قبل مدة مات شيخ إحدى العشائر العراقية المعروفة، كان الشيخ المرحوم قد ورث “شيخيّتهُ” من والده الشيخ، فشيخ العشيرة عندنا في العراق بمثابة رئيس دويلة أو ملك مملكة مصغرة –خاصةً في عهدِ ديمقراطية العراق- لديه السلطة التشريعية والتنفيذية في نفس الوقت، فهو الرئيس والقاضي والفقيه، إذ لا طعن في حكمه ولا كلام فوق كلمته، كلما كانوا سرسرية عشيرته شرسين كلما كانت كلمته مسموعة عند باقي القبائل والعشائر، ربما يستغرب البعض من مصطلح الـ”سرسري”، فالسرسرية يطلق على الشباب المشاغبين داخل العشيرة الذين لا عمل لهم سوى التخويف والتهديد والضرب والنهب وفي بعض الأحيان ربّما القتل!! فمن مواصفات السريري أن يكون خريجَ سجون ولديه سوابق إجرامية، ميّت الضمير والرحمة، فقيراً في حدّ ذاته، يعطيهم الشيخ قوتاً لا يموت، يقف معهم عند الشدائد، ليستخدمهم عند اقتضاء الحاجة.
كان الشيخ المتوفى لا عمل له ولا صنعة سوى لسانه السليط وشخصيته الصلبة، يملك عدّة أملاك من البيوت والسيارات والمواشي، حصل عليها إمّا بالإرث وإمّا من الديّات و”الفصول”، علّمه والده المرحوم منهجاً ثابتاً ينتهجه ليديم له ملكه وزعامته، ألا وهو منهج الجاهلية البغيضة: انصر أخاك ظالماً كان أو مظلوماً، فإنه نهج آبائه الأولين، علّمه أن يحوّل الحق باطلاً ويحوّل الباطل حقا.
كان يوم وفاته يوماً مشهودا، وكأنما مات نبياً أو وصياً أو نائب وصي، أطلق أبناء قبيلته العيارات النارية في الهواء بطريقة عشوائية وجنونية، الذي لم يعلم بوفاته ظن انه في وسط ساحات حرب القادسية الثانية، لا احد منهم فكر بتلك الطلقات أين تستقر؟! في رأس طفل أو صدر امرأة؟! جلُّ همّهم هو استعراضهم وتفوّقهم على “عراضات” العشائر المنافسة، أو ربما قضاء وقت ممتع، فمنهم لا يكتفي بالبندقية أو الرشاش ليجلب الأسلحة الثقيلة التي يحاسب عليها القانون ضمن مادة أربعة إرهاب، لكن هنا يتغاضى النظر أهل القانون لأن تلك العشيرة أداة من أدوات الفوز بالمنصب والكرسي، شُيِّعَ الشيخ تشييعاً مهيبا حضره كلّ ذا مصلحة، ودفن في مكان استراتيجي قرب مرقد أمير المؤمنين الذي يحلم به كل ميت، حتى يشفع له صاحب تلك البقعة في وحشة القبر! وكأنما يغفر الله كل ذنوبه التي آذت المساكين والفقراء إذا دفن قرب مرقد صوت العدالة الإنسانية!
دُقّت صور الشيخ في كل مكان وكانت صورته المبتسم بها توحي بـ”خيوريّته” وحبه للناس، لكن الطامة الكبرى هي الآية التي كتبت تحتها بخط الثلث الجميل: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي!! وتحتها صدق الله العظيم، مجاملة لأهل السنة الذين ربما يأتون لمجلس العزاء. هكذا أصبحت الآيات القرآنية لعبة بأيدي الجُهّال، وللحديث بقية.