ألقاطنون في مدينة كركوك خليط مِن عدّة قوميات وأديان ومذاهب، ففيها يعيش ألتركمان وألعرب وألأكراد ألمسلمون بسنّتهم وشيعتهم وألآثوريون وألارمن ومسيحيوا ألقلعة والسريان وألكلدان بإخوّة وصفاء منذ قرون بأستثناء بعض ألأحداث ألّتي عكّرت صفو ألمدينة، وكانت هذه ألمدينة تضم أيضا أقليّة مِن أليهود ألّذين هاجروا إلى فلسطين بعد تشكيل دولة إسرائيل عام 1948، كان أليهود يقطنون في ألشطر ألشرقي ألقديم مِن ألمدينة في محلّة خاصّة بهم كانت تُسمّى بمحلّة أليهود، ولعلّهم كانوا مِن أحفاد أولئك ألأسرى ألّذين جلبهم ألملك ألآشوري لبناء قلعته.
ولِدّتُ في هذه ألمدينة ألموغلة في أعماق ألتاريخ وألّتي شهدتْ مُعظم أحداث حياتي وذكرياتي في محلّة جقور ألّتي تقع في ألصوب ألكبير وتعني ألعميق أو ألحفرة وربّما سُميت بهذه ألتسمية لكون مساكنها مبنية على أرض منخفضة أو لكونها منخفضة نسبة إلى ألقلعة ألشامخة ألمجاورة لها.
أختار والدي لي بعد ولادتي أسم يالجن وهو أسم تركماني، وكانت ولادتي في شهر حزيران ألّذي تبدأ فيه درجات ألحرارة في ألعراق بألأرتفاع وخلال أيام أمتحانات ألوزارية ألعامّة للمرحلة ألأعدادية لشقيقي ألأكبر أورخان، ولعلَّ ولادتي خلال فترة ألأمتحانات لها علاقة بأحداث حياتي ألمقبلة وألّتي كانت للدراسة وألأمتحانات وألنجاح وألرسوب فيها أبلغ ألأثر في مجرى حياتي، إنَّ ألإنسان خلال رحلته ألقصيرة في ألحياة يخضع شاء أمْ أبى لإمتحانات لا أول لها ولا آخر، ففي ألمدرسة وألجامعة امتحانات، وفي ألحياة أليومية أمتحانات لا حصر لها وألله يمتحننا ويبتلينا كلّ يوم لفصل ألخبيث مِن ألطيّب.
كان والدي محمّد فاتح رجلا مكافحا ينحدر مِن عائلة تركمانية، وكان جدّي ملّا صالح يُعلِّم ألقرآن للصبيان وقد أستشهد في معركة جناق قلعة ألّتي جرت بين ألجيش ألعثماني وألحلفاء ألغربيين في آسيا ألصغرى وعلى ضفاف مضيق ألبسفور.
بعد وفاة جدّي تزوّج والدي من فتاة تركمانية مِن عشيرة صاري كهية ألّذين كانوا يسكنون في ألقورية في محلّة تُسمّى بصاري كهية، وقسم منهم كان يسكن في قرية بلاوة ألتابعة لهم وكانوا يمارسون زراعة ألقمح وألخضراوات. هذه ألقرية أزالها مِن ألوجود صدّام حسين أثناء حكمه بسبب سياسة ألتعريب ألّتي كان يمارسها ولكونها مجاورة لحقول باباكركر ألغنية بألنفط.
عشيرة صاري كهية أنجبت بعض ألقادة ألعسكريين ألّذين خدموا في ألجيش ألعثماني ومِن ثمَّ في ألجيش ألعراقي بعد تأسيس ألدولة ألعراقية وأذكر منهم ألقائد مصطفى راغب باشا ألّذي شارك في معارك فلسطين ألّتي جرت بين ألدول ألعربية وأليهود خلال فترة تأسيس دولة أسرائيل.
كانت هذه ألزيجات بين شاب مِن ألصوب ألكبير وفتاة مِن ألقورية أو ألعكس نادرا ما تحصل في مدينة كركوك، وقد تمَّ أختيار ألعروسة مِن قبل جدتي ملّا حليمة وألّتي كانت تعلّم ألبنات ألقرآن في ألكتّاب.
نتيجة لظروف ألحربين ألعالميتين ألأولى وألثانية، عانت عائلتي كبقية ألعوائل ألعراقية مِن شظف ألعيش، حيث كانت ألمواد ألغذائية شحيحة وأتذكّر أنَّ والدي حدثنّا عن تلك ألفترة في إحدى ألمرّات قائلا ” أثناء ألحرب ألعالمية ألاولى ذهبت إلى قرية مجاورة للمدينة سيرا على ألأقدام وأشتريت بالمال ألقليل ألّذي كنت أملكه كيسا مِن ألقمح ورجعت حاملا ألكيس على أكتافي “.
أمّا فرص ألعمل فكانت محدودة في تلك ألفترة وقد أشتغل والدي في شبابه في مهنة ألسراجة في دكّان صغير في ألسوق ألكبير ألمجاور للقلعة، وكان في تلك ألفترة يرتاد ألتكيّة ألكبيرة المسماة بتكيّة ألشيخ جميل، وكان يتناوب على مشيخة هذه ألتكيّة أفراد مِن ألعائلة ألطالبانية وأشهرهم ألشاعر ألمعروف ألشيخ عبدألرحمن ألطالباني والد شاعر ألهجاء ألمعروف ألشيخ رضا ألطالباني. أفراد هذه ألعائلة كانوا يكتبون ألشعر بأللغة ألتركية وألكردية وألفارسية وأحيانا بأللغة ألعربية.
كان معظم ألدراويش يجتمعون في هذه ألتكيّة لذكر ألله وألصلاة وممارسة بعض ألطقوس ألخاصة بطريقتهم ألصوفية ألمعروفة بألكزنزانية، كجَرحِ أجسادهم بالسيف أو ألشيش بعد وصولهم إلى حالة ألغيبوبة نتيجة ألذكر ألمتواصل وبمصاحبة إيقاع ألدفوف وألنقّارات، وأعتقد أنَّ هذه ألممارسات نوع مِن أنواع ألتنويم ألمغناطيسي ألّذي يُمكّن ألجسم مِن تحمّل ألألم ولا علاقة لها بالدين ألإسلامي بدليل أنّها تُمارس مِن قبل فئات أخرى غير إسلامية كفقراء ألهندوس، ولكنّها كانت تُعتبر معجزة مِن ألمعجزات ألدينية، وكان ألدروايش يدعّون بأنَّهم يمارسون هذه ألطقوس والمعجزات أمام ألجمهور لتقوية إيمان ألنّاس وأقناع ألمشركين وأهل ألكتاب بصدق ألدعوة ألإسلامية.
ألطريف في ألأمر أنّه في حالة فشل بعض ألدروايش في تحقيق ألمعجزة وأصابتهم بجروح خطيرة فأنّهم يعزون سبب ذلك إلى وجود شخص جُنُب بين ألجمهور. كان والدي كبقية ألدراويش مسترسل ألشعر وزاهدا في ألحياة، حيث كان لا ينام إلّا على حصيرة مصنوعة مِن خوص ألنخيل. مِن الحكايات ألطريفة ألّتي كان والدي يرويها عن تلك ألفترة مِن حياته أذكر ألحكاية ألتالية: قال والدي ضاحكا ” كنّا نمارس ألذكر في فناء ألتكيّة في موسم ألصيف ونصدم رؤوسنا في ألحائط في بعض ألأحيان، وفي حالة معرفتنا بأنَّ ألفتيات يراقبوننا مِن ألسطوح ألمجاورة، كنّا نصدم ألحائط بشدة أكثر “.
روى لي أحد مِن معارفي وهو يكبرني في ألعمر، وقد عاصر تلك ألفترة حكاية ذو مغزى نقلا عن صديقه وذكره بألأسم (وقد تعرّفت عليه لأنّ زوجته مِن أقاربي مِن جهة والدتي) قال ” كان صديقي يعمل سائقا لباص ذو سقف خشبي وكان يقوم بنقل ألعمّال مِن وإلى شركة نفط ألشمال لقاء أجرة، وكان في ألشركة مدير أنكليزي يدعى تشرشل. في أحدى ألأيام نقلَ ألسائق مجموعة مِن ألدراويش مع شيخهم مِن تكية ألشيخ جميل إلى قرية تقع على ألطريق ألخارجي ألّذي يربط كركوك بمدينة ألسليمانية، بعد أستقرار ألمجموعة في مسجد ألقرية وصلت سيّارة إلى ألقرية وترجّل منها شخص ذو سحنة بيضاء وبعيون زرقاء وكان لابسا ألزي ألكردي وعلى رأسه عمامة، قال ألسائق: سألت أحد ألساكنين في ألقرية: مَنْ هذا؟ فأجابني هذا ألشيخ ألكبير للطريقة. كان وقع ألأجابة عليَّ كألصاعقة، لأنَّ ألشيخ ألكبير لَمْ يكن سوى مستر تشرشل “.
بعد هذه ألمرحلة مِن حياة والدي ونتيجة لمطالعاته وتأثره بألثورة ألثقافية ألعلمانية ألكمالية في تركيا حدثَ تحوّل جذري في أفكاره ونظرته إلى ألدين وطقوسها، فترك ألدروشة وقصَّ شعره ألطويل وغيّرَ زيّه إلى زيّ أوربي ولبس قبّعة متأثرا بألأنقلابات ألّتي قادها مصطفى كمال أتاتورك بعد تأسيس ألجمهورية ألتركية على حطام ألأمبراطورية ألعثمانية.
في أحدى ألمرّات سألت والدي عن سبب تركه للدروشة فقال ” في إحدى ألأيام وعندما كنت راجعا من ألتكيّة في ألليل وكان ألوقت متأخرا شاهدتُ قسم مِن زملائي ألدروايش ألمسلحين بألبنادق وهم يقطعون طريق أحد ألمارّة ويسلبونه، هذه ألحادثة تركت في نفسي جرحا عميقا ولَمْ أستطع ألتخلّص مِن تأثيرها، وقد تركت ألدروشة بعد هذه ألواقعة بعدّة أيام “، والجدير بألذكر بأنّ بعض المتصوفة كانوا يمارسون سرقة اموال الاغنياء ويوزعونها على المحتاجين والفقراء، على أنّ ألمتصوفة وقعوا في ألنسخ ألأكبر بدعوتهم إلى ” إطعام ألدنيا للجياع ” ففيه إبطال لحكم ألزكاة وتوسيع لحكم تحريم ألإكتناز بإشاعة ألأموال مما يعني إجراء تعديلات جوهرية على فقه ألمكاسب كما فعل القرامطة. ولو أنّهم لم يحكموا لنرى ماذا كانوا سيفعلون لتحقيق دعوتهم في دولتهم.
أعتقد أنَّ ألسبب ألآخر لتركه ألدروشة وألّذي لَمْ يذكره والدي هو استشهاد جدّي في معركة جناق قلعة، فهذه ألحادثة جعلت شعوره ألقومي يطفو فوق سطح لاشعوره، وبما أنَّ مُعظم مرتادي ألتكيّة وشيخهم كانوا مِن ألأكراد، فلمْ يستطعْ والدي ألتوفيق بين شعوره ألقومي ألجارف وكونه درويشا تحت أمرة كردي، وقد يكون سمِع بحكاية ألشيخ تشرشل وهذه ألحكاية تدلُّ على سيطرة ألأنكليز ألّذين كان والدي يمقتهم على ألطريقة ألكزنزانية في كركوك ويوجهونها لتحقيق مآربهم في كركوك ألغني بالذهب ألأسود.
رافقتْ هذه ألتغيُّرات ألدراماتيكية تركه لمهنة ألسراجة وأختار مهنة ألكُتبي ألّتي كانت مهنة قلّما يمتهنها أحد في تلك ألأيام وأسس أول مكتبة لبيع ألجرائد وألمجلات وألكتب في مدينة كركوك، وخصص ركنا منها للمطالعة.
…..يتبع
من مسوّدة كتاب (لعنة ألذهب ألأسود) للكاتب