عند إقترابنا من القرية مر بجوارنا جرار زراعي، تعرف سائقها عل آيدن وبعد عبارات الترحيب أقلنا معه إلى القرية.
دخلنا قرية جارداغلي في الساعة الواحدة ظهرا أي بعد مسيرة خمس ساعات مضنية، رحب بنا أهل وأقارب آيدن وتم إطلاعنا على الوضع في القرية ومركز مدينة كركوك بالتفصيل.
كانت المساكن الطينية للقرية تربض في الجهة الجنوبية من الطريق الذي يربط الطريقين الرئيسيين المتجهين من مدينة كركوك نحو العاصمة بغداد ومدينة تكريت ولاحظنا بأنّ هذا الطريق قد أصبح بمثابة الخط الأحمر أو الأرض الحرام الذي يفصل بين القوات المتحاربة، فعلى شمال هذا الخط كانت تربض مساكن مدينة الذهب الأسود والتي تم إحتلالها من قبل الميليشيات الكردية التابعة للأحزاب الكردية، وعلى جنوب هذا الطريق تمركزت قوات الجيش العراقي التي أنسحبت بعد هجوم الميليشيا الكردية على مدينة كركوك وقتلهم قسم من هذه القوات وقوات ميليشيا الجيش الشعبي التابعة لحزب البعث العربي ابلإشتراكي الحاكم.
في ساحة المدرسة الوحيدة في القرية تمركز رهط من الضباط والجنود وكانوا قد نصبوا مدفعا ضخما لغرض قصف المدينة.
أصبح محاولة العبور الطريق الفاصل بين المتقاتلين أي الأرض الحرام هدفنا الأول، ولكنها كانت مجازفة خطرة في تلك الأثناء لأنّ القتال كان ناشبا والطرفان يتبادلان إطلاق النار بعنف.
في هذه الأثناء قرر زميل الرحلة آيدن المكوث في قريته بعد أن علم بأنّ معارفه سيحاولون جلب عائلته المحصورين في مركز المدينة إلى قريتهم.
بناء على رغبة رفيق السفر أحمد أتجهت معه إلى الحي الصناعي الذي كان مجاورا للقرية من الجهة الغربية، كان الحي الصناعي الذي تم تأسيسه مؤخرا في أطراف المدينة وكان يضم ورش لتصليح السيارات ومحلات لبيع الأدوات الإحتياطية لها.
أخبرني أحمد بأنّه يملك ورشة في ذلك الحي وأتفقنا عل المبيت فيها في حالة عدم تمكننا من دخول المدينة لحين إيجاد وسيلة آمنة لإختراق الخط الأحمر الفاصل بين المتقاتلين.
بعد إقترابنا من الورشة لمحنا بعض افراد الجيش على سطح الورشة وأفراد آخرين في داخلها وكانوا يتراشقون بالنيران مع قوات الميليشا الكردية المتمركزين في الجهة الشمالية من الطريق.
تعجب أفراد الزمرة العسكرية من وجودنا في تلك المنطقة الخطرة وبعد الإستفسار من أحمد الذي كان يسبقني في المسير عن غرضه، أخبرهم بأنّ المبنى الي أحتلوه ملك له ويروم المبيت فيه، ولكن الجنود شكّوا في أمره وحاولوا أخذه إلى الضابط المسؤول للتحقيق.
كان أحمد في موقف لا يُحسد عليه فقد كان غائبا عن وحدته العسكرية منذ عدة أيام بعد إستحفال الفوضى بين صفوف الجيش العراقي أثناء الإنسحاب الغير المنظم من الكويت. تحركت بسرعة لنجدة رفيق السفر وقبل وصولي إلى أفراد الزمرة العسكرية خلعت المعطف الذي كان يُخفي رتبتي العسكرية وتقدمت نحو الجنود الذين أستفسروا متعجبين عن سبب وجودي في تلك البقعة بعد أن أدوا التحية العسكرية.
بعد أن بينت لهم هدفي وسبب قدومي إلى تلك المنطقة أخبرتهم بأنّ أحمد من معارفي ورفيقي في السفر فأخلوا سبيله ولكنهم أنبؤني بإستحالة عبور الطريق من تلك النقطة بالذات.
في هذه الأثناء أخلى الجنود أحد رفاقهم الذي أُصيب بطلق ناري في ساعده الأيمن إلى داخل الورشة فإزداد يقيني بإستحالة العبور من تلك المنطقة فقفلنا عائدين إلى القرية نجر أذيال الخيبة.
في القرية قررت زيارة القوة العسكرية المتمركزة في المدرسة، وبعد تبديل ملابسي العسكرية بملابس مدنية أستعرتها من أحمد إلتقيت بالضابط المسؤول عن الوحدة العسكرية ولكني تلقيت نصيحة مماثلة بعدم إمكانية دخول المدينة من تلك المنطقة..
بعد تفكير وجيز ومداولة مع أحمد قررنا مواصلة المسير بإتجاه الغرب محاولين الوصول إلى بداية الطريق الذي يتجه من مدينة كركوك نحو مدينة تكريت القريب من منطقة معارض بيع السيارات ألتي تقابل حي واحد حزيران السكني في أطراف المدينة.
سلكنا طريقنا بين حقول القمح متحاشين مناطق تحشد قوات الجيش. في الساعة الثانية ظهرا وبعد مسيرة ست ساعات مضنية وصلنا إلى مقربة الطريق المنشود.
في تلك المنطقة لاحظت بعض الجنود وقد أحتلوا مواقعهم على أسطح المباني المحاذية للطريق فطلبت من أحد الجنود مقابلة الضابط المسؤول وكان برتبة ملازم وكنت في تلك الأثناء قد خلعت المعطف الذي كان يُخفي رتبتي العسكرية وصرت ضابطا في الجيش كي لا يتكرر معنا ما حدث في الحي الصناعي.
بعد حديث قصير مع آمر الفصيل وكان شابا في العشرينات من العمر أحاطني علما بالمخاطر الجسيمة التي تُحيط بمحاولتي الدخول إلى المدينة وأعلمني بأنّه لا يستطيع تحمل مسؤولية الموافقة أو المساعدة في هذا الأمر ونصحني بمقابلة آمر سريته الذي كان في المبنى المجاور.
بعد مقابلة آمر السرية ألذي كان برتبة نقيب، خرجت من المقابلة بنفس النتيجة حيث نصحني بمراجعة مقر اللواء المتمركز في الجهة الشمالية من الطريق قرب سايلوات القمح.
أيقنت بأنّه من العبث تكرار المحاولة في مقر اللواء لذلك أتجهت بصحبة أحمد غربا نحو طريق تكريت ووصلنا إليه بعد نصف ساعة من المسير ثم أنعطفنا نحو الشمال بإتجاه مدينة الذهب الأسود.
خلال مسيرتنا ألتقينا بضابط برتبة نقيب وكان بملابس مدنية ويروم التسلل إلى المدينة لنجدة زوجته وأطفاله المحصورين هنالك.
بعد كلمات المجاملة تحركنا معا نحو نقطة السيطرة العسكرية الأخيرة في تلك المنطقة.
حالفنا الحظ هذه المرة حيث مرت سيارة عسكرية يقودها ضابط برتبة نقيب أقلنا معه إلى نقطة السيطرة العسكرية.
ترجلنا من السيارة وبعد حديث قصير مع الضابط المسؤول أحطناه علما بهدفنا وتكررت النصيحة بعدم المجازفة بالدخول إلى المدينة فالمعلومات المتوفرة لديه كانت تُفيد بأنّ القوات الكردية يقتلون أو يأسرون كل ضابط يقع في قبضتهم ولكن الضابط المسؤول لانَ أخيرا بعد أن لاحظ إصرارنا على إختراق الحاجز الأخير ونصحنا بالتوجه نحو السياج المشيد على يمين الطريق والذي كان يقف بمحاذاته سيارة للأجرة أحتمى بها الملازم الأول المسؤول عن نقطة السيطرة الأخيرة.
قبل دنوي من السياج لبست السروال المدني الذي استعرته من أحمد فوق سروالي العسكري ونزعت الرتبة العسكرية وأخفيته مع دفتر الخدمة العسكرية تحت ملابسي الداخلية ولبست المعطف الأزرق بحيث غطى القميص العسكري وبذلك تحولت إلى رجل مدني ظاهريا وكنت أحمل لحسن الحظ معي هوية وزارة الإسكان والتعمير وهوية نقابة المهندسين العراقية.
أما أحمد فقد خلع ملابسه العسكرية وأخفاها في الحقيبة الجلدية مع بيريتي وبقي بملابسه الداخلية التي كانت عبارة عن سروال وقميص رياضي وبعد التخلص من جزمته العسكرية أنتعل النعال الذي أستعاره من صديقه آيدن في قرية جارداغلي.
بعد عملية التخفي توجهنا نحو السياج وتكرر نفس الحديث مع الملازم الأول ولكني أخبرته بأنّي ملازم مهندس إحتياط ومقر عملي وسكني الدائمي في العاصمة بغداد ولا يعلم برتبتي العسكرية أحد في المدينة سوى معارفي وأقربائي.
وافق الضابط على دخولنا إلى المدينة على أن أتحمل مسؤولية تلك المخاطرة تحملا تاما.
لم أضيع لحظة أخرى سدى فأتجهت مسرعا بصحبة رفيق السفر أحمد نحو الفتحة الوحيدة في السياج أما النقيب الذي ألتقيناه في الطريق فقد تخلف عنا لتدارس الموقف مع ضباط السيطرة.
كان السياج محاذيا للسكة الحديدية فبعد عبورنا السكة الحديدية ألفينا أنفسنا في طريق ترابي يعتلي مرتفعا ترابيا والذي كان يُفضي إلى حي واحد حزيران السكني في داخل مدينة الذهب الأسود.
من مسودة كتاب (لعنة الذهب الأسود)
يتبع