بمذكرات تستهدف طارق الهاشمي بدءا بحرسه وحمايته وانتهاء بإصدار أمر توقيفه واعتقاله متزامنا مع الإعلان عن الاستغناء عن خدمات نائبه صالح المطلق ومنعه من دخول مقره الوظيفي بحجة عدم نزاهته وكفاءته !، تمكن الاثنين من السفر الى السليمانية ومن ثم اربيل وبتدخل من الرئيسين الطالباني والبرزاني اللذين أفصحا عن توفير الحماية لهما في الإقليم . أعقب ذلك حملة إعلامية مكثفة وبث تلفازي لاعترافات شخوص وحمايات مرتبطة بمكتب الهاشمي تشير إلى ضلوعه في عمليات قتل وعنف وإرهاب استهدفت أبرياء كما يسميهم المالكي وتم تنفيذ إجراءاته بعد ثبوت الأدلة من خلال ما تم عرضه بطريقة توحي بالسخرية والتلفيق والتسييس الفاضح لما يسمى القضاء ومجلس القضاء الأعلى في العراق !.
لقد بانت اليوم بعد أن وقف المالكي منددا بشركائه في العملية السياسية من خلال أوامره ومؤتمره الصحفي بعد وصفهم بشتى النعوت والحكم عليهم مسبقا بما ذكر من تفاصيل، هشاشة هذه العملية السياسية الخائبة وافتقادها للمصداقية واستغلالها من قبل المالكي وحزبه للقفز على كرسي السلطة والهيمنة والغدر بالشركاء والترويج لسلطة الأغلبية والتأكيد باللغز والابتزاز على هذا النهج القمعي خلال مؤتمره الصحفي من خلال تأكيده على احد الصحفيين أثناء توجيه أسئلته ناصحا إياه بقوله : (احتفظ بالمكرفون لا تعطيه ، لأن من يروح منك سوف لن يعود إليك ) والحليم تكفيه الإشارة إذ سبق للمالكي أن أجاب احد الهتافين له بضرورة التمسك بالسلطة : ( هو من راح ينطيها حتى يقدر أحد يأخذها ).
لقد سبق أن نبهت وحذرت القوى المعارضة والمناهضة والمقاومة للاحتلال وابتكاراته منذ البداية إن هذه العملية السياسية وشراكة المحاصصة وحكومات الشراكة والانخراط بها لن توفر حلولا لأزمة العراق وسوف لن تجلب الا المزيد من الويلات لأهلنا وشعبنا والامتيازات الشخصية والفئوية للمشاركين فيها وان مصيرها الفشل ولم يكن هذا الاستنتاج نابع عن خيال أو محض ادعاء ، بل إن طبيعة التأسيس لهذه العملية السياسية وتشكيل كتلها وأطيافها وإجراءاتها الانتخابية ومفوضيتها والدستور الذي شرع ملغوما لإدارة البلاد والأحداث السياسية التي خلفتها هذه العملية كانت تشير بوضوح لفشل هذه العملية قبل أن تنكشف حقيقة زيفها وفشلها في باكورة ما يحدث اليوم وما يتوقع أن يسفر استمرارها من أحداث وأزمات نرجو أن ينقذ الله منها أهلنا وعراقنا .
لقد بان زيف الإدارة الأمريكية وكذب وافتراء تصريحات الرئيس اوباما بشكل واضح بعد يومين فقط من خطابه ، أين الاستقرار الذي يدعيه في العراق غداة رحيل القوات الأمريكية وأين مظاهر الديمقراطية التي أرساها الأمريكان بعد الاحتلال فيه ؟.
أما الوفاء الذي استلهمه المالكي ليوم رحيل القوات الأمريكية فقد بان لمن ، إنه الوفاء لدولة نظام الملالي و ولاية الفقيه التي توعدت بسد الفراغ الحاصل بعد انسحاب الأمريكان وللمليشيات التي لاح افق تواجدها وفعلها بالتوافق مع ما خطط له المالكي من التصفيات والاعتقالات وإثارة العنف والاقتتال الطائفي بحجة حماية المذهب والحفاظ على انجازات ومصالح حزب الدعوة زورا وبهتانا ولعله الوفاء لأجندة أميركا ومشروع بايدن التقسيمي وإظهاره بأنه الحل الذي لا حلَّ غيره لإنقاذ العراقيين من محنة العنف والاقتتال التي أثيرت فور انسحابهم العسكري المزعوم .
وهكذا يبدو يوم الوفاء يوم غدر بالعراق وأهله لتقسيمه وللمزيد من العنف وسفك الدماء وإشاعة الفوضى والحرب الأهلية التي سيكون العراقيون ضحاياها ويقبض الساسة والشركاء جميعا بلا تمييز ثمنا لها مهما كان لونهم وطيفهم كل وفق الدور الذي يكلف به .
ظهر المالكي بمؤتمره الصحفي وكأنه أمين الأمة على استقلالية القضاء والتشبث بالدستور وهو الذي اعترف انه ساهم بوضعه وأن الدستور يحتوي ألغام ومثالب ويعرف القاصي والداني والمتابعون للوضع العراقي ان المالكي يستخدم صلاحيات منصبه دون وجود قانون ينظم صلاحيات مجلس الوزراء وهو يعرقل إصدار هذا القانون كما انه ناقض تصريحاته السابقة حول أسبقية تعديل الدستور الذي أسهم بكتابته كعضو رئيسي في لجنة كتابته واعترف بعدئذ عندما تبوأ رئاسة الوزراء بعدم إمكانية إدارة الدولة به، لكنه بعد تجديد منصبه لم يلزم نفسه ومجلس النواب بتوصية التعديل ، والمالكي سيَّس القضاء في قضية الاستحقاق الانتخابي بتشكيل الحكومة التي كان يجب أن تشكلها الكتلة الفائزة بأكثر الأصوات في الانتخابات كما انه بعد أن عجز أن يشكل حكومة متكاملة خلال فترة التكليف مرر قرار القبول بالحكومة الناقصة قبل انتهاء الفترة بيومين قضائيا وهو الذي قام بإعفاء السيد مقتدى الصدر من تبعية الدعوة القضائية حول مقتل السيد عبد المجيد الخوئي ناهيك عن إخراجه المئات من مرتكبي الجرائم المحكومين بالإعدام من ميليشيات الصدريين إغراءً لتسهيل تشكيل الحكومة وهو الذي برأ وزراء من جرائم الفساد وتزوير الشهادات والاختلاس وهو الذي ربط هيئات مفوضية الانتخابات والنزاهة والبنك المركزي وشبكة الإعلام وهيئة المسائلة والعدالة وهيئات عديدة أخرى بمسؤولياته المطلقة مخالفا الدستور وهو يشغل منصب القائد العام للقوات المسلحة و وزارات الداخلية والدفاع والأمن الوطني منذ تشكيله الحكومة الناقصة والمالكي نقض تصريحاته و وعوده و وثيقة الشراكة حين ترك المقاعد الوزارية الأمنية شاغرة يديرها وكلاء يعينهم هو ليصبح هو الحكم والخصم ورئيس الحكومة والقائد العام للقوات المسلحة و وزير الدفاع والداخلية والدستور والقضاء يفسرهما كيف شاء .
العراق لا يمكن أن يستقيم أمره في ظل حكم يتعامل فيه الحاكم مع شعبه على أسس طائفية يصنفهم الى شيعة وسنة وبمنطق الأغلبية والأقلية ، يقبل بشراكة سياسية اليوم ليلغيها غدا وينحى الى حكم أغلبية او حكم حزبا أو طائفة .
القائمة العراقية تشكلت بضم تنظيمات متعددة شملت مكونات الطيف العراقي الواسع وادعت أنها قائمة مشروع وطني ويرأسها أياد علاوي وهو سياسي ليبرالي علماني وبعثي سابق فلماذا تحسب أنها قائمة سنية تمثل السنَّة ويحسب أداء قياداتها على طائفة وهي واقعيا وعمليا ليست كذلك ؟ فيما من المؤكد ان تكوين التحالف الوطني بعد فوز العراقية واحتسابها القائمة الأكبر كان على أساس طائفي وضمن أجندة البيت الشيعي الذي شكله احمد الجلبي ومع هذا فأن من الظلم ان تحسب انها تمثل الشيعة ، إذا أن الأكثرية الساحقة والمسحوقة من الطائفتين اليوم بريئة من أداء حكومة الشراكة ومن نتاجات هذه العملية السياسية .
المقاومة الوطنية والحراك الشعبي والتمسك بوحدة العراق عدت منهجية لثوابت وطنية عراقية جامعة لا تقتصر ولا تحد بطائفة أو عرق أو محافظة او مدينة ومتى ما اخترقت( لا سامح الله) بمرض الطائفية الخبيث ستفقد أهدافها السامية ، كلا الكتلتين العراقية ودولة القانون المتصارعة اليوم تجاوزتا على هذه الثوابت بل حاولتا جادتين تجاوزها وكبح جماح أنصارها وروادها بادوار متبادلة ومتعاقبة في مرحلة الصراع بينهما على النفوذ والسلطة وهذا ما يكشف بوضوح زيف ساسة عراق اليوم المنصبين بغطاء انتخابات وديمقراطية زائفة .
استعراض المالكي الأخير بمظهر القوة زائف بسبب وهن وزيف التناقضات والتهديدات التي طرحها، وإمكانية ان تثير مظاهر العنف للتخندق الطائفي الذي شكل سمة وفحوى المؤتمر الصحفى والذي احتوى على تصريحات وتهديدات لا تنم عن حكمة وسياسة تطلق بعد أيام من إعلان الانسحاب العسكري الأمريكي ، أصبحت واضحة للجميع ، ولا مبرر لهذا التسرع إلا لتنفيذ رغبة النظام الإيراني بسد الفراغ الحاصل بعد الانسحاب الأمريكي بمزيد من النفوذ العسكري في الساحة العراقية لتلعب دورا اكبر في الأحداث السياسية الداخلية والإقليمية وبالأخص أحداث سوريا كما انها تلبي رغبة أميركا بالاستمرار بالتهديد بفزاعة الفدرالية والتقسيم الواهنة من خلال إثارة الفتن والعنف ، فيما تمنح هذه التصرفات والأحداث القيادة الكردية في شمال العراق مزيد من المطالبة بالامتيازات الانفصالية والمطالب العرقية من خلال احتواء طرفي النزاع ! . إدعاءات المصالحة الوطنية التي يتبجح بها المالكي ، صدأت وتهرَّت وبان مكرها حين اعلن مستشاره عن احتواء منظمة فصائل الحق وحزب الله العراقي بالعملية السياسية حتى قبل ان يفصح المالكي بوضوح عن إجراءاته التصفوية لخصومه ، إمكانية ان يكون للمالكي وخارجيته دور مثمر في الإبقاء على النظام السوري المتساقط والمتهاوي معدومة ومحاولة ايران وتهافتها لاستقطاب اطراف المعارضة السورية من خلال صلتها و وساطة تنظيمات الاسلام السياسي المتنفذة بالمنطقة لن تنجح لأن ما موجود على الأرض السورية من حقائق تدين إيران ونظامها بالتدخل المسلح في حسم الصراع لصالح نظام الأسد مؤكدة ليس فقط لدى أطراف المعارضة بل باعتراف زعماء أميركا وأوربا مما يكشف زيف هذه الوساطات وفشل هذه المحاولات .إن تغيير النظام في سوريا سينسحب كارثياً على سلطة بغداد ونظام الملالي في إيران وتضييق امتداداته ، وسيكتشف المالكي بعد فوات الأوان ان سلوكه السياسي الإقصائي الأخير لن ينجيه من حتمية الإطاحة بعد ان يكون كل طرف فاعل في الساحة العراقية قد استنفذ من خلاله مقاصده وأهدافه في حين كان بإمكانه بعد انجاز الانسحاب الأمريكي أن ينتهج سياسة الانفتاح والمصالحة والتلاحم مع الأطراف التي تشكل على الأرض قوى فاعلة ومعارضة لتحقيق المصالحة الحقيقية .
الإدارة الأمريكية من خلال آخر تصريحات مسؤوليها موجودة وفاعلة في العراق بعد الانسحاب العسكري من خلال تواجد عناصرها المخابراتية والمعلوماتية والفنية وشركاتها داخل مفاصل السلطة الحاكمة وبالتالي فان شرعية المقاومة العراقية الوطنية واستمرار فعاليتها باقية ولن تهدأ الا بنزوح كامل هذه العناصر والأدوات .
القوى السياسية العراقية المناهضة ترى في الأحداث كشف لعورات عمليته السياسية الخائبة مبررا ومنطقا لمواقفها وان إسقاطها حتمي للإنقاذ والتغيير ، وتري في مجمل الأحداث في المنطقة وفي الداخل إيذان ببدء انهيارها.
من المؤكد أن مسلسل الصراع السياسي القائم لن ينتهي بحل هذه الأزمة جذريا وبالتالي فان تجنب محنة هذا الصراع وتلافي أبعاده وكوارثه، يحمَّل العراقيين والوطنيين والمناهضين مسؤولية العمل لإفشال كامل المشروع جملة وتفصيلا بمزيد من الوعي والتوافق و وحدة الكلمة ونبذ الطائفية والتشبث بوحدة العراق والخلاص الكامل من الاحتلال ومشاريعه والعزف عن التشبث بساسة الاحتلال الغارقين بالفساد والنهوض والمشاركة ودعم نشاطات الحراك الشعبي المناهض الواسع والعزف عن الطائفية والتثقيف لتشكيل جبهة وطنية عراقية واسعة ذات قاعدة واسعة تحتوي الطيف العراقي الواسع بكامله تظم الرموز والكفاءات والأكاديميين والمهنيين وذات تمثيل شعبي وجماهيري واسع بعيدا عن الفئوية والحزبية الضيقة تنهض بمشروع وطني لإحداث التغيير وتحقيق السيادة والتنمية والأعمار مرورا الى الديمقراطية والحرية من خلال دستور عصري رصين و دولة مدنية حديثة .
[email protected]