22 ديسمبر، 2024 3:09 م

لغةُ المرآيا ( تجريديّة – تعبيريّة – بوليفونية ) الفسيفسائيّة

لغةُ المرآيا ( تجريديّة – تعبيريّة – بوليفونية ) الفسيفسائيّة

1- قصيدة : متى يكتحلُ الشعورُ بلمسةِ أملٍ ..؟ – بقلم : سامية خليفة – لبنان .

2- صوتي معي لمْ يزل يبحثُ عنّي – بقلم : ثائر العلوي – العراق .

3- إضرام النصّ – بقلم : عائشة احمد بازامة – ليبيا .

4- تراتيل في حضرة الغياب – بقلم : أحلام البياتي – العراق .

 

ما هي لغة المرآيا , وما هي اللغة التجريديّة , وما هي اللغة التعبيريّة , وما هي اللغة البوليفونية ..؟؟ .

يتعين على الشاعر أن يستحثّ الحالة الذهنية الملائمة لدى المتلقي , ثم يتعيّن من أنّ قصيدته مغذّاة بالكثير من الدهشة , وقابلة للتأمّل والتأويل والأنفتاح على تعدد القراءات , فالشاعر هو جامع صوره الشعرية وخياله وأنفعالاته , وعليه أن يقوم بصنع قصيدته بعناية فائقة , لأنّه على دراية بمضمون قصيدته . انّ فكرة العمل العظيم هي دائماً ملتبسة , دائماً ذات وجهين على حدّ تعبير ( توماس مان ) , أنّها متعددة الأوجه وغامضة وغير محددة كما الحياة نفسها , المبدع بالتالي لا يستطيع ان يفترض بأنّ عمله يمكن ان يكون مفهوماً بطريقة معينة , ووفقاً لأدراكه هو للعمل , كل ما يستطيع فعله هو أن يقدّم صورته الخاصة للعالم الى الآخرين لكي يكونوا قادرين على النظر إليها من خلال عينيه وأن يكونوا ممتلئين بمشاعره وشكوكه وافكاره . عندما تحقق عملاً إبداعياً فمن الطبيعي أن تكون واثقاً من أن الأمور التي تثيرك وتهمّك سوف تكون أيضاً ذات أهمية بالنسبة للآخرين , فالحياة لا تمنحنا جميعاً الفرص ذاتها لتطوير مداركنا الجمالية , فهناك الكثير ممن يقول : أنّ الناس لن تفهم هكذا قصائد .. مالذي يعنيه هذا , مَنْ يستطيع ان يزعم بأنّه يعكس رأي المتلقي , ويصدر التصريحات والآراء نيابة عن الآخرين معناً أنّه يعبّر عن وجهة نظر أغلبية المتلقين .. ؟؟!! . مَنْ يستطيع ان يعرف ما سوف يفهمه الناس وما لا يفهمونه .. ؟؟!! . ما يحتاجونه وما يريدونه ..؟؟!! . هل قام احد ما في ايّ وقت مضى بعمل إستبيان أو مسح أو قام بادنى محاولة وفق ما يمليه الضمير , لأكتشاف أهتمامات الناس الحقيقية , طريقتهم في التفكير , توقعاتهم , آمالهم , أو حتى خيبات آمالهم .. ؟؟! . اذا حاولت ان ترضي الجمهور وتلبّي على نحو غير نقدي ما تفرضه ميولهم واذواقهم , فأنّ هذا يعني شيئاً واحداً هو : أنّك لا تكنّ أحتراماً لهم . النصّ الأدبي يعتمد على تجربة القارىء العاطفية والروحية والفكرية وذائقته مثلما يفعل كلّ شكل فني , والأمر المثير للأهتمام بشأن الأدب هو أنّه مهما كانت دقّة التفاصيل التي يضعها الكاتب في كلّ سطر , فأنّ القارىء سوف يظلّ ( يقرأ ) و ( يرى ) فقط ما هيّأته له تجربته الخاصة وصاغته شخصيته , نظراً لأنّ هذه هي التي شكّلت الميول والخصوصيات والحساسيات في الذائقة التي اصبحت جزءاً منه , حتى المقاطع المفصليّة والأكثر طبيعية في النصّ لا تبقى ضمن سيطرة وتحكم الكاتب , كل ما يحدث سوف يدركه ويعيه القارىء على نحو ذاتي . بواسطة الكلمات تصف القصيدة حدث ما , عالماً داخلياً , وواقعاً ظاهرياً , يرغب الشاعر في إعادة أنتاجه وتصويره على الورق , ويترك القارىء ذو المخيلة النشطة , الحيّة , ان يرى ما هو أبعد من الوصف الموجز , وأبعد من تصوير الشاعر نفسه . هناك جماعات من الناس تتوجّه الى الأدب بصورة عامة والشعر بصورة خاصة من أجل التسلية فقط , في حين يبحث آخرون عن حوار فكري , لماذا يقبل البعض كل ما هو سطحي وجميل ظاهرياً كشيء حقيقي مع انّه سوقي ورديء ومبتذل وفظّ , بينما هناك آخرون مؤهلون لتلقي التجربة الجمالية على نحو حقيقي ..؟؟!!! . وبعد , فأنّنا حينما نصرّ وندعو الى كتابة القصيدة السرديّة التعبيريّة , فأننا مؤمنون بأنّها ستلغي الصمم الجمالي الذي أبتلي به المتلقي نتيجة أجترار كل ما يفسد الذائقة الجمالية , أنّنا نؤمن إيماناً راسخاً بعظمة هذه القصيدة , وبأنّها ستكون قصيدة المستقبل , فهي القصيدة التي تتجّلى فيها عظمة وجمالية اللغة . انّ الأعمال الزائفة التي تخلو من المعنى قادرة على ان تقوم بممارسة التأثير السحري على المتلقي اللاواعي , غير المثقف والذي يمتلك قدرات نقدية , بينما الأعمال الفذّة بمقدورها تحريك مشاعر المتلقي وبثّ روح التفاعل الأيجابي الأبداعي لديه , كذلك تفعل القصيدة السرديّة التعبيرية عند المتلقي الواعي .

والان نعود لنجيب عن الأسئلة التي بدأنا بها مقالنا هذا . أنّ اللغة التجريديّة : هي اللغة التي نستخدمها في نقل الأحاسيس والمشاعر , فتتخلّى الألفاظ عن وظيفة نقل المعنى الى نقل الأحاسيس المصاحبة له كمركز للتعبير , ففيها يرى القارىء هذه الأحاسيس والمشاعر المنقولة أكثر مما يرى المعنى . اما اللغة التعبريّة : فهي اللغة البلّوريّة التي من خلالها نرى ونشاهد اعماق الشاعر بوضوح أكثر . اما اللغة البوليفونية : فهي اللغة التي تعتمد على السرد وتعدد الأحداث والشخوص , وتكون هذه الكتابة فيها على مستويين : المستوى البنائي , والمستوى القصدي . اما ما نعنيه بلغة المرآيا : فهي طرح الفكرة ذاتها بتراكيب لفظية مختلفة , فيمكن ان نقول أننا نظرنا للشيء الواحد من زوايا متعددة , ولو نظرنا الى هذه التراكيب فيما بينها فأنّا سنراها تركيبة فسيفسائيّة .

انّ ما نقوم به وسنقوم ما هو الاّ لترسيخ وإنضاج وتوسيع فكرة ومفاهيم ومعنى القصيدة السرديّة ( المستقبليّة ) , ونريد ان نبيّن تجلياتها وعظمتها من خلال ما يكتبه شعراءها وشواعرها في ( مجموعة السرديّة التعبيريّة ) والتي هي النواة الحقيقية والرافد الرئيسي والوحيد لها في هذا الزمن . اليوم وحسبما اعلن عن مسابقة لكتابة قصيدة سرديّة تعبريّة نموذجيّة تنتمي الى لغة المرآيا بشرط ان تتكون من ثلاثة مقاطع نصيّة , المقطع الأول يُكتب بلغة تجريديّة , والمقطع الثاني يُكتب بلغة تعبيريّة , والمقطع الثالث يُكتب بلغة بوليفونيّة . وقد فازت هذه القصائد كونها تمتاز بما أعلنا عنه , وسنقوم بقراءتها والاشارة الى جمالياتها .

لقد وجدنا ومن خلال هذه المسابقة وجود أربعة قصائد سرديّة تعبيريّة تمتاز وقريبة جدا من شروطها , وسنتحدث عن كلّ مقطع من مقاطع هذه القصائد على حدى , لتبيان ملامح اللغة ( المرآيا – التجرديّة – التعبيريّة – البوليفونية ) .

أولاً : اللغة التجريديّة وكما في :

1 – متى يكتحلُ الشُّعورُ بلمسةِ أملٍ ؟ – للشاعرة : سامية خليفة .

الأماني أيقظتِ الخمودَ النّائمَ لتضجَّ براكينُ قلبي بالأمل لتكونَ الحممُ دموع فرح يا لَتلكَ القبلاتِ المستعرةِ المكبوتةِ كيفَ أطلقتها وأحرقت بهاِ المُحرَّم نشيجهاُ هديرُهُ لا يكفُّ كالتنّين يأتي منَ الفوهةِ ليدحر يأسا جاثما فوق صدري يأس أرخى قدميْهِ للرّيحِ وابتعد هو الأمل بذراعيه الجبارتين صهره وأذابه.

أنّنا نستخدم اللغة من أجل إيصال معنى معين واضح ومفهوم للمتلقي , فاللغة هي أداة توصيلية نستخدمها في القصيدة الأعتيادية لهذا الغرض , أما اللغة التجريديّة فهي اللغة التي تتخلّى عن مفهوم التوصيلية ونقل المعنى الواضح إلى المتلقي , اذاً فالقصيدة التعبيريّة هي القصيدة التي تكون مشحونة بزخم شعوري عنيف وأحساس عميق وبطاقات تعبيريّة وعمق فكري والنفوذ في الوعي , ففيها لا ترى الشخوص والأشكال , وإنّما نرى المشاعر وهي تتجلّى والأحاسيس المرهفة التي تقوم هذه اللغة بنقلها للمتلقي . فهنا نرى الأماني واضحة تضجّ بهذا الزخم الشعوري المنبعث من القلب , بينما نرى أن الشاعرة خلقت لنا صوراً حسّية غريبة وغير مألوفة في هذا المقطع النصّي , فالححم دومع فرح , والقبلات مستعرة مكبوتة , واليأس جاثم فوق الصدر وقد ارخى قدميه للريح , فهنا نرى صوراً للمشاعر والأحاسيس تتحرك ضمن هذا النسيج الشعري المتماسك والفريد . فنقأ هنا مثلاً / الأماني أيقظتِ الخمودَ النّائمَ لتضجَّ براكينُ قلبي بالأمل لتكونَ الحممُ دموع فرح يا لَتلكَ القبلاتِ المستعرةِ المكبوتةِ كيفَ أطلقتها وأحرقت بهاِ المُحرَّم / .

2- أما في قصيدة الشاعر : ثائر العلوي , فنجد اللغة التجريديّة مثمثلة في هذا المقطع الشعري الجميل :

صوتي معي لم يزل يبحث عني

في تجاويف الكلام وكلما تنحنح للمنح تتقطع السبل الفريدة عنه يتبعها بسدوده ويحيط أذرعها بحر تساؤل أرهقته مرارة عواصفه متناسيا كل طوابير الذين خلفوا آثار ألغازه دهشة ظن ترن في كهوفها وتمتهن التسلق خلف آكام بصيرة .

 

فاللغة هنا وفي هذا المقطع نجدها قد إبتعدت كثراً عن خاصيتها التوصيلية ومنطقيتها , فنحن أمام كتل شعوريّة حسّية , وكأنّها صوراً ملوّنة بالمشاعر والأحاسيس الرقيقة , فالمفردة هنا عبارة عن وحدة جمالية شعوريّة حسّية قد تخلّت عن خاصيتها التوصيلية المعرفية , فصوت الشاعر هنا يبحث عن الشاعر في تجاويف الكلام , فلقد استطاع الشاعر أن يجرّد لغته الشعريّة , والنفوذ عميقاً إلى جوهر الأشياء . أنّنا أمام صور مجرّدة المعنى ولكنها مشحونة بالمشاعر والأحاسيس , صورا تتحرك مشاعرها وعواطفها . فمثلاً نقرأ هنا / في تجاويف الكلام وكلما تنحنح للمنح تتقطع السبل الفريدة عنه يتبعها بسدوده ويحيط أذرعها بحر تساؤل أرهقته مرارة عواصفه / .

 

3 – اما في قصيدة الشاعرة : عائشة أحمد بازامة :

إضرام النص

حضور :آنسني حضوره المهيب في إشراقة يوم ليس كامل التكوين في محياه لكنه مكتمل الذهول كلجة موج التهمه اليم ساعات الفجر ليلقي به في سحنة الغروب على شواطيء محيط غربة التيه زمان العشق الرهيف سريع التفتح على ابواب جهنم يحاول الفكاك يحمل في قلبه باقة من جوعى الحب عاشقي اللهفة المجنونة لكنه يغرق تحت سماء مسافة العواء البعيد .

هنا نرى بأنّ اللغة تعتمد على ثقل الكلمات الشعوري وزخما الأحساسي وطاقتها التعبيريّة , لغة هذا المقطع النصّي التجريدي تصل إلى المتلقي قبل ان تصل إليه المعاني , فيدرك المتلقي هنا النظام الشعوري والأحساسي قبل التوصيلية , فهي لغة تعتمد على نقل الأحساس والشعور , فعلى سواحل هذا المقطع النصّي نجد الصور الرهيفة كيف تتفتح في قلب الذات الشاعرة , واللهفة المجنونة تغرق في عوالم العواء البعيد . فمثلاً نقرأ هنا / في سحنة الغروب على شواطيء محيط غربة التيه زمان العشق الرهيف سريع التفتح على ابواب جهنم / .

 

4 – اما في قصيدة الشاعرة : احلام البياتي :

تراتيل في حضرة الغياب

على كومة من قش، فاضت دقائق الوحشة البريئة المحملة نقاط ضعف النفس الأمارة بالحب، متداولة ذبول سكينة الروح الخارجة عن المألوف والضاربة في الطعن نتوءات صبار كرماح إسطورية تقذفها بقوة أهتزاز النخيل يوم الخماسين لتبرر لسيف الوقت ماللشوق المدفون في آخرصفحات الأرض الطاعنة في الخراب وبقوة ريختر الغاضب.

أما هنا في هذا المقطع النصّي , فنحن أمام صور ملوّنة بالمشاعر والعواطف , فالشاعرة أستطاعت أن تقتنص اللحظة الشعورية العميقة والقوية , فقراءة هذا المقطع نرى بوضوح تجلّيات هذه اللحظة الشعورية والثقل الأحساسي , فمثلاً نقرا / لتبرر لسيف الوقت ماللشوق المدفون في آخرصفحات الأرض الطاعنة في الخراب وبقوة ريختر الغاضب / .

 

فلابدّ أن يكون الشاعر رسّاماً حاذقاً حقيقياً مبدعاً كي يستطيع تلوين نسيجه الشعري بالكتل الحسّية والشعورية إذا ما أراد أن يكتب قصيدة تعبيريّة , وكلّ هذا الفضاء الواسع تمنحه القصيدة السرديّة التعبيريّ’ , فهي التي تمنح الشاعر أجنحة عديدة عن طريقها يحلّق عالياً وبعيداً في عوالم المشاعروالأحاسيس والعواطف المتاججة .

 

ثانياً : اللغة التعبيريّة وكما في :

1- المقطع النصّي الثاني من قصيدة الشاعرة : سامية خليفة :

/ ذلكَ اليأسُ المتقافزُ بحطامِه المتسربلُ رداءَ الهروبِ أتاك صاغرًا هو قرَّرَ الاختفاءَ أتى يودِّعُكَ أنتَ أيُّها الهاربُ المتلفِّعُ بالشُّكوكِ تلكَ الخيوطُ الذهبية المشعة منْ نسيجٍ حاكتْهُ الشَّمسُ اخترقَتْ نافذتَكَ لتهديَكَ دفءَ الأملِ لتقولَ لكَ عدْ إلى أحضانِ حبيبتِكَ هي تنتظرُ انعكاسَ نورِكَ على وجهِها فلا تخذلها / .

أنّ ما نعنيه باللغة التعبيريّة هي اللغة البلّورية الشفّافة والتي من خلالها نرى العوالم العميقة والبعيدة للذات الشاعرة , فهي التي تعبّر بوضوح عن مشاعر الذات الانسانية وعمّا يدور في داخلها واعماقها , وعن طريقها نستطيع ان نتلمّس ونشاهد تلك العوالم البعيدة للذات والتي لابدّ مِن أن تظهر على السطح وتستفزّ المتلقي , أنّها اللغة البعيدة جداً عن المباشرة والزاخرة بأنزياحاتها العظيمة . فنقرأ مثلاً / لتهديَكَ دفءَ الأملِ لتقولَ لكَ عدْ إلى أحضانِ حبيبتِكَ هي تنتظرُ انعكاسَ نورِكَ على وجهِها فلا تخذلها / .

2 – المقطع النصّي الثاني من قصيدة الشاعر : ثائر العلوي :

/ وأنت ترتقين طريقك كل حين كان قلبي هنالك مترقبا شغفا ينوء سبيا به وبأشواقه صدري و تلتفتين كأنك الشمس تشق حجاب الغمام وتبسمين وأبسم فيضحك الكون نشوانا / .

انّ الكتابة باللغة التعبريّة تحتاج إلى متلقي يمتلك حدساً وأحساساً ويقظة نشيطة , هذا الحدس يمكّن المتلقي من أكتشاف العوالم الداخلية والبعية عند الذات الشاعرة , ان اللغة التعبيريّة هي التعبير عن عن القيم المعنوية لدى الذات الشاعرة بدلاً عن محاكاة الواقع . فمثلاً نقرأ / وأنت ترتقين طريقك كل حين كان قلبي هنالك مترقبا شغفا ينوء سبيا به وبأشواقه صدري / .

 

3 – المقطع النصّي الثاني من قصيدة الشاعرة : عائشة احمد بازامة :

/ صرخة : تجوب ضجيج القلب عناء لقاء يتغلغل نحيبًا شوقًا آزفًا لرحيل المسافة القابضة على نياط قلب الغربة أبدية القطاف يتعمق صداها كبد سماء العطش النيء في ضفاف المستحيل تعلو أوداج قطرات دم السحاب النازف للتو يستميل العطاشى لإعلاء صوت الصراخ الملائكي لأول وهلة / .

. اللغة هنا تعبّر عمّا يدور ويتجلّى في داخل الذات الشاعرة , فهي الشراقات الذهتية والنفسية دون اللجوء الى الرومانسية والخيال , هي النعكاس لما يحدث في هذا العالم من الخراب والموت والظلم والطغيان ومدى تأثير كلّ هذا في نفس الذات الشاعرة . فمثلاً نقرأ / تجوب ضجيج القلب عناء لقاء يتغلغل نحيبًا شوقًا آزفًا لرحيل المسافة القابضة على نياط قلب الغربة أبدية القطاف يتعمق صداها / .

 

4 – المقطع النصّي الثاني من قصيدة الشاعرة : أحلام البياتي :

/ وك شرفة متروكة للخراب يداعب غبار الريح النازل بثورة سماوية، تخبر الكرسي الهزاز لحظة الفراغ عن تلك المتهدجة في الصحراء بأن انتظار هطول السحاب لا يأتي بعزف أنامل خشبية تدق روح الصمت فيقهقه المارد ببرود العجوز لقد فاتتك الريح محملة ببذور النماء ./ .

انّ اللغة التعبريّة تحاول أن تبثّ النشاط والحيوية في عقل الأنسان , فهي لا تنقل صور الواقع كما هو , وتسخير الخيال الخصب ورسم هذه المشاعر العميقة والأحاسيس , أنّ اللغة التعبيريّة هي غرابة اللغة وأنزياحاتها العظيمة بطريقة أبداعية محبّبة لدى الذات الشاعرة المازومة نفسيا وعاطفياً . فنقرا مثلاً / وك شرفة متروكة للخراب يداعب غبار الريح النازل بثورة سماوية / .

 

كلّما تزداد الأزمات تظهر القصيدة التعبيريّة عند شاعرها بعدما ينصهر الوجود في خياله واعماقه , أنّ الشاعر يحاول أن يفرغ حالات القلق واليأس والغربة من خلال قصيدته التعبيريّة , وكأنّه يقتطع جزءٍ من قلبه الرهيف المفعم بصدق المشاعر , فنرى بوضح عوالمه الدفينة والبعيدة .

ثالثاً : اللغة البوليفونية وكما في :

1 – المقطع الثالث من قصيدة الشاعرة : سامية خليفة

/ الأدوارُ ثابتة والمخرجُ هو الزَّمنُ سأبدل الأدوار ليحيا العالم بالأمل المتَّهم الآن يرتدي دورَ قاضٍ الضَّحكاتُ تختال ميساء فالغنج سيراقص ذبذباتها آه لو الزمن يبوح لي بسر الوقار فيها حينها سأشطب بلا تردد الأحكام العرفية من لائحة الأدوار لأسمع رنين تلك الضحكات ولأرسمَ على أنغامِها أناشيدَ الفرحِ / .

 

لا تتحقق اللغة البوليفونية في الشعر ما لم تكن اللغة التي يكتب بها لغة تعتمد على السرد , فعن طريق اللغة السرديّة التعبيريّة يتمكن الشاعر من أن يبثّ في نسيجه الشعري الأصوات المتعددة والشخوص النصيّة . انّ الشعر التصويري المعتمد على الصورة الشعرية والمجاز في التعبير و لا يسمح بتعدد الأصوات كونه لا يعتمد على السرد . فالبوليفونية تعتمد على بعدين , بُعد رؤيوي وبُعد أسلوبي , فتتحرر القصيدة من سلطة الشاعر , فتتعدد الرؤى والأفكار والايدلوجيات , وكذلك تعتمد على تعدد أساليب التعبير والشخوص , وقد قد تتعدد حتى الأجناس الأدبية في داخل القصيدة البوليفونية . هنا نرى أختفاء الشاعر وراء الشخصيات التي تتحدّث بشكل ديموقراطيّ دون سيطرته , فكل شخصية اتخذت لها دوراً معيناً في هذا النشيج الشعري , شخصيات متمثّلة بـ / المخرج / العالم / المتهم / القاضي / الضحكات / الغنج / الزمن / الرنين / والأناشيد . تركتها الشاعرة تتخذ موقفاً معينا بعيداً عن سلطتها .

 

2 – المقطع الثالث من قصيدة الشاعر : ثائر العلوي :

/ غادرته الفصول وهو يدندن ألحانها وسنا وصحوا وارتهانا حيثما تصاعد من عيون الحديد دخان الحروب أباحت الأرض أسرار عقم الأماني وهي تجلس وحيدة في حضن كون يدور بها في دروب لم يدر العابثون أو العابثات إلام وأين ستنتهي بهم و على رحابتها الآفاق تنغلق / .

 

هنا نجد بروز حدثيّة نصّية متحركة داخل النسيج الشعري , إضافة إلى تعدد الأصوات والرؤى , فنجد الشخصات النصّية متمثّلة بـ / الفصول / عيون الحديد / دخان الحروب / الأرض / كون يدور / الدروب / العابثون / العابثات / الآفاق . كلّ شخصية نجد وراءها سيلاً مِنَ الأحداث المبطّنة بتعدد الرؤى .

4 – المقطع الثالث من قصيدة الشاعرة : عائشة احمد بازامة :

/ عواء الروح : خواؤها النارالصراخالهدوءالعاصف تآلفت ثلاث حكايات تحفهم نطفة خواء ألتهمت النار ما لا تلتهمه عاصفة هادئة البوح زين الصراخ لوحة وجود سموات العبث الآزف للرحيل ترجلت الأرواح تغترف خطيئة المحيا والممات تاريخ يشير للساعة بالتوقف فالزمن يلتهم صرخات الحياة ليعلن البعث من جديد / .

 

وهنا نجد بروز تعبيرات نصّية أسلوبيّة كاشفة عن الرؤى والأفكار لدى الذات الشاعرة . نرى هنا عواء الروح / الصراخ /العاصفة / ثلاث حكايات / النار / البوح / سماوات العبث / الرحيل / الأرواح / تاريخ / الساعة / الزمن / الحياة / , كلّ مفردة من هذه المفردات هي عبارة عن صوت يكشف عن رؤية لدى الذات الشاعرة .

 

4 – المقطع الثالث من قصيدة الشاعرة : أحلام البياتي :

/ بصوت خافت غرد عصفور الحرية، مطر مطرمطر، سيأتي الرب حاملا بكفيه زغاليل الجنة يرتل بصوته الحنون ، هذا زرعي الذي كونته من حبي، تقاطرت عليه سهامكم ايها الأبالسة فستستيقظون على ريح صرصر أقض بها مضاجعكم وأحمل زرعي لأنثره بفردوسي لتغني لهم ملائكتي مرحى مرحى بأحباب الرب فلهم المجد و الكوثر / .

 

واخيراً نجد في هذا المقطع الشعري الجميل الأصوات وهي تتزاحم فيه , والشخوص النصيّة تتجلّى بوضوح , تكشف عن الرؤى والأفكار والحداث , لقد أختفى صوت الشاعرة وراء تعابيرها النصّية ومفرداتها , فلا نحسّ بسلطتها على شخصيات النصّ , ولا حتى بتوجيهها لهذه الشخوص النصّية , مستعينة بانزياحات اللغة وتشظّيها والأبتعاد عن معايرها اللغوية المعودة .

 

رابعاّ : لغة المرآيا والنصّ الفسيفسائي :

لو نظرنا بتمعن إلى هذه القصائد المتنوعة , فسنجدها تطرح فكرة واحدة , ولكن بتراكيب لفظية مختلفة , فمرّة تطرح نفس الفكرة / الموضوع / بلغة تجريدية , وأخرى بلغة تعبيريّة , واخرى بلغة بوليفونية , أي اننا لو نظرنا إلى هذه القصائد من عدّة زوايا متعددة , فأنّنا سنراها تراكيب تشبه الفسيفساء , مختلفة ومتنوعة , كلّ هذه التراكيب تتجه إلى فكرة واحدة تتمركّز حولها , متناسقة , متناغمة , عن طريق العمق التعبيري , فهي تتوحد فيما بينها مكوّنة موضوعاً واحداً محدداً , وهذا ما ندعوه بلغة المرآيا .