23 ديسمبر، 2024 8:38 ص

لغة المزيفات العقائدية

لغة المزيفات العقائدية

توطئة
كل شكل من أشكال الكتابة هو موقف من العالم وطريقة في النظر إليه والاقتراب منه مهما كان الموضوع الذي يتعامل معه الكاتب ولهذا علينا أن لا نهمل انفعالية الكتابة أو الوعي الذي ينتجها سواء كانت موضوعية أم غير موضوعية فإنها في كل الاحوال تتحقق ضمن آلية معينة للشكل المعرفي الذي هو ترجمان الضمير الفردي المفصح عن الأغراض التي بدورها تُركز على حرية الفرد بالاعتقاد والتفكير والتعبير، بالإضافة إلى إن الكتابة أمانة مثلما الكاتب مؤتمن والفكر في مثل هذه الاحوال هو الثروة الأساسية التي تتركها الأمم المتحضرة، وهذه الأخيرة تنهض بالفكر وبه تنهار مثلما تبدأ معالم أي نهضة جديدة بالفكر لتزداد عمقاً، ذاك لان حاجات الإنسان المعرفية أو الحضارية لا تنتهي والفكر النقدي المغاير مكلف بإيجاد حلول لكل المشاكل التي يتعرض لها الإنسان المعاصر في عالمنا المتشابك، ولكي لا تبقى العلة تدور مع المعلول وجوداً أو عدماً لأن القياس المعرفي كما يبدو لي هو القراءة النقدية الفاحصة للاشياء التي لا تأخذ القدسية بطريقة صنمية كي تعطي الانطباعات المعاصرة التي يعيش البشر أحداثها وتفاصيلها ومفارقاتها بمعرفة تستوعب الدلالات البنيوية حسب الاشتراطات الثقافية الخاضعة لأسس الفهم والإدراك والنقد خاصة لأصول الفكر المعرفي من حيث الزمان والمكان ولكي لا نحنف الفكر الحر أو الكتابة بالطريقة الاستهلاكية التي تجعلنا نصطدم بالواقع الذي فيه الكثير من النوايا الطيبة التي لا تستطيع أن تُخفي الحقائق المرّة من هنا نتساءل: هل تستطيع الكتابة المغايرة أن تكون ترجمان الضمير الفردي وتبتعد عن لغة المزيفات العقائدية؟
1
اللغة المتداولة في عراق قادة الحروب الطائفية الفاصلة تلقينية متخلخلة يخترقها العاطلون عن الحياة ويكثروا فيها المزيفات العقائدية والتلغيزية كمحاولة مقصودة لتعطيل عنصر التلقائية أو البداهة وإحلال عنصر الكراهية عنوة كنظام جديد للسيطرة على انفعالية البشر بين بعضهم البعض .
الطائفية منظومة فاقدي المواهب الأخلاقية في التعامل المعرفي والسياسي والاجتماعي والثقافي الحر، وبوصفها أيضاً، مؤثث هندسي للخراب وكل محاولات التجريد المتداولة المتصلة مع الادوات الاستعلائية ذات الصبغة الدينية أو الايديولوجية المصطنعة التي تُظهر الجهل كفعل حسي متداول لا يقبل الاستثناء إلى الحد الذي يجرف معه الملايين من البشر إلى حفلات الموت التنكرية المقامة على شرف الطائفية في عراق دولة العقائد المغلقة أو العمائم القادمة من كهوف التاريخ المعتمة، فالطائفية في عرف هؤلاء تكمن في الدعوة للحرب (المقدسة) والاختزال الذي بدوره يتجاوز عناء الانتظار الممل للموت، هكذا اذن تتم عملية تشويش الطمأنينة . لماذا يتمادى علينا أصحاب المزاج السادي بتنظيراتهم الطائفية المقيتة؟ يبدو أن عملية هدم الاوثان في مكة لن يُنهي حركية التناسل للاوثان المتموضعة أو الموغلة عميقاً في الذهن المعاصر وبهذه الحالة بقيت عمليات التخريب المنظم والتجريب العبثي للنظم الطائفية السائدة المتمثلة بالنظرة الضيقة لمسميات كالعفوية، الاخلاق، المعرفة والبديهيات الاخرى قائمة على قدم وساق حتى توسعت الهوة وترسخت التناقضات ليبدأ الانكفاء الروحي من جديد بين البشر .
أما آن الاوان للموت أن يتقاعد من أرض السواد، أما حان الوقت للاموات أن يتظاهروا من جديد، من هنا نحن نرفض الحرب أو النظم الطائفية، فقد اورثتنا شتى المفاسد، متى ننتهي من حلقة العرافيين الجدد وواضعي الخطط الحربية لا سيما المعاصرون منهم كي تتوقف عملية استدراج الخراف إلى المذبحة، أيها الطائفي المفتون بالانفلات الغرائزي، من يريد ترويض الخراف لا يحتاج لدهاء الثعلب، ثمة كتبة (كبار) يعملون ويكتبون وينظرون وينامون ويحلمون ويتشاجرون ويمتعضون ويدخرون الاحاجي ليوم لا تنفع فيه كما يتوهمون سوى الطلقة (الكاتمة) ويتناسلون كالقطط ويشيرون للخراب بنفس السياق والموازاة اسوة بأخوة النسف والتدمير والتطفل والجهل . هذه هي المنظومة الجديدة وهي شبيهة بكل منظومات الاحزاب التوتاليتارية العتيدة، فهل هو الاخاء الازلي بين الطائفي والطائفية .
2
أين سنهرب هذه المرة؟ يوم هربنا أول مرة من العقائديين والجلادين وتركنا أهلنا يئنون تحت سطوة الخوف والترقب واليأس بدأت تتلقفنا المنافي وتتلاعب بنا الاقدار، أما اليوم فالدهماء وجمهوريات الخوف المتناسلة ماثلة أمامنا وعليه لابدّ من الحرب لطرد الوهم ولكن، علينا أن نطرد أوهامنا أولاً كي يتسنى لنا قبول أوهامهم اللامعة، أنحتاج لسردية جديدة كي يقبلنا العالم مرة أخرى كمشردين؟ أي أقدار تلك التي يرسمها لنا ذلك العقائدي الجديد المرهون بطائفيته والمأخوذ بنشوة الحرب التي لم يعرفها إلا من خلال شاشات التلفزة، لعل التنقيب في هذا السؤال المرير سيقودنا مرغمين إلى اضطرارية الموت من جديد لتسموعقائده المنتحلة لعذاباته الطائفية وثقافته التظلمية المتصلة بسيماء وطبائع ثقافة الحرب (المقدسة) كتميمة ماحقة لكل شكل من أشكال التنوير والمعرفة . هذه هي فكرة الاستحواذ العنصري والخطف العلني للضوء لمن يريد استبدال أمة بطائفة تخلق أمة (مفترضة) يتوهمها ويحدد شكلها القادم بمزاجية تعيد لنا صورة أبشع نماذج القهر في العصر الحديث لتؤسس لنا فكراً ذي طابعاً هامشياً يقضي على المقدمات ليزيد مساحة الخوف والموت والدم وما فيهما من نتائج تبادلية تُحصن العنف وتعيد ثقافة السحل والذبح والانتقام، هذا هو المعقول بعرف الادلاء أو دعاة الحرب الطائفية حين يصبح السلم ضرباً من الخيال والداعي للسلام عرافاً .
3
لا أحب الاستطراد إلا مرغماً فقد قالت الاعراب: (خير الكلام ما قل ودل) ولا أنوي التعليق على (أسلوب عند كاتب ما) أو (كاتب في أسلوب ما) لانني لا أريد للمماحكات الطائشة أن تستدرجني وبهذا تتعطل الحواس فبدونها أصاب بالجزع إلى الحد الذي يفقدني الصواب، كم مخجل أن تكون مخلوقاً كثير الهفوات أو طائفياً أو دليلاً؟ ثمة استعادة جبرية لمؤسسات العقائد والطوائف وكأننا نعود إلى العصور الحجرية . العراقيون مضطرون لصنع موتهم الجديد، العراق حوض من الدم لا يجف، التاريخ العراقي الدموي طغى على براءة وسماحة الجغرافيا . العراقيون لم يرثوا العدل من مسلة حمورابي إنما ورثوا القوة والبطش كأداة إكراه وقسر عند الثقفي الحجاج، الموت العراقي يكمن في اليقظة، الحياة في العراق تكمن في الحلم والحلم غير الرؤيا والفرق بين رؤيا وأخرى كبير جداً كالفرق بين الدعوة للحياة والتحريض للموت، هذا البلد الذي عشنا معه وبكينا على أحزانه التي هي أحزاننا، علينا أن نضبط ايقاع ضمائرنا وعقولنا ولغتنا لا أن ندوزن إيقاعات الحروب الطائفية ونغماتها التدميرية ولغتها التعبوية كي نغني لها، ففي عيون أمهاتنا من الدموع التي ذرفت كافية للاعلان عن مجئ الطوفان ولكنه طوفان بلا سفينة نجاة هذه المرة وبلا نوح جديد، فاعذروا كلماتي فموسم الهجرة إلى الصمت قادم وسيكون لهذه الكلمات آخر عهد لها لمقارعة ذلك الاخاء الازلي الفاعل في تلك العقول الطائفية والمناطقية والعقائدية الباحثة بفارغ الصبر عن نصر واهم وممنهج بطريقة إجبارية داهمة لكل الاشتراطات الفكرية التي تدعو إلى الحرية والحياة والجمال، لعل هذا الطوفان الطائفي القادم بحاجة إلى المزيد من الدموع، إذ ثمة أوسمة جديدة لمحترفي الحرب أو المحاربين الجدد الذين أحزن على عقولهم، كما يحزنني جداً أن أكون واضحاً لانني كنت فيما مضى أحمي غموضي بأن أقوم بتعذيب نفسي بالصمت كحرفة تعلمت عليها من حجم الهفوات التي أصابتني طوال هذا العمر المبدد بين الاحلام والاوهام ومع هذا تبقى الكآبة أقرب إلى نفسي من الاوهام السعيدة الكاذبة التي يبشر بها البعض ولذلك سوف لن نجد الطرق المؤدية إلى مدننا سالكة بالمودة وعليه ستتضاعف الكراهية لان جميع الطرق في العراق ستؤدي إلى الحرب الطائفية، وبدلاً من القيام بمشاريع مكافحة الامية الجديدة بكل أشكالها سننشغل مجدداً بالتعبئة الحربية القادمة وسيبقى الموت منتظراً على قارعة الطريق .