23 ديسمبر، 2024 7:17 ص

لعنة الذهب الاسود – 21 – قصور صدام حسين في سرسنك

لعنة الذهب الاسود – 21 – قصور صدام حسين في سرسنك

بعد أن سكتت المدافع في الجبهة بدأنا معركة البناء، فإعمار مدينة البصرة أعقبه إعمار مدينة الفاو الذي شاركت فيه مع زملائي في المركز القومي للإستشارات الهندسية والمعمارية بجهود إستثنائية حيث تم تصميم وبناء مدينة كاملة خلال اربعة اشهر وكانت اشبه بالمعجزة ولكن سلبيات هندسية كثيرة رافقت هذه العملية وذلك بسبب قصر الفترة الزمنية المحددة لإنجاز المشروع من قبل رئيس الجمهورية صدام حسين.

بعد إنتهاء إعمار الفاو، اشتركت مع زميل في الدائرة في مسابقة لتصميم دار رئاسي خاص المزمع إنشاؤه على قمم تلال إصطناعية في محافظة بابل، اشترك في هذه المسابقة جميع المكاتب للدوائر الهندسية الحكومية وبلغ عدد التصاميم المشاركة اثنا عشر تصميما، بعد إجراء التحكيم حزنا في المسابقة على المرتبة الرابعة وأستلمت حصتي من المكافأة التي بلغت الف دينار.

بعد عدة شهور من أنتهاء الحرب العراقية الايرانية، رنَّ جرس هاتفي الداخلي في المركز القومي للاستشارات الهندسية والمعمارية وكان على الخط المدير العام للمركز:

– آلو.

– صباح الخير أستاذ كامل

– صباح الخير أستاذ إسطيفان.

– تمَّ تكليفنا من قبل دائرة الشؤون الهندسية التابعة لديوان الرئاسة بتصميم ست دور في مصيف سرسنك، ويجب انجاز جميع التصاميم في ثلاث ايّام وسنبدأ التنفيذ في اليوم الرابع.

– هذا مستحيل أستاذ إسطيفان.

– لايوجد مستحيل، هذا أمر صادر مِنْ الرئيس صدّام حسين. عليكم بالمبيت في الدائرة إذا أقتضى الامر….. بعد العبارة الاخيرة أغلق المدير العام الهاتف.

بعد برهة من التفكير، أنتابني شعور بالقلق، ولكن لَمْ أضيّع مزيداً مِنْ ألوقت وتركتُ أفكاري جانبا ودعوتُ أفراد مجموعتي المعمارية إلى إجتماع عاجل.

في ألإجتماع أبلغتُ أفراد مجموعتي المكوّنة مِنْ خمسة مهندسين معماريين وثلاثة رسّامين متمرسين في الرسم المعماري بطلب المدير العام. كان الجميع متفقين على إستحالة تنفيذ ألامر بالفترة المحددة، ولكنَّنا كنّا واعين بأنَّ أمر رئيس الجمهورية لا يُمكن تأخيره لأنَّ وراء التأخير حصبة وجدري، كما يُقال في المَثَل العراقي.

وزّعتُ العمل على المهندسين المعماريين، وكلّهم كانوا من أكفأ المعماريين المتخرجين مِنْ جامعة بغداد، وبدأنا العمل فوراً.

أنجزنا التصاميم الاولية مع تثبيت الابعاد الرئيسية على المخططات والّتي تُمكِّنْ الشركات المقاولة التابعة لوزارة الاسكان والتعمير مِنْ تسقيط الاسس على ارضية الموقع، ثُمَّ زوّدنا المهندسين المدنيين والكهربائيين والميكانيكيين بنسخ من المخططات المعمارية ليتسنّى لهم البدء بأعداد التصاميم الانشائية والخدمية للمشروع.

ألمشكلة ألاساسية ألّتي جابهتنا أثناء ألعملية ألتصميمية هي عدم توفّر مخططات لمواقع ألدور، لذلك أتصلتُ بالمدير ألعام لحل هذا ألإشكال:

– أستاذ إسطيفان، هلْ يٌمكننا الحصول على مخططات المواقع ألمخصصة للدور؟

– لا أعتقد ذلك، ولكن أتَصِلْ بمعاون دائرة ألشؤون الهندسية في ديوان رئاسة الجمهورية وأبحث ألموضوع معه.

– حسنا أستاذ.

كانَ مُعاون مدير دائرة ألشؤون ألهندسية مهندسا معماريا بارعا، وقد زاملته في ألقسم المعماري من كلية ألهندسة في جامعة بغداد، ثُمَّ عملنا معا في مقر عملي الحالي لعدّة سنوات قبل نقله إلى دائرة ألشؤون ألهندسية في ديوان رئاسة الجمهورية. أتصلت به وطلبت منه مخططات ألموقع:

– صباح ألخير أبو سيف، هل يُمكنك تزويدنا بمخططات ألموقع؟

– حاليا لاتوجد مسوحات للمواقع، لقد تمَّ أختيار ألمواقع مِنْ قِبل ألسيد ألرئيس بينما كان مُحلّقا في ألجو بطائرة سمتيّة فوق ألمنطقة ولَمْ أشاهد ألمواقع لحد ألانْ. إنَّ ألدور الست ألمخصصة لكم تقع على قمتي جبلين محاذيين لجبل كَارة في مصيف سرسنك، وعليكَ ألسفر إلى هناك بأسرع وقت ممكن للكشف ألموقعي.

– شكراً أبو سيف، سأبحث ألأمر مع ألمدير ألعام.

بعد إكمال المخابرة أتصلت بالمدير ألعام وشرحتُ له ألموقِف فطلب مِنّي ألحضور إلى مكتبه لبحث ألامر بالتفصيل.

في مكتبه عينني المدير ألعام إسطيفان ألصائغ مديراً للمشروع وطلب منّي ألسفر فوراَ إلى محافظة نينوى وألاتصال هناك بفرع شركة المنصور للمقاولات وهي إحدى ألشركات ألتابعة لوزارة ألأسكان وألتعمير لترتيب زيارة لموقع ألمشروع. أعلمني ألمدير ألعام كذلك أنَّ ألاوامر صدرتْ مِنْ وزير ألاسكان وألتعمير ألى شركة ألمنصور لتنفيذ ثلاث دور، أمّا ألدور ألثلاث ألاخرى فسيتم تنفيذها مِنْ قِبَلْ شركة ألطارق للمقاولات وهي أيضاً شركة تابعة لوزارتنا، وكان امر الوزير يقضي بأنْ يكون ألتنفيذ على شكل مسابقة بين ألشركتين، وستخصص جوائز لأفضل وأسرع تنفيذ للمشروع.

بعد أنتهاء ألاجتماع أستلمت ألسيارة ألمخصصة للمشروع وأنطلقتُ بها في الصباح ألباكر مِنْ اليوم ألتالي بأتجاه محافظة نينوى.

جرتْ كلُّ هذه ألاحداث في شتاء مِنْ عام 1989، وقبل غزو ألكويت، وكان ألرئيس صدّام حسين في تلك الفترة قد تمكّنَ مِنْ بسط سيطرته ألكاملة على شمال ألعراق، معقل أكراد ألعراق.

في فرع شركة ألمنصور ألتقيت بمجموعة مِنْ ألمهندسين مِنْ شركتَيْ ألمنصور وطارق ثمَّ بدأنا ألرحلة نحو مصيف سرسنك. كان في أستقبالنا هناك الشيخ مأمون ممثل ألوزارة وهو رئيس مهندسين في ألمؤسسة ألعامة للطرق وألجسور وكان يُشرِف على تنفيذ ألطرق وأبنية ومدرج مطار بامرني. توجّهنا بصحبة المهندس مأمون نحو جبل كَارة ألّذي ينام على سفحه مصيف سرسنك بهدوء.

عند وصولنا إلى سفح ألجبل، أذهلني أرتفاع ألجبل ألشامخ ألّذي كانت قمّته مغطاة بالثلوج.

أشار ألشيخ مأمون، وهو مهندس كردي من سكان المنطقة ألشمالية من ألعراق إلى قمّتين محاذيتين لجبل كَارة وكانتا أوطأ من قمّة جبل كَارة قائلا:

– هناك قمّتين، قمّة عالية وقمّة واطئة، سنبني ثلاث دور على ألقمّة ألعالية وثلاث أخرى على ألقمّة ألواطئة.

بادرت ممثل ألوزارة قائلا:

– أستاذ مأمون، هل يوجد طريق للسيّارات يوصِل إلى القمم؟

أبتسم مأمون بأسى وقال:

– مع ألاسف لا يوجد طريق للسيارات حاليا، لقد بدأتْ آلياتنا بألعمل قبل يومين لأنجاز هذا العمل، كما بدأنا ألعمل أيضا لأنشاء ألطريق ألموصِل الى قمّة جبل كَارة ألشامخ.

حوّلتُ نظري إلى جبل كَارة ألّذي كانتْ قمّته تعانق ألسحاب، وتمتمتْ بصوتٍ خافت كمن يحدّث نفسه: سيكون هذا أنجازا هندسياً رائعا ومحفوفاً بالعقبات، ثمّ خاطبتُ ألشيخ مأمون قائلا:

– هل سنبني دورا اخرى على جبل كَارة؟

– ستُبنى عشرات من الدور على جبل كَارة، ولكنَّ تصاميمها وتنفيذها ليست مِنْ مسؤولياتنا، لأنَّ ألكوادر الهندسية لدائرة ألشؤون ألهندسية ألتابعة للقصر ألجمهوري ستقوم بالمهمّة، ولعلمِكَ، هناك دور عديدة أخرى ستنشأ بألقرب مِنْ شلالات سره رَشْ، كما سيُشيّد قصرٌ كبير على شكل باخرة في وسط مياه البحيرة ألاصطناعية الّتي ستتكون بعد حصر مياه ألشلال.

– ما ألمدّة ألمقررة لأنجاز حصتنا من المشروع؟

أبتسمَ مأمون قائلاً:

– ستُّة أشهر، وهذا يعني بأنَّ علينا ألعمل لمدّة أربع وعشرين ساعة في أليوم في هذا الطقس ألبارد.

– هذه فترة قصيرة جدا لمثل هذا الموقع المعلّق في ألسماء.

– علينا ألالتزام بموعد الانجاز ولا تنسى أنَّ هذا أمرٌ مِنْ ألسيد رئيس ألجمهورية صدّام حسين وأنت تعرِف مايعني ذلك.

بعد العبارة ألاخيرة للشيخ مأمون، تحسست رقبتي بقلق، ثمّ أردفت قائلا:

– كيف يُمكن صب الخرسانة في درجات الحرارة ألّتي ستكون تحت الصفر؟

– سنجد حلّا عند وصولنا الى تلك ألمرحلة.

– حسنا، كيف سنصل الى قمّة ألجبل؟

– سنتسلّق إلى الأعلى، واحذّرِكم من وجود الغام مدفونة، متبقية مِنْ فترة حروب ألشمال وعليكم تجنب المناطق الرخوة أثناء التسلّق.

بعد التحذير الاخير تبادلنا نظرات ذات معنى وبدأنا بالرحلة الشاقة نحو القمّة.

أستغرق الوصول إلى ألقمّة ألواطئة حوالي الساعتين من الوقت، وبعد ألقاء نظرة على الموقع المخصص تيقنت بأنّه سيكون كافيا لأنشاء أكثر مِنْ ثلاث دور عليه، ثمّ باشرنا بقياس ابعاد الموقع.

بعد أستراحة قصيرة بدأنا بتسلّق القمّة العالية المجاورة، وكان أنحدار الجبل اكثر مِنْ سابقه وعانينا مشقّة كبيرة أثناء التسلّق. عندما وضعتُ قدماي على ألقمّة العالية، هالني ما رأيتُ، كان عُرض ألقمّة لا يتجاوز سبع أمتار ولكنَّ طوله كان مناسباً، ألتفتُّ نحو المهندس مأمون قائلا بخيبة:

– هذا الموقع غير مناسب، ولا يُمكن أنشاء ألتصاميم ألمعدّة مِنْ قِبلنا للدور على هذه ألقمّة، إنَّها لا تكفي لدارٍ واحد، فكيف بثلاث دور؟

– هذه مشكلتُكَ، أنا مهندس طُرُقْ….. قالها مأمون مبتسما.

– سأبحث ألموضوع مع ألمدير ألعام عند عودتي.

بعد أنجاز ألمهمّة المُرهِقة، رجعنا إلى مقر شركة المنصور في الموصل ووجدنا رئيس شركة طارق بانتظارنا على احر من الجمر، بعد التحيّة بادرني متسائلا:

– هل أحضرتَ معك مخططات الاسس؟ أريد أنْ أبدأ ألعمل في الغد.

– أستاذ خالد، نستطيع تسليمكم مخططات الاسس غداً، ولكنّكم لنْ تستطيعوا المباشرة غداً، لأنّ ألموقع المخصص لشركتكم غير مناسب، ولا يمكن تشييد التصاميم الحالية المعدّة على تلك القمّة لانَّ عرض قمّة الجبل قليل جداً.

أُسقط في يد رئيس الشركة وقال متسائلا:

– ما العمل اذن؟

– لا نستطيع أتّخاذ ايّ إجراء بدون أخذْ رأي دائرة ألشؤون الهندسية، لأنَّ أمر السيد الرئيس يقضي بأنشاء ثلاث دور على ألقمّة العالية.

– حسناً، أتّصل بي بعد حَل ألاشكال.

بعد استراحة قصيرة قفلتُ راجعاً إلى بغداد ووصلتها حوالي منتصف الليل. في الصباح التالي شرحتُ للمدير العام تفاصيل زيارتي إلى سرسنك، فطلب منّي ألاتصال بمعاون مدير دائرة الشؤون الهندسية لتبيان الموقف له.

هاتفتُ المعاون وشرحتُ له تفاصيل زيارتي لموقع المشروع، فطلب منّي التريّث وانتظار تعليمات جديدة حول الموضوع.

في اليوم التالي اتّصل بي المعاون قائلا:

– صدر امر مِنْ السيّد الرئيس بتفجير القمّة العالية لتوسيعها، أنت تَعلمْ أنَّ الجبل يكون أعرَضْ كلّما أتجهنا نحو ألاسفلْ.

– ولكن هذه العملية صعبة وستستغرق وقتا طويلا، ثمّ لاتنسى الخطر الناتج مِنْ تدحرج الصخور الى الاسفل وقد تُسَبِّب تهديدا للساكنين في المصيف.

– لا تقلق سأبحث هذه المشكلة مع المهندس مأمون، وأُعلمِكَ بأننا سَنُنْشِأ داراً واحداً فقط على ألقمّة العالية حسب التوجيه الجديد، أمّا بقية ألدور فسيتم أنشائها على القمّة الواطئة، وحسب شرحك للموقع فإنّها تكفي لخمس دور، أليس كذلك؟

– ألموقع سيكفي ولكن بصعوبة وقد نضطر إلى قشط وتفجير بعض الصخور، وهذه عملية ممكنة.

– حسنا فلنبدأ بألعمل.

بعد مرور عدّة أيام على المخابرة مع المعاون، أكملنا ألتصاميم المعمارية ألتفصيلية للدور أضافة إلى التصاميم التفصيلية ألانشائية والميكانيكية والكهربائية وأصبحنا جاهزين لتنفيذ المشروع.

كانت المساحة الكلية للدار الواحد حوالي 500 مترا مربع، واشتمل التصميم على صالة كبيرة للمعيشة والطعام وعلى خمس غرف للنوم مع حمام مٌرفَق بكلِّ غرفة اضافة الى الخدمات الاخرى كالمطبخ والمخزن وغرفة الخدمات الميكانيكية. تمّ تصميم الدور بطابق واحد وحسب التوجيهات الصادرة مِنْ دائرة الشؤون الهندسية.

بعد أنقضاء اسبوع على البدء بتفجير القمّة العالية للجبل، اتّصل المهندس مأمون بمعاون دائرة الشؤون الهندسية واخبره بانهم لم يحصلوا على نتيجة مُرضية من عمليات التفجير، فالجبل الاصم كان يقاوم بشدّة ارادة الانسان، لذلك اقترح مأمون غض النظر عن هذا الموقع. في اليوم التالي اتّصل المعاون بي وابلغني بقرار السيّد الرئيس حول انشاء الدور الست في القمّة الواطئة وغض ألنظر عن ألقمّة ألعالية، وطلب منّي السفر الى سرسنك لمساعدة الشركتين المنفذتين في تعيين موقع كلّ دار وتسقيط مخططات الاسس على الارض.

في الصباح الباكر سافرت الى سرسنك ووجدتُ المهندسين من شركتَيْ طارق والمنصور بانتظاري في موقع المشروع، وكان خبر انجاز طريق السيّارات الصاعد الى القمّة من احسن الاخبار الّتي سمعتها في ذلك اليوم.

انجزنا عملية تخطيط الاسس لخمس دور واجّلنا تخطيط اسس الدار السادس لحين انجاز تفجير وازاحة بعض الصخور الّتي كانت تُعيق عملية التخطيط. أبْتُ الى مقر عملي في بغداد وسارت عمليات الانشاء بدون معوقات، وتمّ حل مشكلة صب الخرسانة في الطقس البارد باستعمال النار لاذابة الماء المتجمد المستعمَل في الصب واضافة مواد كيمياوية تمنع تجمّد الماء داخل الخرسانة، كما تمّ تغطية كلّ مُنشأ بخيمة كبيرة اُشعلت بداخلها النار اثناء رش الخرسانة بالماء لحين وصولها الى القوّة المطلوبة.

كنتُ ازور موقع العمل كلّ اسبوعين للاشراف واقضي ثلاث ايّام في سرسنك. في بعض الزيارات كنتُ أصطحب معي بعض افراد الفريق التصميمي من مختلف الاختصاصات.

في احدى الزيارات طلبتُ مِنْ المهندس مأمون ترتيب زيارة لي لمواقع الدور والقصور الّتي يتم انشاءها من قبل كوادر دائرة الشؤون الهندسية، وبعد اتصاله بالعقيد المهندس المسؤول عن دور جبل كَارة، اصطحبنا الاخير بسيارته وتسلّقنا الطريق الحلزوني الموصل الى قمّة الجبل.

كان منظر جبل كَارة مهيبا وكانت سفوحه مغطاة باشجار السرو والجوز والبلّوط ألّتي أُلبِسَتْ ثوبا أبيضا مِنْ ألثلج، ولاحظت أنّهم انشأوا دارا في كلّ فُسحة عريضة يمر الطريق الحلزوني منها، كما تمّ انشاء مبنى للرصد في قمّة الجبل ألمغطاة بالثلوج.

قال العقيد المهندس اثناء شرحه للمشروع:

– جابهتنا صعوبات جمّة اثناء التنفيذ، فدرجات الحرارة تبلغ هنا خمس عشر درجة تحت الصفر المئوي في هذا الموسم، اضافة الى وجود قطعان من الذئاب المفترسة والّتي هي مصدر خوف دائم للعمال، لذلك كنتُ أُطْعِمْ الذئاب يوميا بوضع قطع من اللحم في اماكن متفرقة لأُشبعها حتّى لا تهاجمنا.

بعد الجولّة المثيرة في جبل كَارة زرنا موقع الدور قرب شلالات سره رَش وشاهدت التحضيرات لانشاء القصر الكبير الّذي سيكون على شكل باخرة في وسط البحيرة الاصطناعية.

أثناء التنفيذ كان عليّ اختيار التأسيسات الصحية الّتي سننصبها في حمامات الدور وكذلك نوعيات المواقد الثابتة المصنوعة من المرمر وكانت من النوع الجاهز ومن منشأ ايطالي. بعد عملية الاختيار من الصور كنّا نزور مخزن المواد الانشائية التابعة لديوان الرئاسة في منطقة البيّاع لمطابقة النموذج مع الصوَر.

تمّ انجاز الدور الست في الموعد المحدد وقد استعملنا القرميد الاخضر المزجج المستورد لتغطية السقوف المائلة للدور، كما تمّ استخدام المفاتيح الكهربائية والحنفيات المطلاة بالذهب في بعض الدور، اضافة الى المرمر العراقي والمستورد لتغطية الارضيات.

كان الرئيس صدّام حسين يتابع عن كثب سير المشاريع وكان يقوم بزيارات مُستمرّة الى سرسنك.

في أخر زيارة لي للموقع أصطحبتُ معي مهندسان معماريان من مجموعتي، أثناء الزيارة لاحظنا أنَّ العمل قد أُنجزَ ولَمْ يبقَ غير تأثيث الدور والّتي لَمْ تكن ضمن مسؤولياتنا، وبهذا بدأنا نحلم بالمكافأة القادمة.

في طريق العودة الى بغداد ، فتحت مذياع السيّارة فكانت المفاجأة، كان المذيع يتلوا بيانا صادرا من وزارة الدفاع/ مديرية التجنيد العامة بوجوب إلتحاق عدّة دورات من الضبّاط الاحتياط والمجندين وكذلك عدّة مواليد من جنود الاحتياط للخدمة في الجيش، وذكر البيان بوجوب التحاق الضبّاط خلال خمسة عشر يوما من تاريخ قراءة البيان.

طرقَ الى أسماعنا رقم دورتي للضبّاط المجندين ورقم مواليد زميلي ورفيقي في الرحلة المهندس المعماري جبّار حمزة، أمّا الزميل الاخر المهندس فاروق فؤاد فلم يكن مشمولا بالاستدعاء. كان الجيش العراقي قد أحتلَّ الكويت قبل فترة، وكانت طبول الحرب تقرع مِنْ وراء المحيط.

ألتفتُّ نحو زميلي جبّار وألفيته ممتقع اللون مِنْ المفاجأة وبادرته مواسياً:

– لا تبتئس غمّة أخرى وستزول، ستقضي عدّة شهور في مديرية ألأشغال ألعسكرية ثمّ ستتسرح.

– مَنْ يدري؟ قد تطول هذه الحرب لعدّة سنين، هل كُنتَ تتوقع أنْ تطول ألحرب مع أيران لثماني سنوات؟

– كلّا، ولكن الحرب القادمة غير متكافئة بين الطرفين، فالعدو هذه المرّة الولايات المتحدّة الامريكية وحلفائها وسَتُحسَم المعركة في فترة قصيرة كما أعتقد.

– ألله يستُر…. قالها بقنوط.

كان هذا استدعائي الثالث لخدمة الاحتياط بعد أكمالي ألخدمة ألالزامية في عام 1977، أضافة الى ذلك فقد كنتُ أُجبرتُ على ألخدمة في ألجيش ألشعبي لمدة تسع شهور كجندي بالرغم مِنْ كوني ضابطا مجنّدا متسرحا مِنْ ألجيش، وكان السبب في ذلك عدم أنتمائي الى حزب البعث، فقضيت تلك الفترة في إحدى الربايا في شمال العراق أثناء ألحرب العراقية الايرانية.

بعد تلك الزيارة الاخيرة لموقع المشروع ألتحقتُ بوحدتي في مديرية الاشغال العسكرية وألتحق ألمهندس جبّار بوحدته أيضا، وقضيت فترة تسع شهور ونصف الشهر في الجيش، ثمّ تسرّحتُ مِنْ ألخدمة بعد وقف اطلاق النار بعدّة أشهر.

كانت فترة عصيبة مرّت بالعراق وخلّفتْ الالاف من القتلى والجرحى والاسرى وخسائر جسيمة في البنيان.

لَمْ يتنعَمْ ألرئيس صدّام حسين بقصوره ألّتي شيّدناها في مصيف سرسنك، فبعد ألهزيمة في حرب ألكويت وألإعلان عن قرار الأمم المتحدة بجعل المحافظات الشمالية منطقة محمية من قبل طائرات قوات المطرقة التابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، أحتلَّ قوّات ألبيشمركة ألتابعة للزعيم الكردي مسعود ألبارزاني مصيف سرسنك بقصورها.

من مسودة كتاب (لعنة الذهب الأسود)

يتبع