18 ديسمبر، 2024 7:06 م

عندما رأيت يد احدهم تمتد الى مقعدي، كانت عيناي مغمضتين؛ لتأخذ من حقيبتي محفظتي، ومن ثم استلت هذه اليد رزم الاوراق النقدية، وتدسها يد الرجل في جيوب بزته المرقطة، واحدة وراء اخرى، حتى لم يبق جيب فيها، لم يستخدمه، بينما ظلت واحدة من الرزم، تلفت حوله، لكنه، سرعان ما دفنها في عبه. لم استطع ان امنع هذه اليد، او امسكها وانتزع محفظتي؛ لأني كنت حينها بين اغفاءة مؤلمة لعينين شبه مغمضتين، وواقع ملموس ظهر كما الحلم. بدى لي هذا الشخص كطيف حلم، مر ولم يختفِ. في رمشة جفن العين، صرت هناك؛ اراقب المشهد، أو قل المأساة، أو الفاجعة، ليس هناك فرق. على الرغم مني؛ انشغلت في متابعة ما يجري، من غير ان يكون باستطاعتي الحركة، أو اطلاق صيحة لمنعهم. فقد اصابني الذهول عندما رأيت هذه المرة، بصحبة الرجل الذي أخذ محفظتي، عدد من الرجال كانوا يرتدون بزاة عسكرية مرقطة تشبه تلك التي يرتديها الضباط والجنود، هنالك، في القاعدة العسكرية القريبة من منزلي. الرجل الذي أخذ محفظتي، كان يفتر كما اللولب، يدور حول محوره، بين جماعته، وبين حزم الدخان التي تواصل الصعود. قام البعض من المرافقين له؛ بانتزاع الساعات من المعاصم، والاستيلاء على بقية الاغراض، ووضعوها في الحقائب التي على ظهورهم. رأيتني اتألم كثيرا لفقداني لمحفظتي التي فيها، مبلغ من المال، جمعته خلال اقل من شهر، قبل ان اغادر. اشعرتني المناظر هذه بالقرف منها، قرفا معجونا بألم الخسارة، ووجع في رأسي وصدري، خف في الثواني التالية. لذا تحركت بلا حركة كما في حلم ضج بالحسرة. تركتها على الرغم مني، بإرادة خارج إرادتي، حين بدأ عقلي، قبل ثواني، يركض بين تلافف دماغي. نزلت ومن ثم مشيت الى اليسار، مبتعدا عن الجموع التي واصلت نزولها. وقفت، انظر قبالتي وحولي، باحثا عن اخي وزوجه.
اخبراني بأنهما سيكونان بانتظاري ساعة وصولي. :- جمال نحن هنا. ركبنا في سيارة أجرة. كان اخي قد اشار لسائقها بالتوقف، عندما توقفت اعطاه العنوان، بعد اتفاقهما على الأجرة. كنت انظر موجوعا الى المدينة التي بدت عليها بوضوح اثار الخراب والدمار الذي خلفته المعارك. سألتني هل هذه الاطلال هي التي يشع منها، اشعاعات اليورانيوم المنضب، الذي قرأت عنه عدة مقالات علمية وسياسية في الصحف هناك. لم تكن المدينة نائمة في هذا القطع الأخير من الليل كما هي مدن هذا الكون. كانت ضاجه بتحركات الحرب، ذكرتني بحرب الثماني سنوات. اسمع ازيز الطائرات في اعماق السماء البعيدة، وهدير سرفات الدبابات وهي تدوس اسفلت الطرقات التي ربما مشيت عليها ذات مساء او ذات صباح، قبل عقدين، عندما كنت شابا مفعما بالآمل وحب الحياة. شعرت بالاختناق ورغبة عارمة بالبكاء، بالكاد سيطرت على خلجات نفسي التي تمور بطعم الخسارة المر، ومنعتني من البكاء بصوت مسموع، انما بكاء قلبي خرج عن سيطرتي، لقد كان صارخا ومدويا. احسست به يمزق اضلاع صدري. الطرق تلك كانت قريبة من الطريق الذي تسير عليه السيارة التي اقلتنا. كنت اتأملهما، حولي، في جوف المركبة الصغيرة، كانوا في صمت مطبق في هذا الليل الموحش كما هو السكون في ليل مقبرة تلفها او غارقة في العتمة. لا يخترق هذا السكون الذي ايقظ شيطان الرعب والخوف في نفسي الا اصوات الرصاص ودوي الانفجارات التي تسمع من امكنة متفرقة، وبعيده، وقريبة. وقفنا امام الباب. انشغل اخي بفتح باب البيت الذي كان غارقا في الصمت والسكون. بينما هو منشغلا بفتح الباب الذي على ما يبدو استعصى عليه فتحه. التفت زوجه ألي، قالت: نعيش وحيدان، وقلقان، وخائفان، في هذا البيت الصغير؛ لأن مالك البيت يهددنا بالطرد. لا نستطيع منعه حين ينفذ ما وعد به من تهديد، فقد كان يجيء في كل مرة مع زمرة من المسلحين غلاظ القلوب، قساة. استمر أخي يعالج القفل بتؤدة وهدوء كما هي عادته التي عرفته بها منذ كان شابا يافعا. تركته يعالج القفل واخذت أتأمل السماء التي يضئها في أخر ساعة من هذا الليل، قمرٌ، تحيط به نجوم الله. انما ما عكر صفو هذا المنظر الأسر لسماء بغداد؛ تواصل اصوات الرصاص، ودوي الانفجارات حتى وانبلاج الفجر على الأبواب، تُسمع من كل مكان في المدينة. فتح الباب اخيرا. بعد أن انتهينا من شرب اقداح الشاي التي تلت وجبة طعام خفيفة تلائم هذه الساعة من ليل في الطريق الى المغادرة. كان وجه اخي تعلوه تقطيبه حزينة الى الدرجة التي لم اره فيها، أولم أره على هذه الحالة حتى في اشد حالات الخوف التي كانوا يتعرضون لها بسببي؛ هو وابي وامي. :-
سألته ما الذي يجعلك صامتا وحزينا الى هذه الدرجة؟ لا شيء، ليس عندي ما يستحق القول، المهم عندي رؤيتك بعد غياب طويل، لم اتصور اني ذات يوم سوف أراك. لم يكمل، أو لم يسترسل في الكلام، عاد صامتا وحزينا. من جانبي احترمت هذا الصمت. مع اني وبمعرفتي بأخي، وبقدرته وطاقته الكبيرة في الحديث؛ تأكدت من ان داخل هذا الصمت، كم هائل من الرؤى والألم. انما لم ابح به له. لكن زوجه كي تداري وتملء هذا الفراغ؛ تولت الاجابة بالإنابة عنه، بينما هو ظل صامتا، لم يتفوه بأي كلمة، سوى بعض الكلمات، كلمات الترحيب والفرح باللقاء بعد غياب لعقود التي كان يقولها بين الفينة والفينة الأخرى. :- يا اخي جمال؛ ان اخاك عادل، منذ ثلاثة اشهر، اي منذ نيسان،
لاذ بالصمت والسكوت حتى انه، لم يرد على مالك هذا البيت عندما هاجمه بكلمات نابية، وهما على عتبة الباب، حين طالبنا بإخلاء البيت، بحجة انه يريد ان يرممه حتى يكون جاهزا كي يعرضه للبيع. كنت وراء فردة الباب، استمع الى هذا الكلام الجارح من صاحب البيت، وداخلي يمور بالألم والغضب معا. كنت خلال هذين الشهرين، احاول ان ازيل عنه كرب ما هو فيه، أو ما هو غارقا في أتونه، لكني مع الأسف لم انجح في سعيي هذا، فقد كانت الكأبة، تغلق عليه جميع منافذ الهدوء والسكينة. كان خلال هذين الشهرين غاضبا باستمرار وعصبيا على غير ما كنت اعرفه فيه، من هدوء وسكينة مفعمة بالحب والرقة المفرطة؛ لأقل خطأ وحتى وان لم يكن خطأ، فقط حين لا يروق له. لكنه مع ذلك السكوت كان يتمتم او كان يفكر بصوت مسموع حين يكون في المكتبة. في احد المرات كنت بالقرب منه، لم يشعر بوجودي، فقد كان يقرأ في رواية شرق المتوسط للروائي عبد الرحمن منيف. رفع رأسه، وحدق في الجدار الممتلء بالكتب، وقال ما اشبه اليوم بالأمس. لم أنم في الليلة التالية مع اني لم انم في النهار ولا في الليلة السابقة. ظللت اتفكر في الوضع الذي آل إليه اخي. كان هناك في داخله ما يسلب منه الراحة والفرح، احتمى بالصمت من اسئلتي المتكررة عن ما يشغل ذهنه ونفسه، لم يجب على اسئلتي، اجابة شافية، او اجابة مقنعة، فقط بعض الكلمات من قبيل لا شيء يشغل بالي، والمهم عندي، رؤيتك بعد غياب طويل.
كان يجيب. مما جعلني في نهاية المطاف، ان احترم صمته هذا. انما أنا لم اقتنع بهذه الاجابات، حتما كان هناك ما يسبب له كل هذا القلق والكأبة والحزن، ليس من بينها، هم البيت بعد ان طمأنته على اني سوف اجمع المبلغ المطلوب له، حين اعود خلال شهر او اكثر قليلا. الحزن بدى واضحا عليه، مهما حاول ان يخفيه عني؛ بابتسامات هي اقرب للبكاء منها الى الفرح :- ما هذا البكاء والنواح؟ سألت نفسي بصمت. فقد كان هنا بكاء لم اسمعه من قبل. بدى لي كأنه نشيج قادم من مكان بعيد مع انه بالقرب مني. كانت زوج اخي تبكي بكاءا مرا، وتنوح وتندب. انما اخي كان مطرقا برأسه الى الارض. فيما التلفاز يبث الاخبار. الآن مع مراسل الحرة عراق في موقع سقوط الطائرة: سقطت طائرة بوينك 747أثناء محاولتها الهبوط في مطار بغداد. قام فصيل من قوات المارينز بأخلاء ضحايا الطائرة المنكوبة، أذ لم ينج احدا من ركاب الطائرة. فقد فارق الكثير منهم الحياة في الطريق الى المشفى، ممن لم يزلوا على قيد الحياة اثناء عملية الانقاذ..