22 ديسمبر، 2024 3:48 م

لبنان والانعزاليين الجدد…ما يكتب للمنطقة اكبر من احلامه

لبنان والانعزاليين الجدد…ما يكتب للمنطقة اكبر من احلامه

يتصاعد الخطاب الاعلامي اللبناني بما يوحي وكأن الحرب الاهلية غدا، فيما لا احد يريدها، فالمعركة تدور في مكان اخر، ونتائجها ستغير المنطقة برمتها، لذا فإن الخطاب المستعاد من ادبيات تلك الحرب(1975- 1990) يكاد يكون اجتراراً لماض لم يدرك العازفون على وتره انهم يحرثون في بحر، واقصى مايمكنه فعله هو المزيد من الشرخ الاجتماعي لا اكثر، ولا يغير المعادلات التي كتبت، وتكتب حالياً، بل هم يعبرون عن ضيق افق لا اكثر.
ثمة من نادى وينادي يتجريم جزء من اللبنانين، وجعلهم خارجون عن الوطن، والوطنية، لانه يستخدم مصطلحات اسرائيلية، غير مدرك ماذا تعني، او هو يفهمها لكنه يريد السير بها لحاجة في نفس يعقوب، لكنه في ذلك يرتكب جرماً كبيراً، في حق نفسه، ومن يمثله، لانه حين ينتقي بعض القرارات الدولية الصادرة بشأن لبنان، ويتناسى مرجعيتها الاساس، فهو يتخلى عن حقه في الوجود، وكأنه يجير بعض المكونات اللبنانية كي يكونوا ضحايا محرقة اسرائيلية، بل يرتكب خطأ حين يعتقد ان مجرد انتصار اسرائيل على المقاومة اللبنانية يعني انتصاراً له.
اولا، في الاساس، تقوم العقيدة الصهيونية على مبدأ “اسرائيل الكبرى”، وهي كما قال بن غوريون انها تضم لبنان وسورية وبعض العراق والاردن، وان لا مكان لغير اليهود فيها، وفي العقيدة اليهودية، ان اقامة الهيكل ضرورة لحكم “رب اليهود” العالم، وان اقامته لا بد ان تقوم على خشب ارز لبنان، وبالتالي لا بد من الوصول على هذا الارز كي يكون خشبه للهيكل.
اما في الشكل، فإن مجرد المطالبة بتطبيق القرار 1701، او القرار 1559، من دون تطبيق القرار المرجعي 425، الذي اساس القرارات اللاحقة يعني تجريد لبنان من حقوقه، بل نسفها من الاساس، لان عدم تنفيذ اسرائيل القرار المرجعي كاملا، وقبول لبنان ذلك يعني التخلي عن حدودها المعترف بها دوليا، والتخلي عن السيادة.
اما المطالبة بتطبيق القرار 1680 فهو ذر في الرماد بالعيون، خصوصا في ما يتعلق بترسيم الحدود بين البلدين، الذي شكلت له لجنة، غير ان الفريق المطالب حالياً بتطبيقه، هو من حاول نقضه حين كان ممسكاً بزمام السلطة عندما كانت غالبية الحكومية منه، لانه عمل على تسويق نظرية اسرائيلية يومذاك، من خلال مطالبة سورية بوثيقة تقر فيها ان مزارع شعبا وتلال كفرشوبا، والقسم اللبناني من الغجر لبنانية.
رغم ان الوثائق كافة تعترف انها لبنانية، وكذلك كان الرد السوري الرسمي ان لا يمكن لدمشق ان تصدر وثيقة في منطقة جغرافية ليست لها، وان حدود لبنان مرسمة في الدستور اللبناني، وان تلك المنطقة لبنانية، لكن اصرار الفريق اللبناني، يومذاك، كان يسعى الى جعل هذه المنطقة تدخل في القرار 242، وان الانسحاب الاسرائيلي قد اكتمل، وهذا تزييف للحقيقة، واعتراف ضمني بان المناطق التي تحتلها اسرائيل حالياً ليست لبنانية.
خطورة النظرية هذه تقوم على مبدأ خبيث هو اننا نتخلى عن السيادة من اجل مكاسب آنية، وهي تعزيز الغلبة لهذا الفريق اطول وقت ممكن، وكما انها تعني تحقيق النظرية القائلة ان حدود لبنان هي عند نهر الاولي، وليس الحدود المعترف بها دوليا، اي تحقيق نظرية بن غوريون.؟
ان هذه السياسة قائمة منذ اوائل القرن العشرين، وهي عقيدة “جمعية الفينيقيين الشبان” التي قام عليها الانعزال اللبناني، وهو نقض لكل ما فعله البطريرك الراحل الياس بطرس الحويك، الذي كان له كبير الفضل في وجود لبنان الكبير عام 1920، والذي حورب من تلك الجماعة.
هؤلاء كانوا عرابي اتفاق الكنيسة المارونية والوكالة اليهودية الموقع في 30/5/1946 وقد صاغه إلياهو ساسون ويعقوب شمعوني، وينقل المؤرخ صقر ابوفخر عن وثائق اسرائيلية ان من وقع على الاتفاق من الجانب الماروني “توفيق عواد (وهو غير توفيق يوسف عواد الاديب) عن البطريركية المارونية، و”يعترف الاتفاق بحق اليهود في أن تكون لهم دولة مستقلة في فلسطين، على أن تقوم في لبنان دولة مستقلة ذات طابع مسيحي”.
فيما يكتب الاسرائيلي رؤوفين إرليخ في كتابه “المتاهة اللبنانية”، وهو ما ينقله ابوفخر “أن تيارين تبلورا في الوسط الماروني آنذاك: تيار انفصالي يرى في لبنان وطناً قومياً للمسيحيين مع هيمنة مارونية، على أن يتم تقليص حدوده، بحيث يتضاءل وجود المسلمين فيه، وكان على رأس هذا التيار إميل إدّة والبطريرك أنطوان عريضة والمطران أغناطيوس مبارك، وتيار آخر قَبِل بلبنان في حدوده التي أعلنها الجنرال غورو في سنة 1920، وكان أشهر ممثلي هذا التيار الرئيس بشارة الخوري والرئيس رياض الصلح وميشال شيحا”.
وينقل صقر ابوفخر “أن الصحافي إلياس حرفوش قال لإلياهو ساسون الأوساط المارونية باتت تدرك أن من الضروري تقديم تنازل جغرافي لضمان الهيمنة المسيحية في لبنان، وأن من الضروري إعطاء صيدا وصور لإسرائيل المجاورة، أما فؤاد أفرام البستاني الذي التقى إلياهو ساسون وطوبيا أرازي في سبتمبر/ أيلول 1948، فقال إن من شأن الانتصار اليهودي في فلسطين أن يضمن الطابع المسيحي للبنان، ويعزّز الأقليات في الشرق، ويذكّرنا هذا الكلام بموقف إميل إدّة من اقتراح المفوض السامي الفرنسي في لبنان، هنري دو جوفينيل، في سنة 1926 الذي أيد إعادة طرابلس وعكار إلى سورية لسبب وحيد، هو أن أغلبية سكان المنطقتين من المسلمين والأرثوذكس”.
لهذا لا نستغرب هذا التخلي من فئة انعزالية عن حدود لبنان المعترف بها دوليا، وعن سيادته، فمن الطبيعي ان يتهم قادة تلك الفئة المقاومة بالاهارب، وان يتنكروا لكل ما يمكن ان يشكل قوة في وجه المشروع الصهيوني.
يفوت هؤلاء ان ما كتب قد كتب، وان العودة الى الزمن الصهيوني اشبه بحلم ليلة صيف، فلبنان لا يمكن ان يعود الى زمن المتصرفية وحدودها، لهذا فإما ان يقبلوه كما هو اليوم، والا سيجبرهم مشغليهم، او من يسمونهم “حلفاء” على ذلك، فما تنتظره المنطقة ابعد بكثير من احلام العصافير، واوهام الانعزاليين.