في حين تشهد ارض فلسطين حرباً إجرامية دموية بحق شعبنا في قطاع غزة ، وترتكب خلالها أفظع المجازر بحق المدنيين العزل ، أطفالاً وشباباً ونساءً وشيوخاً ، وأبشع جرائم الحرب ضد الإنسانية على أيدي قوات الغزو الاحتلالية الإسرائيلية ، يواجه المسيحيون في بلاد الرافدين ، العراق ، وبالذات في الموصل ، بحكم انتمائهم الديني ، جرائم تطهير عرقي وإبادة جسدية جماعية من قبل عصابات تنظيم “داعش” الإرهابي وتيارات سلفية وظلامية وتكفيرية أخرى بمسميات مختلفة ، تمارس القتل والذبح واقتراف الجرائم الوحشية ضد أبناء الديانات والطوائف المتنوعة ، وبحق المسلمين والمسيحيين الذين لا يتفقون مع فكر هذه الجماعات والعصابات التكفيرية المتطرفة ، وكل ذلك تحت يافطة الإسلام ، والإسلام منها براء .
ومنذ أن وطأت أقدام الإرهابيين الداعشيين تراب الموصل ، وبعد أن استولت عليها وأعلنت قيام” دولة الخلافة الإسلامية ” فيها ، بدأت بتطبيق نهجها العدواني المجرم الذي اختارته لدولتها تجاه أتباع الديانات والمذاهب الأخرى ويكشف طبيعتها وحقيقتها ، فأخذت تقتل كل من لا يتفق مع فكرها ، وتحصد أعداد هائلة من الشيعة وأئمة المساجد الذين رفضوا مبايعة الخليفة . وانطلاقاً من مبدئها ومعتقدها أن لا وطن لغير التكفيريين من أبجديات تنظيم دولة الخلافة ، فقد خيرت مسيحيي الموصل بين إشهار إسلامهم ودفع الجزية أو مغادرة مدينتهم التي أحبوها وعاشوا فيها قروناً ودهوراً جنباً إلى جنب إخوانهم المسيحيين ، الأمر الذي دفعهم واضطرهم للهجرة والنزوح . وهكذا أفرغت الموصل من أهلها الأصليين من بناة الحضارة والثقافة العراقية ، ومن احد مكوناتها الدينية والثقافية ، وتغيرت معالمها بعد سيطرة داعش عليها ، التي راحت ترفع الآذان على كنائسها .
إن المسيحيين في العراق هم جزء عام ومكون أساسي من مكونات الشعب العراقي الواحد ، ذي الأصول المتعددة ، وامتداد لشعوب تاريخية سكنت واستوطنت بلاد دجلة والفرات ، وبنت حضارات وثقافات وأمجاد ما تزال بصماتها وملامحها ظاهرة في العراق ، من البابليين والأشوريين والكلدانيين والسومريين وسواهم . وما تقوم فيه هذه الحركة الداعشية المجرمة الهدامة من ممارسات اضطهادية دينية وعرقية هي جرائم ضد الإنسانية وعمليات إبادة وتصفية للحضارات والمقدسات والثقافات الإنسانية وشطب للتاريخ الحضاري العراقي .
إنها ممارسات غير أخلاقية وغير إنسانية بعيدة عن روح الإسلام وتعاليمه ، وتفسد جوهره ، وتسيء لصورته المشرقة السمحة ، وتشوه ديننا الإسلامي الحنيف الذي يقول بصريح العبارة ” لا إكراه في الدين ” و” لكم دينكم ولي دين ” .
في الحقيقة أن ما يجري في العراق هو من إفرازات ونتاج الاحتلال الامبريالي الأمريكي البغيض ، الذي زرع وغرس نظام المحاصصة الطائفية القمعي الإجرامي الاقصائي ، وعمق الطابع الطائفي في العراق كخطوة أولى على طريق تقسيم وتجزئة وإضعاف وتفكيك هذا البلد العربي العريق . ولا ريب أن إفراغ الموصل من سكانه المسيحيين لهو جريمة كبرى بحقه وتاريخه العربي الإسلامي ، وبحق شريحة عريقة ممتدة وضاربة جذورها في التاريخ العراقي منذ آلاف السنين ، ويشكل وصمة عار لا يمكن السكوت والتغاضي عنها ، وعليه فان إنقاذ المسيحيين كبشر هو واجب إنساني وأخلاقي يتجاوز كل الفوارق والاختلافات الدينية والقومية والمذهبية .
إننا إذ نقف وندين كل أشكال الاضطهاد والملاحقة بسبب الانتماء الديني والعقيدة المتعلقة بالدين ، ندعو المجتمع الدولي والعالم التدخل السريع لوقف جرائم داعش في العراق وإنقاذ مسيحيي العراق من عمليات التطهير العرقي والتهجير القسري ، ومن واجب القوى الوطنية التقدمية والعلمانية والمدنية والديمقراطية ومؤسسات المجتمع الديني العراقي أن تأخذ دورها الحقيقي الفاعل في التصدي لهذه الجرائم الداعشية ، لأنها لن تبقى محصورة في العراق وسورية بل ستمتد إلى دول أخرى ، والوقوف بالمرصاد لهذه الحركة السلفية الظلامية الهدامة المجرمة التي تريد إعادتنا على كهوف الظلام ودياجير التخلف ، والعمل على اجتثاث جذورها وسحقها بالكامل في المجتمع العراقي وكل مجتمعاتنا العربية .