خلال السنوات الثمانية المنصرمة، أي في ظل حكومة العبادي وولاية المالكي الثانية، تم إشغال العراقيين بقضايا هامشية، وسياسات خلط الأوراق، وبث روح اليأس والتخبط والفوضى بين صفوفهم، وإرغامهم على الجلوس على أرصفة الإنتظار. وسمعنا الكثير من السياسيين، وبالذات الذين كانوا متوافقين فيما بينهم، ومازالوا متوافقين على تعزيز نفوذهم وتحقيق مآربهم الخاصة، وهم يعلقون فشلهم وإخفاقاتهم على شماعة التوافق والديمقراطية التوافقية، وعملوا جاهدين على الدفع ببراءتهم من الإنهيارات المروّعة في جميع مجرلات الحياة، وإستمروا على نهج كيل الإتهامات وحملات التشويه الإعلامي الإنفعالي دون الإلتفات الى مصائب إنعدام الثقة بينهم كسياسيين ينتمون الى حزب أو تيار واحد أو بينهم وبين القوى السياسية الأخرى أو حتى بين المكونات الرئيسية، ودون التعلم من المحن والفواجع الكثيرة التي كانت قابلة للتجاوز بأقل الخسائر المادية والبشرية.
دعوا الى الأغلبية ولعنوا وشتموا التوافقية وهم يعلمون أن التوافق والنظرية الديمقراطية التوافقية بشكلها العام، النموذج الأمثل للحكم في مجتمع متعدد يطبعه الانقسام المجتمعي والتباينات القومية والمذهبية والطائفية، ويعاني من ضعف وحدته الوطنية ومن هشاشة الاستقرار السياسي وعسر ديمومته، ناهيك عن تواتر موجات العنف الاجتماعي وما لديه من مشكلات. هاجموها دون التسليم بأن عملية تطبيقها، كأي عملية تطبيق أخرى، قد تترافق مع بعض النواقص والسلبيات، وقد لاتتلاءم (أحياناً) مع خصائص وسمات وبنى سياسية معينة. لعنوها لأنهم كانوا متأكيدن من أنها تمنعهم من الوصاية على الحكومة الجديدة وأخذ الجمل بما حمل، ولا تقبل على الإطلاق وصايتهم على أفكار ومعتقدات الآخرين، وبما فعلوه في الماضي القريب، وبما يريدون أن يفعلوه لاحقاً خارج فضاء المواطنة، ولاتقبل فرض إجتهاداتهم وممارساتهم المدمنة على تصنيف الأمور وفق منطلقات نظرية لايمكن تطبيقها على أرض الواقع، ومصادرة حقوق الآخرين في المساهمة في تمشية أمور البلاد.
خلال الحملات الإنتخابية البرلمانية التي جرت في آيار الماضي، نسوا معاناة العراقيين جراء العناد الأجوف لبعضهم، فأعادوا موضة الهجوم على التوافقية الى الواجهة من خلال وسائل الإعلام وثنايا التصريحات التي كانت تصدر لغايات مختلفة، والبيانات المتناغمة مع الإملاءات الشخصية والحزبية والمناورات التي كانت تطبخ في الكواليس.
بعد إجراء الإنتخابات وإعلان النتائج وعقد العشرات أو المئات من الإجتماعات، ومن أجل تفادي الفراغ الدستوري، عادوا الى التوافقية. وإتفقوا، وقلوبهم شتى، على عادل عبد المهدي لتكليفه بتشكيل حكومة وفاقية، بعضهم، وبالذات الذين يمتلكون التحصينات التي تعزز مواضعهم، قبلوا به لإدارة جلسات مجلس الوزراء، دون أن يتصرف بالصلاحيات الدستورية التي يسمح له هذا الموقع بممارستها، ويتحكم به وزرائهم الذين يتم تمريرهم بأسماء مختلفة. ولم يعلموا أن عبدالمهدي لا يقبل تقييد صلاحياته ووضع اليد على حكومته، ولا يقبل البقاء في السلطة على غرار بقاء فؤاد معصوم في رئاسة الجمهورية وسليم الجبوري في رئاسة البرلمان خلال السنوات الأربعة الماضية، لأن لديه نظرة مختلفة لما عند الكثيرين ويمتلك شخصية مستقلة، ويرفض تعميق الجروح التي يعاني منها العراق بكلّ قومياته وطوائفه وجعله أسيراً لدى هذا السفير أو ذاك.
ومن هذا المنطلق، ولتبسيط الأمور ولو قليلا، ومن أجل فهم الوضع العراقي وأسباب تعقيداته، بما في ذلك صعوبة تكملة تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة عادل عبد المهدي، ومنعه من التقاط أنفاسه، يمكن وصف الذين هاجموا الديمقراطية التوافقية، وحسبوها سبباً لكل شاردة وواردة سلبية في الحياة العراقية، وحملوها مسؤولية الذئب عن دم يوسف، بأناس يمقتون الديمقراطية بكل صيغها وتطبيقاتها. ولا همَّ لهم غير كشف عثراتها وتضخيمها وتشويه منجزاتها. وأن عادل عبد المهدي ( وهذا ليس دفاع عنه) والجزء المتشكل من حكومته، حتى الآن، بريء من الأزمات لأنها دخيلة عليه. وإنه سيقاوم كلّ الأزمات السياسية والدستورية والإقتصادية التي يعاني منها البلاد، وأنه يعرف الفارق الضخم بين وجود حكومة معقولة، أو حتى شبه معقولة، وبين حصول الفراغ الدستوري والقانوني. ويعرف عدم وجود طرف سياسي يستطيع تحمّل النتائج التي يمكن أن تترتب على الدخول في الفراغ، أو إدخال البلاد في نفق لا أفق فيه.