عندما توقفت سيارة نوع (پيكان) بيضاء اللون أمام منزل أهلها بمنطقة شهرآرا في القطاع رقم 2 في الشمال الغربي من مركز العاصمة طهران، كانت زوجتي قد تدثرت برداء أزرق (مانتو) وغطت رأسها بخمار غامق اللون وهي تفتح باب المنزل لتودعني، محاولة التعرف على شكل ونوع ورقم السيارة التي ستقلَّني الى مدينة قُم للقاء المرجع الشيعي الشيخ جعفر السبحاني بطلبٍ منه.
كانت خائفة، كونها تعرف ظروف عملي مترجماً في دور الترجمة والنشر بطهران، وتحرص على تنقلاتي في بلد يخوض حرباً ضروساً مع العراق، وأنا لا أحمل أوراقاً ثبوتية رسمية وليس اسمي المتداول هو الأسم الصحيح.
ترجَّل من السيارة شابٌ في الثلاثين من عمره بلحية قصيرة وشارب مهذب، يرتدي بدلة سوداء وقميصاً أبيض. وتراءى لي السائق جالساً خلف المقود. اقترب مني وقال: صبحتون بخير آقاي منصوري (صباح الخير سيد منصوري). وبدا لي أنه الشخص الذي سيرافقني الى قُم. ثم أضاف: بفرمائيد بريم (تفضل لنغادر).
كان ذلك صباح يوم قائض من حزيران عام 1987 وكنت مع زوجتي، قد عقدنا الزواج بمراسيم كنسية قبل أشهر قليلة، واستأجرنا منزلاً صغيراً في منطقة گيشا، التي تبعد 15 دقيقة سيراً على الأقدام عن منزل أهلها. إلا أننا وصلنا الى منزلهم صباح ذلك اليوم، قبل نحو ساعة من موعد وصول السيارة، فقد كنتُ، قبل أن نستأجر المسكن الجديد، قد زودتُ إدارة دار النشر التي أعمل فيها بهذا العنوان، والتي كانت قبل بضعة أيام قد أعلمتني بموعد اللقاء مع المرجع الديني. ودعتُ زوجتي وسرتُ الى حيث مكان السيارة واتخذتُ جلستي في المقعد الخلفي.
تأتي زيارتي الى قم، التي يعدُّها الشيعة ثاني أقدس مدينة في إيران بعد مدينة مشهد، بطلب من المرجع الديني الشيخ جعفر السبحاني. إذ بعد أن عملتُ مترجماً مستقلاً في بعض دور النشر والمؤسسات البحثية، وفرغتُ من ترجمة عدد من الكتب والأبحاث من اللغة الفارسية الى العربية، وترجمتُ كتاباً فلسفياً صغيراً للشيخ جعفر السبحاني، أُعجب بترجمته، فطلب من دار النشر ترتيب لقاء معي في مدينة قُم.
في الصباح الباكر، كان هدير طائرة حربية يشق عنان السماء الصافية، وشوارع طهران غارقة في زحام شديد وأصوات العجلات تقرقع، وتغطي صور شهداء الحرب العراقية- الإيرانية ويافطات سوداء وصور للإمام الخميني واجهات المحال التجارية وجدران الأبنية. وتزدحم الأرصفة بطوابير من الرجال المعممين وغيرهم بلحاهم الطويلة، وكانت النساء متشحات بالجادور الأسود (العباءة) أو مرتديات المانتو الغامق ورؤوسهنّ مغطاة.
في الطريق الى قُم حيث الأراضي المستوية والسهول الفسيحة، كان يلتقط بصري صوراً لبساتين مقفرّة ولكلاب وقطط سائبة وكتل من القمامة هنا وهناك، حيث تنتشر على جانبي الطريق كروم العنب ونبتات دوّار الشمس وأرومات أشجار مقطوعة وبعض الماشية والبقرات ومساحات شاسعة من أراض قاحلة لم تحرث، وقد يبس العشب. ويأتيني بين فينة وأخرى خوار البهائم التائهة بحثاً عن العشب والكلأ.
كنت أحاول أن أتفادى أسئلة المرافق بإشغال نفسي بالقراءة، فقد كانت شهيته للنقاش قد انفتحت في ذلك الصباح الباكر، وأسئلته تنهمر عليَّ دون توقف، كلما لاحظ أنني أنظر، من خلال نافذة السيارة، الى الطريق الذي أراه لأول مرة محاولاً استكشافه.
بعد أن عبرت السيارة حدود العاصمة طهران ومرّت بمدينة إسلام شهر وقبل أن تُكملَ سيرها وتقطع قرابة 160 كيلومتراً خلال ساعتين ونصف وتصل الى مدينة قُم، الواقعة في جنوب العاصمة طهران، قال المرافق: علينا أن نزور ضريح معصومة المقدَّس ونصلّي فيه ثم نذهب للقاء الشيخ جعفر السبحاني. لقد كان كلامه موجهاً لي.
قلتُ: كما تحبون، إذا كانت الزيارة طقساً وتقليداً، لكنني أعتذر عن الصلاة إذ لا يحق لي الوضوء، فقد كنتُ قد اطلعتُ، نتيجة قراءتي للكتب الإسلامية ومنها كتاب (توضيح المسائل) للإمام الخميني، على مبطلات الوضوء المتفق عليها لدى الشيعة أو المختلف فيها. ولم يكن المرافق الذي يخاطبني بـ (آقاي منصوري) احتراماً، يعرف اسمي الصريح ولا يعرف أنني على غير دينه.
عندما وصلنا الى بوابة ضريح ومرقد فاطمة معصومة، وبعد أن ركن السائق سيارته في المكان المخصص الى جانب سيارات كثيرة مصطفة بانتظام، ترجلنا ودخلنا الى باحة الضريح المشيَّد منذ نحو 700 عام، وتعتليه ثلاث قُبب ذهبية زنتها 500 كيلوغرام. وبينما ذهب السائق والمرافق الى محل الوضوء ثم إقامة الصلاة، قمتُ بجولة سريعة داخل المرقد.
كان مرقد أخت الإمام الثامن علي الرضا، وابنة الإمام السابع موسى الكاظم، والذي يتكون من حجرة الدفن وثلاث قاعات للصلاة وثلاثة فناءات مفتوحة وتم تشييده على مساحة 38 ألف متر مربع، مزدحماً بالرجال والنساء والأطفال وهم يطوفون حول القبر.
يحكى أن فاطمة معصومة كانت قد أصيبت بهجوم مباغت على قافلتها في منطقة ساوة، أثناء سفرها للالتحاق بأخيها الإمام على الرضا في خراسان، قُتل فيه 23 فرداً من عائلتها، ومن ثم جرى تسميمها، فطلبت هي أن تُنقل إلى قم حيث توفيت عام 201 للهجرة. ويقال إن قبرها في بداياته كان مغطى بأعواد لينة من القصب والخيزران. ثم توسع لاحقاً، إذ بعد مرور 50 عاماً على وفاتها شيّد ضريح مقبب لها ليصبح مزاراً يقصده الشيعة من مختلف أنحاء العالم.
بعد أن انتهى السائق والمرافق من إقامة الصلاة وقطعتُ زيارتي السريعة الى المرقد، توجهنا إلى السيارة وانطلقنا الى وسط مدينة قُم، التي كانت تعج بالسيارات والمارة. المدينة التي تختلف المصادر في تاريخها المُوغل في القدم، إذ إن البعض يُرجع تأسيسها الى عصر الفيشدانيين (ملوك الفرس القدامى)، وأقام الخلفاء العرب حكمهم على المنطقة قروناً عديدة وقاموا بترسيخ اللغة العربية كلغة أساسية لشعوب المنطقة. ويقال إن معظم سكان المدينة كانوا حتى القرن الثالث الهجري يتحدثون اللغة العربية.
مررنا بجانب سوق شعبية حيث الشوارع الملتوية الضيقة والدكاكين المزدانة بالتحف الجميلة والمصنوعات المحلية وبإنواع الحلويات والتوابل والمكسرات والعسل وعلب الشاي والبخور والعطورات وأنواع الرز وكدسات من علب المناديل الملونة.
وعندما وصلنا الى منزل الشيخ جعفر السبحاني وتوقفت بنا السيارة نزلنا منها ومشينا قليلاً إلى منزله. استنشقت نفحات الريح والنسيم المنعش وأنا أمرُّ في باحته حيث تنتشر الأشجار المغروسة بلا انتظام وينمو فيها العشب الأخضر الباهت. إذ كان بيتاً من الطراز القديم.
استقبلنا شخص كان ينتظرنا أمام الباب. وقادنا، أنا والمرافق، إلى صالة مخصصة لاستقبال الضيوف، وطلب منّا الجلوس إلى أن يفرغ الشيخ من انشغلاته، فقد كنّا قد تأخرنا على الموعد المحدد لنا أكثر من نصف ساعة. وبينما بقي السائق في الخارج وجلس المرافق في مقعد يتسع لثلاثة أشخاص، اتجهتُ أنا إلى حيث تربض المكتبة الكبيرة.
حاولتُ أن أستجلي الصالة التي كانت تسطع فيها أضواء النيون وأشعة الشمس من منافذها الكبيرة والستائر المرخاة، وقد علقت صورة الإمام الخميني في الزاوية العليا من الجدار وتتصدر بقية الجدران لوحات دينية وتخطيطات وضعت في إطارات سوداء نُقشت فيها آيات من القرآن وأحاديث نبوية، ومن سقف الصالة المغطى بالجص الأبيض تتدلى ثريا فقدت لونها الأصلي مكسوة بالغبار، وفي زوايا الصالة توزعت بعض التُحف وتنائرت على المقاعد وسائد مزركشة زاهية الألوان.
كانت المكتبة، التي تمتد على طول جدار الصالة وعرضه، مزدانة بمئات الكتب والمعاجم والمجلدات والمخطوطات القديمة التي تآكلت أجزاء من أغلفتها ومُحيت بعض كلماتها، مرتَّبة على رفوفها الخشبية. فلا غرابة في مكتبة ضخمة كهذه، وباللغتين العربية والفارسية، في منزل الشيخ الكاتب الغزير الإنتاج ولديه أكثر من 250 كتاباً ورسالة موسوعية في مجالات الفقه والأصول والتاريخ والسيرة والكلام والفلسفة والاقتصاد والحديث، منها (مفاهيم القرآن) في عشرة أجزاء، و( بحوث في الملل والنحل) في ثمانية أجزاء ، و(الوضوء على ضوء الكتاب والسنّة) و( أصول الفلسفة) و(الوهابية في الميزان).
بعد دقائق معدودات دخل إلى الصالة شاب في العشرين من عمره وهو يحمل صينية فيها استكانان من الشاي وصحنٌ من الحلوى وعلبة من الساهون (شرائح من الحلوى الإيرانية تُصنع من السكر والطحين والعسل والزبدة والزعفران وماء الورد والهال والفستق واللوز المجروش).
وما إن أفرغ الشاب محتويات الصينية ورتبها على الطاولة الصغيرة، حتى استللتُ شريحة صغيرة من الساهون وقضمتها في الحال، كان مذاقها لذيذاً، إذ يُعَدُّ الساهون المصنوع في قُم من أرقى أنواع الساهون الإيراني.
وبقيتُ واقفاً متسمراً أمام المكتبة الضخمة، أحاول تصفح عناوينها الكثيرة. فجأة سمعت وقع أقدام قادمة باتجاهي، وإذا بالمرجع الشيعي الشيخ جعفر السبحاني يطل علينا من باب الصالة. كان مشرق المزاج، في السابعة والخمسين من عمره، (ولد في مدينة تبريز عام 1930) لعائلة أذرية ثم انتقل إلى قُم. متوسط القامة يميل إلى النحافة يرتدي عباءة ويعتمر عمامة بيضاء، بوجنتين عريضتين ولحية غزاها الشيب وبنية متينة، مورّد الخدّين ويلبس عوينات طبية وينتعل نعالاً من الجلد لونه بني غامق.
ابتسم مرحّباً بالفارسية (خوش آمديد- أهلا وسلاً)، مد يده وصافحنا، وقال إنه يفضّل التحدث معي باللغة العربية، ثم ارتمى جالساً على المقعد الذي يتصدر الصالة، وقبل أن يستقر في مقعده، شملني بنظرة سريعة وهو يحرك ذراعيه وانبرى يسألني بالعربية الفصحى: هل حضرتكم عراقي؟
قلت: نعم عراقي أباً عن جد.
قال مبتسماً: إذن نحن نتحارب الآن؟
قلت: الشعوب لا تتحارب، الأنظمة هي التي تتحارب.
قال: لم نرد الحرب، فقد كانت جمهوريتنا فتية، لكن المجنون (يقصد صدام حسين) هو الذي هاجمنا وتوقع انتصاراً سريعاً وحرباً سهلة.
وران عليه الصمت، ثم استطرد قائلا: ومن سينتصر فيها؟
قلت: في الحرب ليس هناك غالب ومغلوب، الكل يخسر. لكن الإمام الخميني قال: “إن شجرة الإسلام تزهر بدماء الشباب”.
لاذ بالصمت هنيهة، ثم أردف قائلا: كيف ترى حركة النشر والترجمة في إيران؟
قلت: حركة الترجمة والنشر نشطة في إيران، لكنني أتمنى أن تنفتحوا على ثقافات وآداب الشعوب الأخرى، خاصة الثقافة العربية.
قال: إن الدولة تصرف أموالا طائلة على ترجمة الكتب الإسلامية وشحنها إلى دول الجوار.
كان الشيخ يعني أنهم يصدّرون أفكار الثورة الإسلامية. إذ إن مصطلح تصدير الثورة ظهر في إيران بعد انتصار الثورة الإسلامية، التي قادها الخميني، والذي كان يراد منه القيام بثورات مشابهة في الدول المجاورة والبعيدة. وكانت حركة ترجمة الكتب الدينية وكتب الفلسفة الإسلامية من اللغة الفارسية إلى العربية في أوجّها، وتعمل دور النشر ليل نهار لترجمتها وطبعها وشحنها إلى دول الجوار.
قلت: “هل تعتقدون أن الذين يعملون على تصدير الثورة يلتزمون بما قاله الإمام الخميني: ” لا يعني تصدير الثورة، أن نتدخل في شؤون الدول الأخرى. ولكن بالإجابة عن أسئلتهم بشأن معرفة الله”؟.”
وجم للحظة، ثم ابتسم ولم يجب.
آثرتُ ألا أخوض معه بنقاش بيزنطي في المواضيع السياسية الملتهبة وعلى رأسها الحرب العراقية الإيرانية المشتعلة بين بلدينا. ووجدته وكأنه قرأ أفكاري عندما غيّر موضوع النقاش، ليسألني وهو يشير إلى مكتبته: هل ألقيت نظرة على مكتبتي؟
قلتُ: نعم وهي مرتبة بشكل جميل وعامرة بالكتب.
بعد لحظات أردف قائلاً: أريد منك أن تبدأ بترجمة الكتب التي سأرسل عنوانيها الى دار النشر، وأتمنى أن تترجم أغلبها.
كنت في حيرة من أمري وأنا أستمع إليه، إذ إن ترجمة كتبه ستأخذ مني أعواماً طويلة، وأنا بصدد انتهاز أقرب فرصة للخروج من إيران التي دخلتها قادماً من الجبل، بورقة عدم تعرض انتهى مفعولها منذ زمن طويل.
قلتُ: سوف أحاول جهدي، لكنني أعمل الآن مترجماً مستقلاً في أكثر من دار نشر ومؤسسة.
قال: إن شاء الله.
بعد لقاء دام أكثر من أربعين دقيقة، تحدث فيه الشيخ عن برامجه وانشغالاته في الكتابة والبحث والتدريس لدرجة أنه لا يجد متسعاً من الوقت لعائلته وعلاقاته الاجتماعية، وثبَ من مقعده واستوى قائماً على قدميه، وقال بالفارسية: خيلي ممنون. خوشحال شدم. وتعني بالعربية: شكراً جزيلاً، سعدتُ كثيرا.
عند مغادرتنا، كانت الشمس الساطعة قد غادرت فناء المنزل وسقطت على الجدار الإسمنتي. رافقنا الشيخ إلى باحة المنزل. صافحته وشكرته على فرصة اللقاء. وعلى عتبة الدار، وجدته قد عقد يديه خلف ظهره، وهو يلوّح لنا بيده اليمنى مبتسماً.
استقللنا السيارة وانطلقت بنا إلى وسط مدينة قُم. بدت لي أقل زحاماً وصخباً من ساعة وصولنا إليها في ذلك الصباح. ومن دكان صغير على قارعة الطريق اشتريتُ ثلاث علب من الساهون، وقفلنا راجعين إلى طهران.
في الطريق سألني المرافق عن رأيي في اللقاء، وعن الحديث الذي دار بيني وبين الشيخ جعفر السبحاني، لأنه لم يفهم شيئاً من مجريات الحديث، وهو لا يعرف اللغة العربية.
وعندما أخبرته بإيجاز عن الحديث الذي دار بيننا، وأن الشيخ السبحاني طلب مني أن أقوم بترجمة كتبه وهي كثيرة، قال: لاحظتُ ارتياحه للقاء وكنتُ أتوقع أن يطلب منك ذلك.