وهكذا مرت الأيام متسارعة في خضم إنشغالي بالعمل وبناء بيت الزوجية، لكن سحابة من القلق بدأت تخيم على حياتنا السعيدة، فبعد مرور ستة أشهر على زواجنا لم تظهر أية بوادر للحمل على زوجتي، وبدأنا نطرق ابواب الأطباء ولكنهم جميعا بينوا لنا عدم وجود أي عائق جوهري للحمل والمسألة عبارة عن إلتهاب تمت معالجته.
كانت فرحتنا غامرة عندما ظهرت بوادر الحمل على أسماء، وفي مساء ذلك اليوم قررنا الإحتفال بهذا الحدث السعيد في حدائق جمعية المهندسين العراقية وهناك أحتسيت نخب القادم الجديد بدون تذمر أسماء لأنها كانت لا تحبذ معاقرتي للخمر ولكن وقع الخبر السعيد أنساها تحفظها على رفيقي القديم، فسكرت تلك الليلة مرتين.
إن الرغبة والشوق في أن يكون للإنسان خلف من صلبه غريزة متأصلة في جيناتنا ونعتقد بأنها إحدى الوسائل للخلود، وعند قدوم الوليد يحس الوالدان بأنه إستمرارية لهما في الحياة بالرغم من أن هذا الوهم الجميل لا يمنع فناء الإنسان ولكنه يخفف من وطأة الخشية من الموت.
عندما نموت، يمكننا أنْ نخلف وراءنا شيئين هما الجينات والميمات، والميمات هي كيانات متضاعفة أو مستنسخة ناقلة للثقافة. لقد بُنينا كآلات جينية وأُوجدنا لننقل جيناتنا. لكن هذا الجانب منا سيصبح منسيا بعد ثلاثة أجيال. فأبني أو حتى أبن حفيدي قد يشبهني، ربما في بعض ملامح الوجه أو في موهبته الموسيقية أو لون شعره. لكن مع مرور كل جيل تتناقص مساهمة جيناتي إلى النصف.
ولن يمر وقت طويل قبل أنْ تصبح النسبة زهيدة جدا. فقد تكون جيناتنا خالدة، لكن مجموعة الجينات التي تشكّل كل واحد منا محكومة بالتلاشي. فلا يُفترض بنا أنْ نبحث عن الخلود في التوالد.
لكن إنْ أنا ساهمت في ثقافة العالم، كأن طورت فكرة جيدة أو ألفت لحنا موسيقيا، أو أبتكرت شمعة إشعال، أو كتبت قصيدة، فقد يبقى إنجازي على حاله حتى بعد مرور وقت طويل على ذوبان جيناتي في الجمعية المشتركة.ربما لا يشتمل عالمنا اليوم على جينة حية أو أثنتين من جينات سقراط، ولكن من يكترث؟ فالمركبات الميمية الخاصة بسقراط وليوناردو دافنشي وكوبرنيكوس وماركوني لا تزال تنتشر.
غيَرَ هذا الحدث السعيد مجرى حياتنا، فالمشاكل التي تحدث بين الزوجين المنحدرين من بيئتين ونفسيتين مختلفتين بدأت تقل وتعمق أحاسيسنا بوحدة المصير والإرتباط الأبدي، والوليد قبل قدومه أزال الملل والرتابة التي كانت تزحف على الحياة الزوجية.
في ظهيرة اليوم الموعود جاء المولود المنتظروسميناه أرجان، وعمت السعادة في أرجاء المسكن وأنشغلنا بالعناية بالقادم الجديد والإهتمام بمستلزمات معيشته.
حياة الإنسان مليئة بالمتناقضات فالميلاد يعقبه الموت والموت يعقب الميلاد كتعاقب الليل والنهار وعجلة الزمن تدور والإنسان مكتف عليها يدور مع دورانها نحو المجهول.
الإنسان لا يستطيع أن يمنع نفسه من طرح الأسئلة الوجودية كما تساءل مؤلفو أسفار اليوبانشاد الهنود عن السر في هذا العالم الذي عزّ على الإنسان فهمه:
“فمن أين جئنا، وأين نقيم، والى أين نحن ذاهبون؟ أيا مَن يعرف “براهمان” نبّئنا مَن ذا أمرَ بنا فإذا نحن هاهنا أحياء.. أهو الزمان أم الطبيعة أم الضرورة أم المصادفة أم عناصر الجو، ذلك الّذي كان سبباً في وجودنا، أم السبب هو من يُسمّى “بوروشا”- الروح الأعلى؟.
وأوّل درس سيعلّمه حكماء اليوبانشاد لتلاميذهم المخلصين هو قصور العقل، إذ كيف يستطيع هذا المخ الضعيف الّذي تتعبه عملية حسابية صغيرة أنْ يطمع في أنْ يُدرِك يوماً هذا العالم الفسيح المعقّد، اليس مخ الإنسان إلاّ ذرة عابرة من ذراته؟ وليس معنى ذلك أنّ العقل لا خير فيه، بل إنّ له مكانة متواضعة، وهو يؤدّي لنا أكبر النفع إذا ما عالج الأشياء المحسوسة وما بينها من علاقات، أمّا إذا ما حاول فهم الحقيقة الخالدة، اللانهائية، أو الحقيقة في ذاتها، فما أعجزه من أداة.
لكن العقل يمكن ان يتوصل إلى حقيقة الأديان بعد دراسة متمعنة ومقارنة لمحتويات الكتب المسماة بالمقدسة، فبعد دراساتي للأديان الإبراهيمية ( اليهودية والمسيحية والإسلام) وبعد الإطلاع على معتقدات وأساطير الحضارات الرافدينية والفرعونية والأساطير والديانات في الهند، توصلت إلى نتيجة مفادها بأن جميع الأديان مؤلفات بشرية والأنبياء حاولوا الإجابة على الأسئلة الوجودية حسب ثقافتهم ومعظمهم توهموا بأن وحيا نزل عليهم من السماء أو كلمهم الإله مباشرة.
يتبع
من مسودة كتاب (لعنة الذهب الأسود)