توارثَ الاخوة الفلسطينيون مَثَلا رائعا يستخدمونه في المواقف الأشد تناقضا، فيقولون” مجنون يحكي .. عاقل يسمع”.
ووجدتُهُ أكثر ما ينطبق من أمثال على ما ادلى بيه وزير خارجية امريكا على هامش زيارته للعاصمة الفنلندية هلسنكي في اطار الاستعدادات الغربية لقمة حلف شمال الأطلسي في تموز/ يوليو المقبل في فيلنيوس عاصمة ليتوانيا.
قال ” أنتوني بلينكن” إن بلاده لن تسمح للرئيس الروسي بوتين بفرض إرادته على الدول الأخرى” واستهجن قيام بوتين بغزو الاراضي الاوكرانية وتهديد السلم والامن الدوليين وتشريد الاف الاوكرانيين من منازلهم” على حد قوله”.
لو تحدث بلينكن بهذا المنطق أمام قبيلة “وورانى” البدائية في غابات الأمازون التي ما زال أفرادها يعيشون منقطعين عن العالم لحظي بفرصة أكبر في التصديق.
لكن أن يتحدث أمام شعوب تختزن كمّا هائلا من ذكريات التدخل الامريكي المرير في شؤون الدول والشعوب، وترى وقائع هذا التدخل ماثلة في العديد من بلدان العالم اليوم، فهو أمر أقل ما يوصف بأنه “نفاق صلف”.
فإذا كان اجتياح روسيا لأوكرانيا تدخلا وجريمة في العرف الأمريكي، إذن بماذا يوصف اجتياح العراق في 2003 والبقاء فيه والاصرار على بناء قواعد عسكرية امريكية على أراضيه دون رغبة العراقيين؟.
وبماذا يوصف تسليح امريكا لسفارتها في بغداد بمضادات صواريخ، والقانون الدولي يعتبر السفارات محمية بالأعراف والالتزامات وليس بالأسلحة والدبابات؟.
ثم ماذا يوصف الفعل الامريكي بأسقاط الرئيس الليبي معمّر القذافي وتمزيق ليبيا ودعم مليشيات مسلحة على حساب اطراف ليبية اخرى؟.
لا يمكن أن نحصي كل التدخلات الأمريكية في هذه العجالة بدءً من فيتنام وبنما وكوبا ومصر ولبنان وأفغانستان والعراق والسودان وسورية واليمن وإيران، والقائمة تطول.
لكن يمكن وصف الدور الامريكي في العالم بإيجاز فنقول إن” وكالة المخابرات المركزية الامريكية تتحكم بنصف العالم وتعبث بأمن النصف الآخر” !.
فمعلوم أن معظم حروب منطقة الشرق الأوسط على الأقل كانت حروب تحريك، برعت في اثارتها وكالة المخابرات الامريكية بالتعاون مع مخابرات بريطانية.
خدم الغرب فيها عملاء أوصلتهم المخابرات الامريكية الى سدة الحكم في بلدان مهمة بانقلابات عسكرية فأدوا أدوارا كانت بالنسبة للغرب مثالية، وبعضهم مازال في السلطة.
وإلا ماذا جنت منطقة الخليج والشرق الاوسط من حروب عبثية وقعت خلال القرن الماضي ومطلع القرن الحالي سوى الكوارث والدمار، بينما عززت امريكا حضورها العسكري والاقتصادي وفرضت اتاوات على دول المنطقة متذرعة بتلك الحروب المفتعلة.
من المقنع أن تتبنى الادارة الامريكية خطابا واضحا يقوم على مبدأ “الانتصار للمصالح” بعيدا عن شعارات الانسانية وحقوق الانسان، وستُسهّل على خصومها آنذاك وصفها بالدولة العنصرية.
لأن مسطرة حقوق الانسان والانسانية واحدة لا تقبل التجزئة، فحين تقتل الشرطة الامريكية مواطنا أسود وتمارس العنصرية ضد السود، فلا يمكن لأمريكا ان تقنع الشعوب بأنها بلد المساواة.
وحين تناصر امريكا اسرائيل وهي تغتصب اراض مملوكة لغيرها، على حساب الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين، فلا يمكنها أن تتاجر بحقوق الانسان.
فكما من حق الاوكراني العيش بسلام يحق للفلسطيني والسوري والعراقي وكل الشعوب ان تتمتع به.
هذه بعض من معايير العدالة والمساواة، التي تتجاهلها العين الأمريكية فتبكي حرقة على حقوق الاوكراني، فيما تبتهج برؤية آلام غيره من الشعوب العربية والاسلامية.