18 ديسمبر، 2024 6:57 م

لعنة الذهب الاسود – 31 – ألخاتمة

لعنة الذهب الاسود – 31 – ألخاتمة

بعد أن وصلنا بسيارتي إلى مسافة قريبة من طريق تكريت لم أستطع إختراق الأرض الحرام لإشتداد القصف الجوي والإشتباك بين الطرفين المتقاتلين فعدلت عن عزمي وأيقنت بأنّ الموقف هناك محفوف بالمخاطر لذلك قفلت راجعا وتوجهت نحو دار شقيقي أردال وقد قررت في تلك اللحظة محاولة الخروج من المدينة سيرا على الأقدام نحو الطريق الذي يؤدي إلى مدينة تكريت في صبيحة اليوم التالي.

وصلنا إلى دار شقيقي والقصف المدفعي والجوي يزداد عنفوانه وحمم النيران تتساقط على جميع أجزاء المدينة بلا رحمة.

أخبرني شقيقي بأنّ شقيقتي آيسل عرجت إليه بسيارتها للإستئناس برأيه حول قرارهم الرحيل بإتجاه مدينة أربيل وبأنّه لم يؤيد هذه الفكرة لذلك أسرعت بسيارتي إلى دار زوجة شقيقي الراحل يلماز لأمنعهم من الإقدام على هذه الخطوة الغير الحكيمة فالمأساة التي ستحدث في مدينة كركوك ستتكرر في أربيل والسليمانية وبعنف أشد لكون غالبية سكان هاتين المدينتين من الأكراد ألذين تمردوا على حكم حزب البعث العربي الإشتراكي بقيادة الرئيس صدام حسين.

حين وصولي إلى الدار لم أجد فيه غير العجوز رؤوف والد زوجة شقيقي وأعلمني بأنّ جميع من في الدار ذهبوا إلى دار أبن خالتي فيصل وذلك للسفر معهم إلى مدينة أربيل.

قدت سيارتي بسرعة نحو دار أبن خالتي لأنّ دقائق قليلة وربما لحظات معدودة ستحدد مصيرهم، ووصلت إلى الهدف في اللحظة المناسبة فالحقائب كانت محزومة ومشدودة إلى سقف السيارات وقافلة الضياع كانت على وشك الحركة نحو المجهول.

بعد الحديث مع المجموعة أستطعت إقناعهم بالعدول عن قرارهم وأخبرتهم بعزمي الخروج من المدينة سيرا على الأقدام من المنفذ ألذي كنت أعرفه في حي واحد حزيران، وقد وافق الجميع على الإنضمام إلى قافلة الغد فيما عدا أبن خالتي وعائلته فقد كانوا عازمين على الخروج بإتجاه مدينة أربيل ليس من مدينة الذهب الأسود فقط بل من العراق.

إنّ بعض النماذج الإنسانية أثناء تلك اللحظات العصيبة وبعد معايشة مثل هذه المآسي لا تأبه بأي رابطة تربطه بالوطن فغريزة البقاء أقوى من كل رابط والنداء الوحيد ألذي تسمعه في تلك اللحظات الأليمة هو الخلاص من هذا الجحيم الذي خلقه بنو البشر في الأرض.

قضينا تلك الليلة مسهدين وكانت قذائف المدفعية تمزق سكون الليل بين فينة وأخرى، وفي صبيحة اليوم التالي دب النشاط في أوصالنا وتحركت قافلتنا المكونة من عشرين فردا معظمهم من النساء والأطفال بقيادتي سيرا على الأقدام صوب الطريق الرئيسي ألذي يؤدي إلى مدينة تكريت مخترقين الأحياء بإتجاه منفذ النجاة اليتيم في حي واحد حزيران.

قبل مغادرتي دار شقيقي أردال أخفقت جميع محاولاتي لإقناعه بالإنضمام إلى قافلتنا مع عائلته فقد أخبرني بأنّه لا يستطيع السير هذه المسافة الطويلة لأنّ صحته لا تسمح بذلك فقد كان كاحله ملتويا نتيجة لحادث، لذلك تركت سيارتي في مرأب داره وسلمته المفاتيح ليستعين بها إذا أراد الخروج إلى ضواحي المدينة عند بدء الهجوم المرتقب للحرس الجمهوري والجيش العراقي.

قبل الوصول إلى حي واحد حزيران لاحظت بأننا لم نكن القافلة الوحيدة في تلك الأنحاء فالمئات من العوائل كانت تحث الخطى قادمة من عدة إتجاهات نحو الهدف كأننا جداول مياه تشق طريقها لتصب إلى النهر الكبير ألذي يتجه بدوره بفعل جاذبية الأرض نحو المصب الآمن.

بعد مسيرة ساعتين وفي حوالي الساعة العاشرة صباحا عبرنا خط السكة الحديدية والفتحة العتيدة في السياج المحاذي لها بدون حادث سوى بعض الطلقات النارية الطائشة التي مرت فوق رؤوسنا.

رحب بنا الجنود والضباط بعد وصولنا إلى الطريق الرئيسي الذي يتجه نحو مدينة تكريت مدينة الرئيس صدام حسين.

فور وصولنا إلى مقربة قطعات الجيش بدلت ملابسي المدنية بملابس عسكرية التي كنت قد أخفيتها في إحدى الأكياس لأتمكن من الحصول على سيارة لنقل مجموعتي إلى العاصمة بغداد.

بعد فترة من الإنتظار بجانب الطريق قدمت شاحنة عسكرية روسية الصنع من نوع إيفا تقطر خلفها خزانا للماء وتوقف سائقها بناء على إشارتي وتسلق الجميع حوضها الخلفي وتحركت بإتجاه الجنوب ولكن الشاحنة توقفت بعد قطعها عدة كيلومترات في تقاطع إحدى الطرق وأعلن سائقها بأنّه سيتوجه إلى قضاء الحويجة لجلب الماء لأنّه مكلف بهذا الواجب.

ترجل الجميع من الشاحنة وبدأنا بالإنتظار بجانب الطريق مرة أخرى، وبعد نصف ساعة من الإنتظار توقفت سيارة نقل عسكرية صغيرة ذو حوض خلفي بالقرب منا ولاحظت بأنّ ضابطا برتبة عميد كان يجلس بجانب السائق، وسمعت في هذه الأثناء أحد الجنود الواقفين بقربي يحادث زميله قائلا: بأنّ هذا العميد التركماني ينتظر قدوم عائلته المحصورة في المدينة قبل أن يبدأ الهجوم البري.

أغتنمت تلك الفرصة السانحة وطلبت من العميد بعد أن أديت له التحية العسكرية بأن يقل مجموعتي إلى نقطة السيطرة المقامة بالقرب من قناة الري وهي المنطقة التي قضيت فيها الليلة العصيبة قبل أربعة أيام.

وافق العميد على مد يد المساعدة وأنتقل خلف مقود السيارة ليفسح المجال لأكبر عدد ممكن من الأفراد بالصعود إلى السيارة، وركبت مع زوجتي والطفل الرضيع أحمد في المقعد الأمامي الوحيد بعد ترجل الجندي السائق من السيارة بأمر من قائده بينما تكوم باقي مجموعتنا في الحوض الخلفي للسيارة فيما عدا اربعة من الشباب تخلفوا عن الركوب لعدم وجود موطيء قدم فيها لذلك قرروا تعقبنا سيرا على الأقدام.

بعد نصف ساعة من المسير لاحت من بعيد دعامات الجسر المشيد على قناة الري وترجلنا من السيارة في الشاطيء الآخر من القناة وبعد أن شكرت الضابط أفترشنا الأرض بالقرب من قطع المدفعية والراجمات بأنتظار المتخلفين من القافلة.

لاحظت قرب موقع الإنتظار حركة مستمرة لقطعات الجيش والحرس الجمهوري كأنّها تتهيأ لبدء الهجوم البري على مدينة الذهب الأسود وتبينت من بين الضباط والقادة حسين كامل زوج أبنة الرئيس صدام حسين وعزت الدوري نائب مجلس قيادة الثورة. أستغرقت فترة الإنتظار هذه ثلاث ساعات ألتحق في أثنائها بقية أفراد المجموعة المتخلفين بالقافلة وأغتنمت فترة الإنتظار للبحث عن وسيلة نقل تقلنا إلى بغداد.

باءت جميع محاولاتي للحصول على وسيلة لنقلنا إلى بغداد بالفشل ولاحظت بأنّ قسم كبير من العوائل تعتلي متون ناقلات الدبابات المتجهة إلى مدينة تكريت بعد إفراغ حمولتها كأنّهم أكوام من النمل ألتصقت بقطعة من السكر وكان منظرا غريبا ومعبرا عن المآساة الإنسانية في زمن الحروب.

في الساعة الثانية ظهرا قدمت حافلة كبيرة من بغداد تقل الجنود العائدين من إجازاتهم، وبعد أن علمت بأنّ الحافلة تروم الرجوع إلى بغداد تمكنت من تأمين مقاعد لأفراد مجموعتي في الحافلة ثم تحركت الحافلة صوب الجنوب متجهة نحو العاصمة بغداد.

ألقيت نظرة الوداع الأخيرة من الشباك الخلفي للحافلة على مدينة ألذهب ألأسود فلم أرى سوى ألدخان الأسود ألمتصاعد من إحدى آبار ألبترول ألتي أحترقت أثناء هذه ألأحداث ألدامية فلفني موجة من الحزن وألأسى وألقلق على مصير هذا ألشعب ألصابر ألذي أُصيب بلعنة ألذهب ألأسود.