18 ديسمبر، 2024 7:09 م

لعنة الذهب الاسود – 30 – الأحداث في كركوك-5

لعنة الذهب الاسود – 30 – الأحداث في كركوك-5

وصلت السيارة إلى هدفها وبعد أن ودعت السائق شاكرا جميله تلمست طريقي في ظلام الليل الدامس نحو محلة تبه حيث تسكن عائلة والدة زوجتي متحاشيا الشوارع الرئيسية ونقاط التفتيش المنتشرة فيها.

في الساعة السابعة مساء وصلت إلى باب البيت ولكن السكون والظلام كان يلفه ولم أجد ساكنا واحدا فيه، وكانت الحالة في دار عديلي أسعد المجاور مماثلة وفشلت محاولتي الثالثة للعثور على أي ساكن في البيت الثالث الذي طرقت بابه وهو لأحد الأقرباء الساكنين في نفس الزقاق.

خارت قواي وكدت أسقط من الإرهاق ولكن بصيص شمعة كان يخترق شباك أحد الجيران بوجل أنعش آمالي، فطرقت الباب وأعدت الطرق عدة مرات وبعد برهة تحركت ستارة الشباك بتوجس وسمعت صوتا يستفسر من وراء الشباك عن الطارق الغريب في تلك الليلة العجيبة.

تحفزت للإجابة وعرَّفتُ الرجل بهويتي ومرامي، بعد فترة وجيزة فُتِحت ضلفة الباب واصبحت وجها لوجه مع الجار العزيز ألذي رحب بي ترحيبا حارا وأبلغني بأنّ عائلتي تركوا الدار في الصباح الباكر وذهبوا إلى بيت شقيقة زوجتي فخمنت بأنّهم في دار شقيقتها الكبرى سميعة في محلة شاطرلو ألذي يبعد عن موقعي الحالي بمسيرة نصف ساعة.

أسقطت من قائمة بحثي بيت أختها الصغرى لأنّ زوجها كان منتميا إلى حزب البعث الحاكم لذلك لا يستطيع المكوث في مسكنه خوفا من أذى الميليشيات الكردية.

ودعت الجار الطيب شاكرا جميله ودعوتِه لي بالمبيت في داره وحثثت الخطى صوب محلة شاطرلو مخترقا الأزقة ومتحاشيا الشوارع الرئيسية ووصلت إلى هدفي في الساعة الثامنة مساء، طرقت الباب آملا أن أجد عائلتي هنالك لأنهي رحلة العذاب ألتي أستغرقت ثلاثة أيام سرتُ في يومها الثالث حوالي عشر ساعات مشيا على الأقدام.

فتح الباب الطفلة سوزان وأرتفع صوتها تبشر زوجتي بقدومي، فأيقنت بأنّ المرحلة الأولى من رحلتي شارفت إلى نهايتها.

كانت فرحتي بلقاء عائلتي كبيرة وسعادتي بسلامتهم طاغية، فما أحلى اللقاء بعد طول إفتراق وما أطيب العناق بعد طول إشتياق.

بعد أن حدثتهم عن تفاصيل مغامرتي، تحدثت زوجتي عن معاناتهم وقصة إحتلال ميليشيا الأحزاب الكردية لمدينة الذهب الأسود قائلة:

” في صبيحة يوم الأثنين المصادف للثامن عشر من شهر آذار أي قبل ستة أيام طرق أسماعنا أنباء إحتلال طلائع ميليشيا الأحزاب الكردية للأحياء السكنية في شمال وشرق المدينة وكانت محلة تبه ألتي تسكن فيها عائلة والدتي ضمن تلك المحلات وكنا في تلك الأثناء ضيوفا في بيت شقيقتي الصغرى أحلام في محلة شاطرلو.

كان ولدي البكر وشقيقه في بيت جدتهم في محلة تبه وقد أرسلتهم مع شقيقتي كريمة أثناء زيارتها لنا لغرض الإستحمام في بيت جدتهم لأنّ الكهرباء والماء كانا مقطوعين في محل إقامتنا وكنا نضطر لجمع مياه الأمطار من أجل إرواء عطشنا.

أستطردت زوجتي قائلة:

عند سماعي بأنباء إحتلال محلة تبه بدأ القلق يراودني على مصير الطفلين المعزولين في تلك المنطقة وزاد من قلقي إلتقاط المذياع للمكالمات اللاسلكية للطائرات السمتية التي كانت تُنبيء بالمباشرة بقصف تلك المنطقة لتحشد قسم من البيشمركة فيها، لذلك عزمت على إختراق منطقة القتال الذي كان ناشبا بين قوات الجيش والميليشيا الكردية في شوارع الحي.

أصطحبت معي إمرأة من الجيران توثبت لمساعدتي لإنقاذ الطفلين البريئين من المخاطر المتوقعة نتيجة القصف الجوي.

بعد نصف ساعة من المسير تمكنا من إختراق منطقة الإشتباك وكانت طلقات البنادق تئز من فوق رؤوسنا ووصلنا إلى بيت والدتي، وبعد الإطمئنان على سلامة الطفلين وسلامة والدتي وأخواتي قفلنا راجعين بصحبة الطفلين من نفس الطريق إلى دار شقيقتي الصغرى أحلام فوجدتها بإنتظاري على أحر من الجمر.

كانت شقيقتي متهيأة للرحيل وقد كومت الأغذية وما خف حمله وغلا ثمنه في سيارتنا ألتي كانت تحوي قليلا من الوقود، وأعلمتني بنيتهم ترك الدار خوفا من وصول القوات الكردية إلى المحلة وإيذائهم لزوجها علي.

أستطردت زوجتي وهي تحكي معاناتهم قائلة:

أتجهنا صوب جنوب المدينة وكان هدفنا الوصول إلى دار شقيقة علي في حي الضباط التي كانت تعيش مع أشقائها بعد إستشهاد زوجها الضابط في الجيش العراقي أثناء الحرب العراقية الإيرانية.

كنا نعتقد بانّ تلك المنطقة آمنة ومن المستحيل وصول القوات الكردية إليها نظرا لحجم قوات الجيش التي كانت محتشدة للدفاع عن المدينة.

في صباح اليوم التالي جفلنا من النوم على أصوات الطلقات النارية وبعد ساعات قليلة أحتلت المعارضة الكردية حي الضباط بكامله وبدأت عمليات النهب لمخازن الأغذية الحكومية القريبة من الحي.

في ظهيرة نفس اليوم طرق زمرة من افراد البيشمركة الأكراد باب الدار وهم مدججون بالأسلحة الخفيفة وبعد الإستفسار عن عائدية ملكية السيارات الثلاث المتواجدة في الدار وبعد معرفتهم بأنّ زوجي غير متواجد في المدينة عزموا على سلب سيارتنا بحجة أنّ مالكه ضابط في الجيش وهو الآن يحاربهم في صفوفها.

بعد محاولات عديدة تمكنت من إقناعهم بأنّ زوجي ليس ضابطا بل مهندسا في وزارة الإسكان والتعمير، فلان عريكتهم أمام إصراري بعدم تسليمهم مفاتيح السيارة فتركونا إلى حين.

في اليوم التالي أخترقت شظية قذيفة مدفع زجاج الشباك لإحدى غرف النوم وتكوم الزجاج المتناثر فوق الطفلة الرضيعة زينب وهي البنت الصغرى لشقيقتي أحلام.

بعد ساعة ونيف من ذلك الحدث سمعنا طرقا عنيفا على الباب الخارجي للدار وكان التيار الكهربائي والماء مقطوعا منذ اليوم الأول من إحتلال الميليشيات للأحزاب الكردية لمدينة الذهب الأسود.

هرعنا نحو الباب الخارجي للمسكن فإذا بمجموعة أخرى من المتمردين الأكراد متجمهرين أمام الدار وبعد أن تأكدوا من ملكية السيارتين العائدتين لشقيقة وشقيق علي أستفسروا عن مالك سيارتنا التي كنا قد نقلناها إلى مرأب المسكن المجاور الخالي من سكانها لغرض إخفائها عن أنظارهم.

بعد تيقنهم من عدم وجود مالك السيارة في الدار عزموا لأخذها ولم تفلح محاولاتي لإقناعهم بالعدول عن قرارهم المجحف.

في هذه الأثناء تعرفت على أحد أفراد الزمرة وهو من ألأكراد الساكنين في كركوك وكان يسكن في نفس الزقاق المتواجد فيها دار والدتي في محلة تبه، فأستطاع هذا الجار من إقناع زملائه بالعدول عن عزمهم وأدعى بأنّه يعرف زوجي ولا علاقة له بالجيش من قريب أو بعيد.

بعد إبتعادهم عن الدار تنفست الصعداء وقررنا الفرار من حي الضباط إلى دار شقيقتي الأخرى سميعة التي تسكن مع زوجها وطفليها في محلة شاطرلو ولكن علي زوج شقيقتي أحلام أعتراه خوف من ألمجيء إلى تلك المنطقة المزدحمة بالأكراد الساكنين والذين يعرفونه لأنّه يسكن في نفس المحلة.

في هذه الأثناء ألتقى شقيق علي الذي خرج لزيارة والديه بشقيقي محمود مصادفة وأخبره بعزمنا على ترك حي الضباط الذي بدأ القصف المدفعي للجيش العراقي يزداد عليه لتمركز قسم من القوات الكردية فيه.

حضر شقيقي محمود على عجل وأصطحبنا بسيارتنا إلى محلة شاطرلو ثم رجع لإصطحاب شقيقتي أحلام وزوجها بعد أن تطوع أحد جيران شقيقتي من الأكراد الطيبين من سكنة مدينة كركوك لمرافقتهم وحمايتهم طوال الطريق.

بعد إستقرارنا في دار شقيقتي في محلة شاطرلو قضينا هنالك ثلاثة أيام ضيوفا عليهم وأقترح جارهم الكردي بأن يخفي سيارتنا في مرأب دارهم حفاظا عليها من النهب “.

بعد إكمال زوجتي حديثها وإحاطتي علما بمقدار معاناتهم، عزمت على إنقاذهم من هذا الكابوس المرعب بأقرب وقت ممكن، لذلك بدأت البحث عن الوقود لسيارتي ولكن جميع محاولاتي بالعثور على الوقود وعلى منفذ آمن للخروج من المدينة بالسيارة باءت بالفشل، فالطريقان المؤديان نحو العاصمة بغداد كانا محفوفين بالمخاطر وقد حدثني أحد معارفي بأنّ طائرة سمتية تابعة للجيش العراقي قصفت سيارة إحدى العوائل بينما كانوا يحاولون إختراق الأرض الحرام الذي يفصل الميليشيا الكردية عن قوات الجيش العراقي.

أثناء بحثي عن الوقود لسيارتي عرجت على عدد من محطات الوقود ولاحظت بأنّ القوات الكردية قد نهبوا مولدات الطاقة الكهربائية لتلك المحطات ونظرا لإنقطاع التيار الكهربائي في المدينة فإن مضخات تزويد الوقود في تلك المحطات لم تكن تعمل، وشاهدت عدد من أفراد الميليشيا الكردية يحاولون إستخراج الوقود من الخزانات المتواجدة تحت أرض المحطة بإستخدام حبل مربوط بدلو.

عمليات النهب في المدينة شملت محتويات جميع دوائر الدولة من الأثاث والسيارات ومخازن الغذاء الحكومية التابعة لوزارة التجارة التي كانت تزود الأهالي بالمواد الغذائية حسب نظام البطاقة التموينية،كما قام الغوغاء بنهب محتويات مخازن مديرية تربية كركوك من الأقلام والدفاتر المدرسية وكذلك محتويات دور الضباط والقيادات الحزبية وقيادات الجيش الشعبي التابعة لحزب البعث العربي الأشتراكي.

إنّ ظاهرة النهب تحصل دوما عندما تفقد الحكومات السيطرة على بعض المناطق وذلك بتأثير البطالة والجوع والعوز التي ترافق فترات الحروب والكوارث الطبيعية والحصار الأقتصادي وذلك بدافع غريزة البقاء.

في اليوم الثاني والثالث من مكوثي في مدينة كركوك تصاعد القصف المدفعي وقصف الطائرات السمتية وكانت القذائف والقنابل تسقط على أحياء المدينة بصورة عشوائية وكانت الخسائر في الأرواح جسيمة.

بدأ سكان المدينة بالفرار بالسيارات نحو المنفذين الوحيدين السالكين وهما الطريقان المؤديان نحو مدينتي أربيل والسليمانية التي كانتا تحت سيطرة قوات ألأحزاب الكردية.

أما العوائل ألتي قررت الإتجاه جنوبا نحو مدينة تكريت فلم يكن لها إلا خيار واحد وهو السير مشيا على الأقدام والخروج من خلال حي واحد حزيران والعبور إلى الطريق المؤدي إلى مدينة تكريت ومن المنفذ الوحيد الذي دخلت منه إلى مدينة الذهب الأسود قبل ثلاثة أيام.

في ظهيرة اليوم الرابع من مكوثي في المدينة لاحظت بأنّ قسم من قوات الميليشيا التابعة للأحزاب الكردية قد بدأت بالإنسحاب من المدينة مصطحبة معهم معظم العوائل الكردية بإتجاه مدينتي أربيل والسليمانية.

أيقنت بأنّ ساعة الصفر قد دنت وأنّ الهجوم البري المرتقب لقوات الحرس الجمهوري والجيش العراقي بات وشيكا، لذلك قررت الفرار من المدينة مع عائلتي نحو مدينة تكريت ومن ثم محاولة الوصول إلى العاصمة بغداد.

من مسودة كتاب (لعنة الذهب الأسود)

يتبع