19 ديسمبر، 2024 12:03 ص

لدغة المنديل : رحمن خضير عباس(سوَيج الدجة)

لدغة المنديل : رحمن خضير عباس(سوَيج الدجة)

ملتقى جيكور الثقافي يحتفي بالأديب رحمن خضير عباس / 17 تشرين الثاني 2022

إلى بطل ذلك الزمان : طارق السبهان

(*)

الروح المرِحة تتضوع من كتاب رحمن خضير عباس، هل تلقف المؤلفُ كرةالمرحِ مِن (محسن كنين) ..(محي يوسف ذياب) ..(كتاب) ..(هليل صيهود)..(عبد الهادي ملبس) وأيضا من(دكان كشمر) وغيرهم…ربما هذا المرح من النباتات الغزيرة في حقول سوّبج الدجة ومن الجائز أن الروح الفكهة هي ذرات هواء الحقول والنهر وتوابل البيوت  

(*)

السنواتُ بنوايا لص تنفثُ ضبابها في أعمارِنا ، يتراكم البياضُ النديبهدوءٍ في الذاكرة على هيئة نعمة نسيان، لكيل لا نتذكر أعني نغوص في فيافي وأفياء الذاكرة، فكيف إذا قررنا تسطيره  كتابة ً؟ رحمن خضير عباس يعترف ويبرر: (كلما حاولتُ الشروع في الكتابة أتراجع قليلا، لأني لا أمتلك المعلومات التي تؤهلني للكتابة، سوى نتفٍ من ذكريات الطفولة التي تعتقت ما ينيف على نصف قرن./ 7) نفترضُ تجلى الماضي، فلا يكفي ذلك إذا لم تتقد درجة الاتقاد وتفرك الصدأ ومشتقاته وبشهادة رحمن (أحتاج إلى جهد كي أحاول صقلها وتقديمها بشكل مقبول)

(*)

مَن يتذكر ليس مؤرخا، فهو يتذكر ويتخيل وهكذا يمزج الألوان الحارة والباردة ليمنحنا مشهدا يتجاور مع لذة القص وبنكهة ٍ يقترضها من مؤرخ وامض(أكتبُ ما يشبه الرواية التي استنبطتها من واقع السويج/ 9).. ذاكرة واحدة لا تكفي بسبب أغبرة الزمان ،لذا تستعين ذاكرة رحمن بذواكر  رفقته ويسطر أساميهم عرفانا بالجميل  وفي الفصل التاسع عشر والذي يليه من الكتاب يحصل القارئ على ألبوم أسماءأولئك (الآخرين ظلوا على هامش الحدث، ولكي تكتمل ملامح الصورة سأتحدث عن انطباعاتي عنهم/ 191)

الفصل الأخير فهو مكرّس للشهيد الشيوعي طارق السبهان الذي(وجت جثته مرمية على الرمل في الطريق الذي يربط الناصرية بالبصرة، كانت ملامح القتيل غير واضحة، فتبدو عليها هزال التجويع والتعذيب الذي طرّز جسده النحيل بالكدمات، قبل أن تخترق خمسُ رصاصات صدره../ 218)

طارق السبهان تلقف زهرة الرمان في شبابه من حسين العامل وهو شقيق الشاعر رشدي العامل..

(*)

رحمن خضير يتناوب سرده ،بين التوثيق بخطه الافقي، والكتابة الفنية العالية الجودة قصصيا، فحين ترسله أمه إلى دكان أبيه تعطيه منديلا ليكون مظلته ضد الشمس وهو في الطريق يخبرنا (فجأة رأيت بابا قد فُتح بمهل، ووجدت وجهين لفتاتين صغيرتين من فتحة الباب شبه الموصد، أحداهما أكبر مني وأخرى في نفس عمري، فكلنا سندخل المدرسة العام القادم، كنت أدرك بأن هذين الوجهين الصغيرين مألوفان بالنسبة لي، فأمي تعرف أمهما، ولكننا لا نزور بعضنا رغم أن بيتهم لا يبعد عنّا كثيرا. وقد استفسرتا بحياء عن سبب خروجي في هذه الظهيرة، فكذبت عليهما في أنني أريد أن ألعب، فأشارا إلي أن أدخل البيت. فكرّت بيني وبين نفسي، سألعب وقتا قصيرا ثم اكملُ طريقي بعد ذلك لتأدية المهمة التي كلفتني بها أمي../ 31) ينغمر الصغير بلعب مع الصغيرتين في البيت الكبير الذي يحتوي كوخا وحيوانات متنوعة،

كانوا يؤدون أدوار الكبار يقلدون أفعالهم وحكاياتهم انهمكوا في حياة افترضوها ولعبوا العابا متنوعة انغمر الصغير في اللهو فغمرهُ الوقتفجأة

تنمد يده في جيب دشداشته(فتلمستُ المنديل الذي اعطته أمي لي وكأن عقربا لسعتني وشعرت بخوف خفي وأنا أتذكر مهمتي التي نسيتها/ 32) الصغير لم يتذكر ولن يتذكر فاللهو سلطان . يد الصغير هي التي تذكرت، وهنا انتقل المنديل من فاعلية المظلة إلى فاعلية العقرب التي تلدغ والعقرب هو السيف الذي هو الوقت إن لم تقطعه قطعك. حين يغادر بيت الصغيرتين تلطمه المباغتة الجماهيرية  فالكل يبحثون عنه في النهر والكل على حق في ذلك. الصغير كان غريقا في لهوٍ غميق وكان البيت الريفي الكبير هو النهر وسيكبر الصغير ويمكث في (ذكريات طفولته التي تعتقت ما ينيف على نصف قرن/ 7)..

(*)

اللقطة القصصية الأخرى هي: تجسد حلم الولد الصغير في شراء نفاخة ً وحين يتحقق الحلم، فيسعد الطفل  بألوانها المتماوجة وكرويتها، مرة يصفعها لتعلو ومرة يحضنها ويشدها بخيط لتسهر الليل عالية ً، ولم يكتر لتحذيرات أبويه فجأة تسقط النفاخة على قدر ساخن لتصبح خرقة مجعّدة فتنهمر الدموع من عيني الولد الصغير، وحين ينام دامع العينين: نفاخات ٍ ملونة ً تشبه الفراشات تحمله فوق المدينة، يرى مدرسته من علوه الشاهق وكأنها مكعبات صغيرة ويرى النهر/ ص158 الصغير في يقظته كان يعلو مع نفاخته البهيجة، الحلم عوّضه ُ بكثرة من النفاخات التيجعلته ساميا . من جهة أخرى قد يكون الحلم هنا نبوءة لما سوف يصل إليه المؤلف في مستقبل الأيام فالعلو يمكن تأويله بالنأي عن المكان الأم .

(*)

الحصان وسيلة الأب لصيد الحكايات وتحصيل السداد المتأخر. أصحاب الدكاكين يبيعون بالدين للمزارعين ويتم تسديد الديون في موسم الحصاد أوجني المحاصيل، يعتلي الأب حصانه ليعود بعد أسبوع بالمال والحكايات من الحكايات تتضوع رائحة القهوة المهيلة على إيقاع رنات الهاون / 189

والإصغاء للحكي له مؤثراته الطيبة على الصغير رحمن خضيرعباس(كانت أحاديث أبي تروق لي حينما يتحدث مع الضيوف أني أحفظ ُ حكايات أبي عن ظهر قلب ../ 14)

(*)

حين انتهيت من قراءتي الثانية للكتاب الماتع : تساءلت قراءتي، ألا يوجد في البقعة الريفية العراقية سوى الطيبة والتعاون والمحبة؟ هل ذاكرة الولد الصغير الجميل لا تريد أن تتذكر إلاّ الجمال بكل تنويعاته الثرة..؟

*رحمن خضير عباس/ سوّيج الدجة/ أصدار الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق/ بغداد/ ط1/ 2021