23 نوفمبر، 2024 11:16 ص
Search
Close this search box.

لا يشاركون في الانتخابات، قبل أن تتوفر بيئة مناسبة: عبارة متناقضة من الناحية المنطقية

لا يشاركون في الانتخابات، قبل أن تتوفر بيئة مناسبة: عبارة متناقضة من الناحية المنطقية

تذكرنا هذه العبارة، بالمغالطة المعروفة: “أنا لا أنزل إلى الماء قبل أن أتعلم السباحة”، التي تتضمن تناقضاً منطقياً بين شكلها ومضمونها، لأنها تمثل حجة صحيحة شكلاً، لكنها باطلة مضموناً، بمعنى تجاهل المضمون لصالح الشكل، باستخدام شتى الأساليب والسبل بهدف التضليل وإثبات موضوعاً يتعذر تحقيقه عملياً، لأغراض وغايات عديدة منها، جلب الشهرة، والتعويض عن ضعف وعجز الذين يؤمنون بمثل هذه العبارة، وبهدف أيضاً اقناع أنفسهم أن لهم قيمة وتأثير في المجتمع.
إذن المطالبة بتوفير منظومة انتخابية حرة ونزيهة، وبيئة سياسية آمنة تضمن حرية التعبير وتضع حداً للسلاح المنفلت، والكشف عن قتلة المتظاهرين، ومحاسبة رؤوس الفساد، وتطبيق قانون الأحزاب، ومحاسبة من يستخدم المال السياسي، وغيرها، كلها مطالب مشروعة، صحيحة، لكن السؤال مَن هي الجهة التي تستطيع تنفيذ هذه المطالب الكبيرة؟ بالتأكيد هم يقصدون الحكومة الحالية (التي يطلق عليها ذلك المثقف “الطغمة الحاكمة”!!) وهي غير قادرة حسب رأيهم، لهذا لم يشاركوا في الانتخابات. إذن حسب هذا المنطق لابد من حكومة أخرى جديدة تقوم بذلك، ولكن كيف تأتي حكومة أخرى؟

*باحث وأكاديمي عراقي
أنه من الطبيعي تأتي عن طريق الانتخابات أي الاحتكام إلى الإرادة الشعبية برغم كل السلبيات والنواقص التي قد ترافقها، لأنها السبيل الأمثل في ظل نظام غير استبدادي، يسير في بدايات تطبيقه للديمقراطية. أما البكاء والشكوى المسبقة، والدعوة لمقاطعة الانتخابات، لأنها ستعيد انتاج المنظومة السياسية نفسها، كما ستعطي شرعية للفساد والتزوير، فهل هذا يعني أنه من الأفضل إبعاد تلك القوى التي تطالب بالتغيير، مقابل صعود قوى أخرى تقرر وتشرّع قوانين بدلاً عنها. كل ذلك يُعد اعترافاً ضمنياً بضعف قوى التغيير وعجزها وعدم امتلاكها قاعدة جماهيرية واسعة تؤهلها للفوز بمقاعد في مجلس النواب. أضف إلى ذلك متى كانت الأوضاع الأمنية مستقرة بصورة كاملة بعد عام 2003. كما أنهم يتكلمون عن السلاح المنفلت، ولا يتكلمون عن السلاح بيد الإرهابيين، ولا يتكلمون عن مؤثرات وجود القوات الأمريكية والتركية في العراق، أم أن هذه ليس لها علاقة بتوفير بيئة آمنة!
فضلاً عن ذلك ألَم يشاركوا سابقاً في الانتخابات في ظل ظروف أسوأ مما هو حاصل الآن. ثم ألم يشاركوا في بعض الحكومات السابقة، أم أن الحكومات السابقة لم تكن قائمة على المحاصصة والتقسيم الطائفي، وأن الحكومة الحالية هي التي تمثل ذلك فقط.

قواعد عامــة
1. إن كل دعوة بالانسحاب أو المقاطعة هو منهج غير سليم يدل على أن أولئك المقاطعين غير واثقين من قدراتهم في استثمار الجماهير لصالحهم في مواجهة الأطراف الأخرى.
2. إن أي بديل عن الانتخابات، من أجل التغيير، هو أمر غير معروف العواقب، قد يكون الفوضى أو نحوها.
3. لا نتوقع أن بإمكان القوى المقاطعة افشال الانتخابات (إلا إذا حدثت أمور أخرى غير المقاطعة)، أياً كانت نسبة المشاركة. لأن هذه المقاطعة لم تشمل جغرافية العراق كاملاً، إذ أن هناك قوى لم تقاطع في شمال العراق وغربه.
4. إن المتضرر من مقاطعة الانتخابات هم تلك الفئات التي تسعى إلى التغيير وإصلاح المجتمع.
5. إنه في الأنظمة الديمقراطية، ليس كل من يشارك في الانتخابات ويحصل على تمثيل سياسي في مجلس النواب، يكون مسؤولاً عن فشل الحكومة في تحقيق الإنجازات والمشاريع التي تخدم المجتمع، بسبب أن هناك حرية تكوين معارضة داخل مجلس النواب، وهي بالطبع تكون أقلية، وعليه لا تتحمل مسؤولية الإخفاقات ونحوها. لذلك نحن نستغرب من أولئك السياسيين الذين استقالوا من مجلس النواب لهذه الأسباب، وعلى كل حال فهو موقف خاطئ.
6. إن مشاركة قوى التغيير والإصلاح، والفوز بمقاعد في مجلس النواب، هو العامل الحاسم في تحسين نوعية أعضاء هذا المجلس وعددهم، وليس مقاطعة الانتخابات.

الآثار السلبية المترتبة عن مقاطعة الانتخابات
هناك آثار سلبية عديدة ناتجة عن مقاطعة الانتخابات، نذكر منها:
1. تخلّي الأطراف المقاطعة عن حقها، طواعيةً، في إرسال من يمثلها إلى مجلس النواب، وبذلك تصبح فئة مهمشة، غير فاعلة في النشاط السياسي وغائبة عن المشاركة في صنع القرار الذي يهم مصير المجتمع، بمعنى بلا تأثير فعال على مسار الدولة وقراراتها.
2. قبول الأطراف المقاطعة، أن يقرر عنها آخرون، وبذلك سيخسرون قدرتهم في إصلاح مؤسسات الدولة من الداخل، وسيظلون يصارعون الأطراف الحاكمة، من خارج مجلس النواب، الذي هو المكان الطبيعي للقدرة على التغيير والإصلاح، وبهذه الحالة تتحول هذه الأطراف، أو ذاك الحزب، كما يقول ماثيو فرانكل (Matthew Frankle) إلى معارضة صوتية معتمداً على رهان غضب الجماهير أو على فشل الحكومة.
3. بث اليأس والإحباط في نفوس المجتمع، وهدم الثقة في النفس، وفقدان الأمل في إصلاح الوضع السياسي، لأن تلك القوى لم تنجز شيء لصالح الجماهير، كما يقول سقراط: “الذين فشلوا في انجاز شيء في حياتهم، يحاولون دائماً إحباط الآخرين”.
4. إن من نتائج مقاطعة الانتخابات، هي النسبة المتدنية للتصويت، هذا إذا أضفنا إليها عزوف عدداً كبيراً عن الاشتراك في الانتخابات لأسباب أخرى، كل ذلك ستكون حظوظ القوى السياسية المشاركة، كبيرة في الحصول على مقاعد في مجلس النواب. والنتيجة سيكون هناك مجلس نواب جديد يشبه إلى حد ما المجلس السابق.
5. إهدار فرصة ثمينة لانتشار قوى التغيير والدعاية لرؤيتها وبرامجها الانتخابية، وفي أسوأ الظروف إن لم تحقق نتائج إيجابية في انتخابات مجلس النواب، فستحصل على قاعدة شعبية جديدة تدعمها في الانتخابات القادمة، سواء لمجالس المحافظات أم لمجلس النواب.

استنتاجات
1. من المؤسف والمؤلم، أن نجد بعض القوى التي تختار مقاطعة الانتخابات، تحاول إساءة سمعة العملية الانتخابية، ذلك بإرباك هذه العملية أو افشالها أو الطعن بشرعيتها، فضلاً عن التشكيك بنزاهة مفوضية الانتخابات، باستخدام مختلف الحجج والتبريرات، والبحث عن الأخطاء أو السلبيات، التي لا تخلو منها أي عملية انتخابية جديدة، في بلدان العالم الثالث.
2. إن الجهود والوقت الذي تبذله الأطراف التي تبرر فيه مقاطعتها للانتخابات، كان الأجدى والأصح والأمثل أن تبذله في توعية الجماهير، من أجل أن يختاروا بشكل حقيقي من يمثلهم، وقطع الطريق على الفاسدين والمقصرين والذين يتغيبوا عن الجلسات، في الوصول إلى مجلس النواب.
3. إن مقاطعة الانتخابات، تعني خسارة الأطراف المقاطعة، اكتساب خبرة وتجربة ورؤية في ممارسة العمل النيابي، فضلاً عن دورها السلبي في تقليل مشاركة الجماهير في الحياة السياسية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن المشاركة في الانتخابات ستساعد في إدخال فئات جديدة من الجماهير وستعلمهم وتشد من أزرهم وتولّد قيادات جديدة أيضاً.
4. إن الاحتجاجات القائمة على واقع الخدمات والفقر والحرمان ونحوها من السلبيات، لا تغير منها المقاطعة شيئاً، إنما العكس، سوف تخدم الفاسدين الذين سيكونون قادرين على حشد مزيد من الأتباع بأشكال وطرق مختلفة.
5. إن المشاركة في الانتخابات تُعد ضرورة مُلحّة، من أجل ترسيخ قاعدة أساسية، وسن سنّة حسنة، هي أن السلطة والحكم مصدرها الشعب ونتائج صناديق الانتخابات، في النظام الذي ينشد الديمقراطية، هي أفضل وسيلة يمكن للشعوب أن تستخدمها لنيل حقوقها، وإذا كان هناك نقصاً أو تقصيراً أو سلبيات فيمكن إصلاحها تدريجياً.
6. لو افترضنا أن هناك بيئة غير آمنة، وهناك تزوير، وغيرها من الدعاوي التي يتذرع بها المقاطعون، فإن على الأطراف المُقاطعة بهذه الحالة، أن تستغل أي ثغرة أو فجوة بقانون الانتخابات، بشكل مبدع، للتعامل مع المشكلات والصعوبات من أجل المشاركة في الانتخابات، بكل ما يرافق ذلك من أوجاع وآلام، وليس الهروب من المسؤولية، لأن الأحزاب السياسية في البلدان الديمقراطية تتصارع في سبيل إيصال ممثليها، حتى لو تضاءلت حصتها من الأصوات، إلى مجلس النواب، لذلك نجدها ترفض فكرة المقاطعة مهما كانت الدوافع أو العوائق.
7. إن مقاطعة الانتخابات، ليست هي أحد أساليب العمل السلمي، على طريق التغيير الرامي إلى إقامة دولة مدنية ديمقراطية.
8. إن الخطة البديلة لمقاطعة الانتخابات التي تطرحها الأطراف المقاطعة، هي بديل نظري، غير واقعي، غير قابل للتنفيذ.

وأخيراً، نحن لا نبغي في هذا المقال أن ننتقص من قدر أحد، بقدر ما هو دعوة للتفكير العملي، الذي يهدف إلى توحيد الصفوف من أجل البناء وغرس الأمل في نفوس المجتمع، والتعامل مع المشكلات بمنطق “الدولة”، لا بمنطق العواطف أو التخيلات أو الأحكام المسبقة. فمن حق الأطراف السياسية أن يكون لها رأي تدافع عنه وتعتقد فيه، لكن ليس من حقها أن تسميه “الحقيقة”. ومقاطعة الانتخابات، تعني هدر آلاف الأصوات، التي يمكن الاستفادة منها في عملية التغيير، وإدخال أعضاء جدد نزيهين، إلى مجلس النواب.

ولمزيد من الشرح عن موضوع المقاطعة يمكن الرجوع إلى مقال:
Threaten But Participate: Why Election Boycotts are A Bad Idea.
لمؤلفه: Matthew Frankle من معهد Brookings في واشنطن، عام 2010. وفرانكل هذا مهتم بالشؤون العراقية، إذ يشرح في هذا المقال أوضاع الانتخابات بعد 2003، كما قام بدراسة واسعة إلى 171 حالة مقاطعة أو تهديد بمقاطعة الانتخابات في عدد كبير من البلدان للفترة من 1990 حتى 2009، واستنتج أن المقاطعة تنتهي دائماً بالفشل.

أحدث المقالات

أحدث المقالات