من يراقب الوضع السياسي في لبنان، فضلاً عن مواقع التواصل الاجتماعي قبل اندلاع حركة الاحتجاج السلمية الشعبية العابرة للطوائف في ال 17 من أكتوبر / تشرين الأول الماضي يصاب بالإحباط والقنوط لدرجة اليأس أحياناً، ولكن الواقع على الرغم من ارتفاع حدّة الصراع واشتداد حرارة السجال واندلاع الحرائق وتراكم النفايات وتلوّث البيئة وأزمات الخبز والبنزين والدولار وشحّ الكهرباء والماء، لا يعكس كامل الصورة، فثمة إيجابيات ربما غير موجودة في مجتمعات أخرى، خصوصاً فسحة العيش المشترك واحترام العقائد وحرّية الأديان والحق في ممارسة الطقوس والشعائر، وذلك تحت عناوين التنوّع والتعدّدية والحق في الاختلاف، وعلى الرغم من كل شيء فالمجتمع اللبناني يزخر بالفاعليات الفنية والأدبية والثقافية على امتداد أيام السنة.
ولهذه الأسباب ليس عبثاً أن تصدر الأمم المتحدة قراراً من الجمعية العامة في ال 16 من سبتمبر / أيلول الماضي 2019 بإنشاء «أكاديمية الإنسان للتلاقي والحوار» في لبنان، وكان الرئيس ميشال عون قد طرح مبادرته تلك منذ عام 2017، وظل يبشّر بها ويدعو إليها خلال السنتين المنصرمتين، سواء في لقاءاته مع رؤساء دول أم في إطار فاعليات دولية وعربية ومناسبات لبنانية.
وقد أبصرت الفكرة النور فعلاً حين حازت تأييد 165 دولة ولم يتحفّظ عليها سوى واشنطن، ولم يعارضها إلا “تل أبيب”، الأولى بزعم «الأعباء المالية» التي يمكن أن تتكلفها الأمم المتحدة وقضايا إدارية أخرى، أما الثانية، فبادعاء أن لبنان لا يحترم قيم السلام والتسامح والتعايش، لكن المجتمع الدولي قرر أن يكون لبنان «مركزاً دائماً للحوار بين مختلف الحضارات والديانات والأعراق».
وحين قرأت خبر تأسيس الأكاديمية في الصحافة قفز إلى ذهني أكاديميات عريقة سبقتها مثل «أكاديمية لاهاي للقانون الدولي»، و«أكاديمية السلام في كوستاريكا»، و«أكاديمية السلام الدولية في نيويورك»، و«الأكاديمية الدولية لمكافحة الفساد»، و«أكاديمية حقوق الإنسان» وهي أكاديميات تركت بصمات واضحة في الحقول التي عملت فيها، وينتظر أن تلعب «أكاديمية الإنسان» دوراً مهماً في المنطقة، وعلى الصعيد العالمي، فلبنان كان سبّاقاً في عدد من المجالات المتميّزة منها: تأسيس جامعة للّاعنف وحقوق الإنسان في عام 2009، وهو البلد العربي الوحيد الذي يحتفل باليوم العالمي للّاعنف، وهو يوم عيد ميلاد المهاتما غاندي في الثاني من أكتوبر / تشرين الأول باعتباره عيداً وطنياً، وهو البلد العربي الأول الذي قرر تعميم مادة اللّاعنف على جميع المراحل الدراسية، وقام بنصب تمثال اللّاعنف الدولي «المسدس المعقوف» في «منطقة الزيتونة باي» في بيروت.
وكما ورد في دستور اليونسكو «إن الحروب تولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام»، وهكذا فالأكاديمية هي نتاج تراكم حضاري وثقافي وانفتاح معرفي وعلمي لاستيعاب المجموعات الثقافية، وقد انعقد على أرضه مؤخراً «اللقاء المشرقي» الذي جسّد التوجّه للتلاقي والحوار والتفاهم والتعاون والعمل المشترك.
وإذا كان لبنان وطناً ورسالة، حسب البابا يوحنا بولس الثاني، فإن الرسالة تتضمّن بُعداً ثقافياً وحضارياً للحوار والتواصل والتفاعل الديني والإثني واللغوي، وأساسه المشترك الإنساني الذي يلتقي تحت سقفه البشر بغض النظر عن دينهم وعرقهم ولونهم وجنسهم ولغتهم وأصلهم الاجتماعي لتعزيز رسالة التسامح والسلام والعيش المشترك.
وهذا سيعني نبذ التعصّب وربيبه التطرّف ووليدهما العنف الذي إذا ما ضرب عشوائياً فسيصبح إرهاباً. وتلك هي البؤرة الحقيقية للعنصرية والاستعلاء وثقافة الكراهية، ولا سيّما عدم الاعتراف بالتنوّع والتعددية ورفض الآخر.
ولعل تلك الأسباب كانت وراء سعي لبنان ليكون فضاءً للتلاقي والحوار، فهو يدرك الحاجة إلى التربية على قيم السلام والعيش معاً، باحترام حرّية المعتقد والرأي والتعبير وحق الاختلاف، وعلى الرغم من السلبيات والثغرات والعيوب ومحاولات الاستقواء بالخارج أحياناً أو إملاء الإرادة لهذه القوة السياسية أو تلك، فإن هناك عوامل إيجابية موضوعياً وذاتياً، يمكن فحصها لمعرفة حيثيات المجتمع اللبناني، فهو مجتمع منفتح وتعدّدي ومتنوّع تعيش فيه أديان وطوائف مختلفة ويختزن هذا البلد حضارات وثقافات متنوّعة عاشت على أرضه.
وينتظر أن تتحوّل فكرة الأكاديمية إلى واقع، بموافقة 10 دول «مؤسِّسة»، وستشكل هذه الدول مجلس أمناء مع لبنان الذي سيضع هيكلية الأكاديمية، وحتى الآن أبدت 4 دول موافقتها لتكون من الدول المؤسسة، عربية وآسيوية وأوروبية. وستتخذ الأكاديمية طابعاً تعليمياً جامعياً دولياً، وستكون فرصة انفتاح حقيقي بين أتباع الحضارات والديانات والثقافات المختلفة والتعرّف إلى الآخر، وينتظر أن توقع الدول عليها وأن تدخل حيّز التنفيذ قبل حفل الاحتفال بالذكرى ال 75 لتأسيس الأمم المتحدة (أيلول / سبتمبر 2020) وسيكون الانضمام إليها مفتوحاً، فالعالم أحوج ما يكون إلى نبذ خطاب الكراهية والحقد والثأر والانتقام ومحاولات فرض الاستتباع والهيمنة مثلما هو بحاجة إلى تأكيد احترام حقوق الإنسان وحق الشعوب في التنمية وتقرير المصير.
وتأتي أهمية انطلاق المبادرة من لبنان، لأنه خبر الحروب والنزاعات، فمشاعر المحبة والتلاقي التي جسدتها المرأة لدرء الانزلاق إلى حافة العنف في عين الرمانة – الشياح عند خطوط التماس التي اندلعت منها الحرب الأهلية تمثل لبنان في وجهه الآخر.
[email protected]
نشرت في صحيفة الخليج (الإماراتية) الاربعاء 4/12/2019